أمد/
أدت صيرورة التقدم في عالمنا المعاصر إلى بروز العقلانية، وتراجع أو حتى اختفاء الكثير من الخرافات في عدد من التراثيات البشرية، ومن بينها على سبيل المثال، خرافة «طاقية الإخفاء» والشعوذة والسحر «الأسود» الذي ساد تراثيات اسكندنافية. ونشر الملك الاسكتلندي جيمس الرابع في أواخر القرن السادس عشر وثيقة حول السحر، وكيفية إبطال أفعاله الشريرة، ويذكر التاريخ أن بابا الفاتيكان، غريغوريوس السادس عشر، في القرن 19 حرَّم بناء خطوط السكك الحديدية، ووصف الطرق السريعة بأنها تؤدي إلى جهنم، وعارض إنارة الشوارع.
لكن هذا التقدم، بما فيه من ثورات صناعية وتكنولوجية متلاحقة، أنتج فلسفات ونزعات مادية غيَّبت الشعور المعنوي الإنساني، بالجمال وبالعدل وهدأة البال، كما غيَّبت الرؤية الروحية الشفافة للوجود، وحضرت برودة في العلاقات مع الآخرين، وهيمنت أنساق ثقافية تُؤَلِّه قيم السوق والثروة والسلطة، وخَلَقت مجتمع الاستهلاك الشره، ومجتمع الفُرجة الافتراضي الذي يقدم عوالم خيالية، كما أدت هذه النزعات المادية والتنافس السلبي لتوزيع غير متكافئ لمكاسب التعاون بين البشر والمجتمعات، إلى زيادة منسوب الفقر وعرقلة النمو في بلدان العالم الثالث، ونشوء حلقة مفرغة من «التفكير الصفري»، مما فاقم الصراعات الجيوسياسية وقوَّض الأمن والسلم والبيئة والرخاء المشترك في العالم.
وفي مثل هذه التغيرات وفي ظلها، تفلَّتت العولمة من أي عقال، وتركزت الثروة في أيدي الأقلية التي تزداد ثراءً وشرهاً عاماً بعد عام، حتى وصل الوضع إلى أن يعيش نصف سكان العالم على أقل من خمسة دولارات في اليوم، وأصبحت ثروة 26 شخصاً فقط من أكثر الأثرياء ثراءً، تعادل ثروة 3.8 مليار من سكان العالم مجتمعين. وكلما اتسعت الهُوة بين الأغنياء والفقراء، تفاقمت شدة التأزم والإحساس بالظلم والاحتقان الاجتماعي والشقاء والبؤس وانتشار الكراهية والعنف والقلق والمفاسد.
يبدو العالم في ظل هذه النزعات المادية المفرطة، وبأنساقها الثقافية، مسطحاً يفتقد إلى العدالة، التي هي أم القيم والفضائل، وحيث لا تنمو الحرية في واقع إنساني بعيد عن مقتضيات العدالة ومتطلباتها.
وفي عالم الأتمتة الفائقة، حيث صار الإنسان المعاصر مجرد حلقات في سلاسل مالية واستهلاكية وصراعية، تحضر إلى الذاكرة رواية «1984» التي ألَّفها جورج أورويل ونشرها قبل نحو 75 عاماً، ورسم فيها ملامح مخيفة وقاتمة للحياة في المستقبل وفق توقعاته وتخيله.
وتدور أحداثها المتخيلة حول آليات عمل الأنظمة الديكتاتورية والتسلطية، حيث تختفي الحرية والحقائق والرحمة والعدالة، وتشتد الرقابة والتزوير والخوف، ومن أبرز شخصيات هذه الرواية شخصية «الأخ الأكبر» الذي يسيطر على المجتمع، ويأتمر الجميع، حزباً وشعباً، بأوامره، ووضع شاشات وكاميرات مراقبة في كل منزل وشارع ومتجر ومكتب، وكانت لديه أربع وزارات أو دوائر، فوزارة الحقيقة مسؤولة عن تزوير التاريخ والأخبار والإعلام، ووزارة السلام كانت متخصصة في شن الحروب الهمجية، ووزارة الغرام أو الحب مسؤولة عن إرهاب الناس، وتحويلهم إلى جواسيس بعضهم على بعض، وبث العداوة بينهم، وإثارة دائمة للرأي العام من خلال الشائعات وطمس الحقيقة، وبث الأفكار المضللة.
وفي الرواية عالم مخيف يعامل فيه البشر كقطيع من الأغنام، ويساقون إلى مصير مجهول.
وفي ظل هذا الوضع، يتخلَّق إنسان بلا أحلام أو حقوق أو رأي، وتعمُّ ثقافة اليأس والعجز عن التغيير والتطوير، ويسود القلق، وتموت روح الإنسان أو تذبل، ويتوقف ذلك الجريان المتدفق بالمشاعر الإنسانية بين البشر.
ويبدو أن حقيقة «الأخ الأكبر» في رواية «1984» قد باتت واقعية في عصر ثورة الاتصال والمعلومات، وتطبيقاتها المستجدة والجارفة، وبما تحمله من مفاجآت غير مسبوقة، وأصبح الخطر الذي يهدد حرية التعبير والرؤية النقدية واستقلال الرأي، لا يأتي فقط من ازدياد قوة الدولة المتسلطة، كما يظهر في الرواية المذكورة، بل قد يأتي أيضاً من سطوة نفوذ الشركات الكبرى العابرة للقارات والفضاءات والأفكار.
وها هو الهاتف المحمول، و«غوغل» و«فيسبوك» وأمثالها، فضلاً عن أنظمة التجسس والاختراق المختلفة، للمواقع الإلكترونية والحاسوب الآلي، وللبنى التحتية، وللأفراد والجماعات والمركبات، والشركات والنظم، إضافة إلى «إخوة كبار» يعرفون عن البشر أكثر مما تختزنه ذاكرتهم وأجنداتهم، يراقبونهم في الحل والترحال، ويوجهون خياراتهم.
قال صديقي، وهو يهاتفني: إنه قرر قضاء إجازة الصيف القادم في جزيرة تخلو من الإنترنت والهاتف وشاشات التلفزة، وما شابه ذلك من تقانه.
قلت له: هذا ما فعله جورج أورويل حينما كتب روايته قبل 75 عاماً في جزيرة جورا الاسكتلندية والنائية، وروي عنه قوله: «السياسيون في العالم كالقرود في الغابة، إذا تشاجروا أفسدوا الزرع، وإذا تصالحوا أكلوا المحصول».
كما روي عنه، قوله: «إن ما يتم التعتيم عليه، هو في الغالب أعمق وأكثر أهمية مما يقال».