أمد/
أتأمل دبلوماسية عشتها وتفاعلت معها على امتداد أربعين عاماً، لها طباع تعبر عن هوية وطنية، دافئة الروح في تأسيسها، وفي رأسها الأخضر هموم العرب، وقضايا الأخوة الإنسانية، لا تشاكس أحداً، لا تحب القهر ولا العنف ولا الصخب، ولا من يسرق الحياة.
عرفتها وهي تتلألأ كالنجوم، تضيء مواقدها في أعالي الجبال، وخلف آفاق البحار، لتهدي العابرين والتائهين، وترى في الآخر «كلهم أرواح بشرية»، كما قالها ذات يوم في منتصف تسعينات القرن الماضي، شيخنا الحكيم، المفعم بالخير العام، أثناء وجوده في جنيف، بلد «الصليب الأحمر الدولي»، ويقدم من خلاله الدواء للجرحى في حرب البوسنة للمعتدى عليه، وللمعتدي في آن، نعم.. «كلهم أرواح بشرية».
قرأتها بتمعن عميق، منذ نشأتها، وفي شبابها وتطورها بعد سن الرشد، من قصة «ملك نصراني هو النجاشي، لا يُظلم عنده أحد»، مروراً بحلف الفضول ودستور المدينة والبيعة العمرية، وحكاية دبلوماسية تراثية تقول: «ولو أن بيني وبين الناس شعرة، ما انقطعت، كانوا إذا شدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها شددتها»، ومروراً بدبلوماسية شارلمان وهارون الرشيد، وصولاً إلى حكايات القسطنطينية، وعظمة دبلوماسية الأندلس.
تأملت فيها منذ اشتقاقها من كلمة Diploma اللاتينية وتابعت بالبحث تطورها وقوانينها ووظائفها: من «تمثيل وتوطيد علاقات، وتفاوض، وحماية للمصالح الوطنية، ورعاية للمواطنين في الخارج، وصولاً إلى «التقرير» الدقيق عن الحال والأحوال واستشراف الغد». ومررت بميكيافلي وكتابه «الأمير»، والمؤرخ والدبلوماسي البريطاني الشهير هارولد نيكولسن وكتابه الموسوعي عن الدبلوماسية الذي صدر في نهاية الثلاثينات في القرن الماضي، وصولاً إلى كيسنجر، ودبلوماسيين محترفين عرب كبار، معاصرين.
كانت لأحلام الدبلوماسية شُرفات، لا نتردد بفتح نوافذها للمدى، وكانت للأحلام وللطموحات راياتها، وما زالت رائحة حضور روَّادها تملأ الذاكرة والمكان، وعلى آثارهم تزهر البشائر وتُشد العزائم.
مارسنا الدبلوماسية الثقافية بكوادرنا الوطنية، رغم قلة عددها، لكن شغف العمل وسمو الخدمة كانا حافزين للتجويد والتأثير واكتساب الخبرة، وفتح الباب أمام مسارات للتواصل الحضاري، وكقوة دفع للدبلوماسية التقليدية، مساندة ومكملة.
كانت دبلوماسية التأسيس سباقة عند انطلاق الحوار العربي الأوروبي، إثر حرب أكتوبر 1973، وكانت مثمرة ومؤثرة في الحوار العربي الإفريقي في أواسط السبعينات، واكتسبت خبرة جيدة عند انطلاق الحوار بين الثقافات، وإنشاء التحالف بين الحضارات، تحت مظلة الأمم المتحدة، في مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.
نتذكر قراءاتنا لجوزيف ناي صاحب مصطلح «القوة الناعمة».. وتعمقت نظرتنا إلى الثقافة، كواحد من محددات السياسة الخارجية لأي بلد، وعنصر مهم في تركيبة القوة الناعمة وأدواتها.
تعلمنا ومارسنا التجربة العملية في زمن لم يكن فيه للشركات الاستشارية والعلاقات العامة دور ولا سوق، وعرفنا معنى أن تكون دبلوماسياً في ظروف العسر واليسر، والسلامة والخطر، وأن نعي جيداً جوهر الهوية الوطنية، ونتفهم هويات الآخرين، وندرك ثقافاتهم وتاريخ العلاقات الدولية، وتطورها في مرحلة ما بعد معاهدة «وستفاليا» في عام 1648.
تفتح نوافذ الذاكرة، فتحضر أماكن ومؤتمرات وأكاديميات وحوارات، ووجوه عربية وأجنبية، تتأمل دبلوماسية مدينة «البندقية» والتي اتخذت الأسد شعاراً لها، وهو الرمز الذي يشير إلى القديس مرقص أحد أصحاب الأناجيل الأربعة، بعد أن نقلت دبلوماسية البندقية وبحَّارتها رفات القديس من الإسكندرية إلى مدينتهم.
كما تحضر من الذاكرة الأكاديمية الدبلوماسية في فيينا، كأقدم مدرسة لتعليم الدبلوماسية في العالم، وتتذكر قراءتك لكتاب «رحلة بن فضلان» وأنت في طريقك إلى قازان للمشاركة في حوار دبلوماسي ثقافي دولي، وتحضر صور لحضارة الإنكا وشعوب الإنديز، في بيرو، أثناء اجتماعات لمديري المعاهد الدبلوماسية الدولية، وأخرى في جزيرة سنغالية هي جورية، التي كانت آخر معبر للرقيق قبل نقلهم إلى الأمريكتين. تتذكر اجتماعات صعبة في حواراتها السياسية والثقافية، في نيامي بالنيجر وكيب تاون ونيروبي، وأخرى تتمازج فيها سيرة ميكيافلي، وأساليب «شركة الهند الشرقية»، و«شركة هولندا الشرقية» في بون وباريس ولوكسمبرج، وضواحي لندن، ولشبونة، وحوار الأديان الشهير في مدريد، برعاية ملكي السعودية وإسبانيا في ذلك الوقت، وأخرى أكثر انفتاحاً ومرونة في واشنطن ونيويورك وكوبنهاجن وطوكيو وكوالالمبور ومدينة أسترالية وأثينا وباكو وإسطنبول.
أتأمل حكايات دبلوماسية عن الصورة النمطية للعربي في الغرب، في تلك الأزمنة قبل نحو أربعة عقود، ويحضر من الذاكرة مشهد أول احتفال باليوم الوطني للإمارات أشارك فيه بعد وصولي إلى واشنطن حينما فوجئت بسيدة أمريكية، تبدو وكأنها «بارونة» قادمة من التاريخ بخواتمها وحليها وأناقتها الرزينة، تباغتني بسؤال غير متوقع: هل صحيح أن الرجل في بلادكم يتزوج بأربع نساء؟
وكان الحشد المشارك في الاحتفال كبيراً، وطاقم السفارة منشغلاً في الاستقبال والترحيب والتعارف، والوقت لا يسمح بالسرد والتفسير.
ابتسمت في وجهها، وتذكرت أن المناسبة هي دبلوماسية بامتياز، فقلت لها: «نعم يا سيدتي.. هذا صحيح لأننا مضطرون إلى ذلك، فالرجل منا لا يجد امرأة واحدة مثلك، يجتمع فيها الجمال والثقافة والذكاء والثراء معاً، مما يضطر للزواج بأربع نساء».
ابتسمت ابتسامة غامضة، وانخرطت في حديث آخر مع أحد الضيوف، وتابعتها وهي تغادر الحفل بهزة من رأسي، محيياً وشاكراً حضورها.