أمد/
صاحب روح مرحة، وابتسامة دائمة، عزوفاً عن السلطة، نابذاً للصراعات، حريصاً على السلم بين الناس.
من العاملين في الحقل الوطني اليمني منذ منتصف الخمسينات، وتولى وزارة الخارجية عدة مرات، وكذلك منصب رئاسة الوزراء، وعمل سفيراً في الأمم المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا وألمانيا وغيرها.
روى قصته مع بناء الدولة الحديثة في اليمن في كتاب بعنوان «خمسون عاماً في الرمال المتحركة». تفاعل مع أحداثها وتحولاتها وانقلاباتها العسكرية وحروبها الأهلية، منذ عهد الإمامة، والتقى رموزاً وقادة عرباً وأجانب في حوارات ومفاوضات وتسويات في عقود الستينات والسبعينات والثمانينات، وترافقنا لعدة دورات في مجلس أمناء منتدى الفكر العربي بعمان، الذي أسسه وترأسه الأمير الحسن منذ أوائل الثمانينات.
يقول في مذكراته إن الله أكرمه، فحماه من الاعتقال والسجن والتعذيب والامتهان، ويعتز كثيراً بيمنيته، ويروي الكثير من النوادر والمفارقات السياسية، وتقلبات الساسة، وسهولة تغيير المواقف ونقل «البندقية» من الكتف اليمنى إلى الكتف اليسرى وبالعكس. ويذكر أن كثيرين ممن يترددون على «مجالس القات» كانوا يستمتعون بأشعار الزبيري ونثر النعمان، المعارضين لحكم الإمامة، ويقولون أثناء مضغ القات «لو أنهم فقط يبعثون لنا أيضاً ثمن القات، حتى تكتمل سعادتنا في هذه الجلسات»، وهو الذي اتخذ قراراً حينما كان رئيساً للوزراء في مطلع السبعينات بمنع زراعته فسقطت وزارته بعد عدة شهور.
درس في المدرسة الابتدائية الوحيدة في صنعاء، التي أنشأها الإمام يحيى في ثلاثينات القرن الماضي لإيواء الأيتام، وشاهد بعينيه وهو شاب تشييع المئات من ضحايا الجوع والأمراض والجفاف.
كما واصل دراسته الثانوية وما بعدها في صيدا،والقاهرة، وباريس، وعاش رفقة طلبة يمنيين في الحي اللاتيني.
انضم إلى حزب البعث حينما كان في القاهرة، لكنه انفصل عنه حينما عُيِّن وزيراً للخارجية اليمنية في أول حكومة للثورة اليمنية في سبتمبر/أيلول 1962، لكن، بعد ثلاثة شهور، تغير الأمر، وعين سفيراً لليمن في الأمم المتحدة.
في لقاء له كوزير خارجية، ضمن وفد يمني كبير مع الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، في مايو/ أيار 1965، قال عبد الناصر للوفد: «مصر ليست لها أي مصلحة في البقاء في اليمن، وهناك من يتحدث عن استعمار مصري لليمن».
وأضاف عبد الناصر قائلاً: «هوَّ في حد رضي يستعمركم!!»، وبعد هذا اللقاء بثلاثة أشهر، وقع عبد الناصر مع الملك فيصل اتفاقية جدة.
وفي اجتماع له، كوزير خارجية لليمن، مع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، وكان وقتها رئيساً لمجلس الشعب، والمسؤول عن الملف اليمني إثر ثورة 1962، قال له السادات: «إن مصر في صدد إرسال قوة الصاعقة إلى اليمن، لمساعدة الجمهوريين في حربهم ضد الملكيين، وإن مصر تدرب أفراد الصاعقة على أكل الثعابين، ولا أحد يستطيع الوقوف أمامهم». وكان رد صديقنا اليمني محسن العيني: «يا سيادة الرئيس، إنكم ستواجهون قبائل شرسة، هي جزء من الصخر، ومن الجبل، قبائل في بعض المناطق يأكلون الثعابين كفاكهة».
لم يصدر صاحبنا، طوال توليه مناصبه الحكومية، أمراً واحداً باعتقال إنسان، وظل عمله السياسي ينصب في اتجاه المصالحات والوحدة الوطنية، شمالاً وجنوباً، وكان دوماً ضد الحرب والعنف.
في يناير/كانون الثاني 1978 نقلت إلى محسن العيني، الذي كان يقيم في القاهرة، دعوة من وزارة خارجية الإمارات لإلقاء محاضرة حول الوحدة العربية، في الندوة الدبلوماسية في أبوظبي يوم 19مارس/آذار.
وفي مطار القاهرة، كنت برفقة السفير سيف الجروان في وداعه عبر صالة كبار الزوَّار، وحتى باب الطائرة ولم نكن نعلم أن تعليمات مباشرة من أشرف مروان، مستشار المعلومات والمقرب من الرئيس السادات، قد صدرت، قبل أسابيع، وبناء على رغبة من كمال أدهم، بمنع محسن العيني من مغادرة القاهرة، خاصة بعد اتخاذه موقفاً معارضاً لزيارة السادات إلى القدس في نوفمبر/تشرين الثاني 1977.
وفي الأيام التالية، علمت من أصدقاء مصريين نافذين أن الحارس والسائق المكلفين بحراسة ومتابعة حركة محسن العيني قد تم التحقيق معهما وتوقيفهما عن العمل.
يذكر العيني أنه أخبر الحارس وسائقه بأنه سيذهب مع أصدقاء له (الدكتور عبد الوهاب محمود، والعقيد درهم أبو لحوم، والعقيد حسين الموري) لتناول الغداء في نادي الجزيرة.
استحضرت مع محسن العيني، ذات يوم في واشنطن، في منتصف الثمانينات، قصة مغادرته القاهرة، واستعادته حريته في السفر والتنقل، وذكر أنه ما زال مديناً للإمارات ولفضلها عليه في تلك الحرية.
وفي أبوظبي، وبعد إلقاء محاضرته، قام بعدة زيارات إلى أم القيوين ودبي والشارقة، وتلقى مكالمة من زوجته التي كانت في زيارة إلى صنعاء، وهي ابنة الشيخ عبد الله أبو لحوم، تطلب منه سرعة المغادرة، لأن لدى أصدقائه معلوماته تشير إلى أن المقدم أحمد الغشمي، الرئيس اليمني الذي انقلب على الرئيس الحمدي وقتله، بصدد إرسال طائرة إلى القاهرة لجلبه إلى صنعاء.
وعلى الفور، قام العيني بمغادرة دبي على الطائرة البريطانية إلى لندن.
تعرض رحمه الله (توفي بالقاهرة 25 أغسطس/آب 2021) لحملات ظالمة، ويقول: «بعضها بحسن نية، وبعضها بسوء نية». ويلخص تجربته قائلاً: «رغم كل التظاهرات والانقلابات والثورات والتضحيات، فإن واقعنا اليمني والعربي سيئ، فمن المسؤول عن كل هذا؟». ويضيف: لا شك أننا جميعاً أخطأنا، وإلاَّ لما كانت هذه هي الحال».