أمد/
ماذا سيقول العالم لو عاد إلى البيت الأبيض تاجر العقارات وصاحب السيرة المسمومة، المفعمة بالعنصرية والفظاظة والابتذال الأخلاقى؟ كيف ستتعامل معه، أغلبية الشعب الأمريكى، وهو الذى صعد إلى المسرح الرئاسى على إيقاع أزمات العولمة، وتوحش الليبرالية، وسياسات لا أخلاقية تجاه الملونين من سود و«هيسبانك» وأشخاص مهاجرين وفقراء وعرب ومن يدينون بالإسلام.. ومواقف ابتزازية حتى لحلفائه الأوروبيين وفى أقاليم أخرى؟
ماذا لو عاد ترامب إلى موقع الرئاسة فى البيت الأبيض، فى مرحلة يعيش فيها العالم أزمات خانقة، وحروبا ملتهبة، وأخرى تحت الرماد، ومنافسات شرسة فى الاقتصاد والتقانة والفضاء والمناطق القطبية.. وترتفع فيها الجدر محل الجسور، وتشيع الخنادق والأنانية والكراهية، وتختل القواعد الدولية المشتركة وقيم القانون الدولى، كما يشهد العالم صعودا قويا للشعبوية، وتصدعات فى النظام المالى العالمى، ويواجه عمران الغرب، بشكل عام، مآزق بنيوية، خاصة فى ظل توجهات لصناعة النخب السياسية، من بيئات قطاع المال والأعمال، وتعيش منظوماته السياسية والاجتماعية فى مرحلة نزف معنوى وأخلاقى، وازدواجية فى المعايير صارخة، إن كانت فى إفريقيا أو فى أقاليم أخرى؟
وفى ظل هذه المناخات، ورغم رغبة أغلبية الأمة الأمريكية بالخلاص من بايدن وترامب معا، فإن الأوفر حظا ليصبح مرشحا للحزب الجمهورى، والمتهم بجرائم محلية وفيدرالية، هو ترامب.. والمستعد لإعادة نصب مسرح اللامعقول فى بيئة العلاقات الدولية، ومواصلة التحالف مع أصحاب خطابات الكراهية والعنصرية، والتأويلات اللاهوتية الإنجيلية المبشرة بمعركة «أرماجدون» الخرافية.
لا شىء يدعو للتفاؤل وسط مناخات الكآبة والقلق التى تحاصر شعوبا وأقاليم كثيرة، فى ظل تصاعد منسوب العنف العسكرى، والتسلح و«اختلال العالم» على حد تعبير أمين معلوف.. وشلل المؤسسات الدولية، وعجزها عن وقف انزلاق النزاعات قبل تحولها إلى حروب تلد حروبا. حضرت من الذاكرة صورة شخصية تاريخية بريطانية من أصول ألمانية، من عائلة تميزت بالغموض والسرية، وعاشت فى قلب الأحداث السياسية والمالية على مدى القرنين الماضيين، ورسمت روابطها مع كل من كان على قمة المجتمع الأوروبى، وأدارت مؤسساتها البنكية والاستثمارية منذ القرن الثامن عشر. والتر روتشيلد المصرفى البريطانى والمولود فى 1868، وكان والده أول شخص يهودى فى تاريخ بريطانيا يحصل على لقب «لورد». وقد التقى والتر روتشيلد مع زعيم الحركة الصهيونى العلمانى وايزمان، وكان متحمسا لأهداف هذه الحركة السياسية، ما دفعه إلى التقدم بصياغة مسودة بيان يصدره آرثر جيمس بلفور، وزير الخارجية البريطانى، يعكس وجهة نظر الحركة الصهيونية حول فلسطين ووافقت عليه حكومة لويد جورج فى أواخر أكتوبر 1917، وأرسله فى رسالة إلى روتشيلد.
كانت بريطانيا وقتها تعتقد أن هذا الإعلان/الوعد سيساعد على حشد الرأى العام اليهودى، فى أمريكا وروسيا، للإبقاء على هاتين الدولتين إلى جانب الحلفاء فى الحرب العالمية الأولى، وكانت أيضا السيطرة على فلسطين هى مصلحة استراتيجية لبريطانيا، ولإبقاء مصر وقناة السويس ضمن دائرة النفوذ البريطانى. لكن الوثائق التاريخية المعنية بتلك المرحلة تشير إلى أن الحركة الصهيونية السياسية لم تكن فى ذلك الوقت ذات أثر كبير على يهود روسيا أو أمريكا، وكانت «أطروحات شعب الله المختار وحقه فى أرض الميعاد، وتحقيق النبوءة بتجميع اليهود فى فلسطين، من أبرز معتقدات بلفور التوراتية التى ورثها فى طفولته وتربى عليها فى نشأته فى إحدى الكنائس الإنجيلية الاسكتلندية»، وفقا لما ذكرته ابنة أخته ومؤرخة حياته بلانش دوغاديل وأكده القس الأمريكى الشهير دونالد واجنر.
صورة والتر روتشيلد التى حضرت من الذاكرة، ترافقت مع صورة ترامب، وهو يتبنى «صفقة القرن» قبل سنوات، ويعترف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وبالجولان السورية المحتلة، جزءا من إسرائيل. كلاهما ازدرى حقائق التاريخ والجغرافيا، وأسهم فى زراعة كوابيس وحروب وكراهية، ولم يأبه بقدسية العدالة والحياة. والتر روتشيلد كان مولعا بالحيوانات، وجمع عشرات الآلاف من الطيور والزواحف والفراشات والحيوانات النادرة، وباعها فى ثلاثينيات القرن الماضى لأحد المتاحف الأمريكية. وبلغ هوسه بالحيوانات لدرجة أنه كان يشاهد فى شوارع لندن وهو يركب عربة يجرها حمار وحشى، أو يمتطى سلحفاة عملاقة أمام منزله. أما ترامب المخادع، والوصى المطلق على سلطة الأسلحة النووية، فهو يركب رأسه لا يثنيه شىء عما يريد أو يهوى.
فى أزمنة الابتذال، تحضر الفوضى والتفاهة فى الساحة العالمية.