أمد/
يختار الكاتب المجرّب أحمد رفيق عوض في رواية “الصوفي والقصر” موضوعاً إشكالياً تماماً، فضلاً عن اختياره بطلاً إشكالياً في التاريخ والثقافة الإسلامية، ولا أقصد هنا موضوعة التصوّف، بكل ما فيها من تناقض وروايات وفتاوٍ ومعارك واتهامات، فالتصوف الإسلامي لحقته شبهات ولاحقته شائعات! وأنا لا اقصد هذا، على رغم أن الكاتب اختار أن يتحرّك في هذا العالم ، وأن يكون بطله أحد أهم ركائز التصوّف الإسلامي الأربع! وأنا لا اقصد ذلك أيضاً. ما أقصده هو الموضوع الاشكالي الذي سلّط الكاتب الضوءَ الساطع عليه، وهو علاقة الحاكم بالمحكوم . تلك العلاقة المتفجّرة الدائمة والمستمرة حتى يومنا هذا، بين “القصر” كرمز للحكم ،وللجمهور بكل ما فيه من قوى وشخوص ومصالح ومطامع. وحتى لا نتعجل النقاش ، فلنبدأ منذ البداية.
الصوفي والقصر : المعرفية والجمالية؛
تنشغل الرواية باختراع تاريخٍ آخر أو مجاور أو محتمل للمتصوّف الشهير أحمد البدويّ، الذي يعتبر واحداً من أربعة آخرين، شكّلوا ركائز التصوّف السُنّي؛ وهم الرفاعي والجيلاني والدسوقي والبدوي. وقد تكون هذه الرواية – فعلاً – أول رواية عربية تنشغل درامياً ، وبهذا المستوى، بشخصية البدويّ، وهي شخصية ملتبسة جداً في التاريخ الاسلامي، إلى درجة أن هناك من أنكر وجوده أصلاً ! إذ لم يُكتب عنه ولم يؤخذ منه ،ولم يؤلِّف، ولم يُذكر في أمهات الكتب أو مصنّفات المؤرّخين الموثوقين وبسبب هذا الغموض ؛ فقد لحقت بالبدويّ أوصاف واتهامات وأقاويل كثيرة، كما اختلطت الأكاذيب بالحقائق، إلى درجة أن هناك من جعله قدّيساً ، وهناك من جعله افّاقاً صاحب أجندات سياسية مغايرة! إذن ؛ فإنّ الكاتب عوض، صاحب التجربة اللافتة في كتابة الرواية التاريخية ،يختار شخصاً ملتبساً منذ البداية ، غامضاً وهامشياً وتحيط به الأساطير والأكاذيب والحقائق.
إن اختيار شخصية إشكالية من هذا النوع ، يتطلّب استعداداً معرفياً كافياً وشاملاً ربما للكتابة عنه، وأدعي ان الكاتب عوض استعدّ لعمله الروائي ، كما استعد على المستوى المعرفي أيضاً ، فلا تكفي المعرفة هنا، بل لا بد من تمثّل هذه المعرفة وتحويلها إلى دراما روائية جاذبة وقادرة على إثارة الانتباه والوجدان والعقل أيضاً . وأحمد البدوي متصوّف من متصوفة القرن السابع الهجري، عاش في أواخر الدولة الأيوبية وشطراً لا بأس به من أوائل الدولة المملوكية ، ولهذا فقد عايش أحداثاً تاريخية متلاحقة وخطيرة ، من غزوات صليبية وهزائم واتفاقيات مهينة، مع الغازي الأجنبي، وتهديدات خارجية وداخلية، تمثّلت في التتار من الشرق والفرنجة من الغرب ،وصراعات داخلية بين الأمراء ،وانهيار دول وظهور أخرى. وقد شكّل هذا الاضطراب أرضية مناسبة للانسحاب إلى الداخل، والاكتفاء بالعزلة! ولهذا لم يكن من المستغرب أن يكون القرنان السادس والسابع الهجري زمن التصوف الاسلامي بحق، وعلى عكس ما جرى في القرنين الثالث والرابع من ظهور الاقتراحات الصوفية الكبرى بكل تجلياتها الغنوصية، فإن القرن السادس والسابع شهدا ظهور متصوفين لا يميلون الى التنظير بقدر الميل إلى التطبيق العملي والسلوكي.
والشخصية التاريخية للبدوي تبلورت على يد متصوّف متأخر،هو عبد الوهاب الشعراني ،الذي كتب عن البدوي في كتابة الشهير “الطبقات الكبرى” أو ما سمي بلوائح الأنوار في طبقات الأخيار ، وهو كتاب يصنّف فيه طبقات الصوفية.. وقد أسند إلى كثير منهم كتب عن البدوي، رأيناها في تضاعيف كتابه الشهير هذا “الطبقات الكبرى” ، وهو كتاب استعرض فيه المتصوفة حتى زمانه ،وقد أرجع إلى كثير منهم كرامات تفوق معجزات الانبياء ، كما أسبغ الشعرانيُ في كتابه هذا ،على البدوي، العديد من المبالغات والأساطير ، ما أخرجه به من صفات البشر إلى صفات أخرى! ولما حاول شيخ الأزهر عبد الحليم محمود أن ينزل البدوي على الأرض في كتابه “السيد احمد البدوي رضى الله عنه” ، لم يورد كثيراً مما أورده الشعراني، بل حاول شيخ الأزهر أن يقدّم البدوي دون مبالغات ولكنه – برأيي- لم يستطع أن يتخلّص من كمّ الأساطير المحيطة به . فالبدوي – كشخصية تاريخية – تحوّل في مصر وبلاد عربية وإسلامية أخرى إلى عَلم من أعلام الصوفية، رغم أنه لم يكتب حرفاً واحداً، ولم تلنا منه وصايا أو خطب ، بل هي جُمل متناثرة هنا وهناك ،وحكايات وكرامات وقصص تكاد لا تصدق!
وفي مدينة طنطا، بمصر العزيزة، الآن ، يجد الزائر هناك ضريح هذا المتصوف، وعليه قبّة بديعة، يحيط بها مسجد كبير باذخ البناء، ويكاد لا يفرغ المسجد من زوّاره ! وقد يتساءل المراقب ويعجب لتأثير هذا المتصوف، على رغم أنه لا يشبه غيره من المتصوّفين، فهو دون دعوة ودون مؤلفات وبدون حياة مثيرة ، بل هي أشبه بأسطورة حيكت عنه فيما بعد ،ربما! وربما كان هذا جزءاً من قصة هذا الصوفي الغامض ! وربما -أيضاً- كان هذا أحد الأسباب التي دفعت الكاتب الصديق أحمد رفيق عوض لأن يتناول حياة هذا الصوفي ليحوّلها إلى رواية قد تكون الأولى عربياً، والتي تُكتب عن البدوي. ولأن الغموض والالتباس يحيطان بهذه الشخصية، فإن الكاتب اخترع أو اجترح سيرة مُحتملة له ،ركّب عليها ما يريد من مضامين ورسائل . ولأن الرسالة لا تكون مؤثرة إن لم تكن مطهمة بالجَمال والثراء والتأثير فإن الكاتب قد استعدّ جيداً لهذه المهمة، وتجهّز تماماً من حيث استعراض الحالة السياسية لتلك الفترة التاريخية بكل ما فيها من شخوص وأحداث ولغة وتفاصيل ،كان لا بدّ منها للاقناع والنفاذ والتصديق ،والتبرير أيضاً.
رواية الصوفي والقصر، نقلت إلينا هموم وتحديات واستجابات الأُمّة الاسلامية في القرن السابع الهجري ، عندما كان هناك خطر التتري من جهة والافرنجي من جهة أخرى، والتمزّق الداخلي من جهة ثالثة. وأدّعي أن الكاتب نجح إلى حدّ بعيدٍ بأن أعاد إلينا أسئلة المثقف في ذلك الزمان ،الذي كان عليه أن يحارب على الجبهة الخارجية، أعداء الأُمّة والدّين، وعلى الجبهة الداخلية ، الهوى والشهوة ومصانعة العدو.وكل ذلك بلغة أنيقة وشاعرية تستعيد لغة ذلك العصر ومزاجه وقاموسه.. واذا أضفت إلى ذلك رموز الصوفية ولغتها المغلقة والغارقة في إشاريتها ورمزيتها، فإنك أمام رواية ثريّة بمضونها ولغتها وشكلها ورسالتها.
اشكالية القصر والصوفي:
وأقول إن الكاتب احمد رفيق عوض توسّل أو استخدم الصوفيّ ،هنا، كأداة كاشفة للعطب التاريخي والسياسي والثقافي لإشكالية “الحُكْم” في الثقافة العربية الاسلامية ، وهي إشكالية مستمرة إلى يومنا هذا. فالنظام السياسي هو المشكلة وهو الأصل في تدهور التاريخ وسقوط الحضارة ، ولكن هذا لا يكفي أيضاً، “فالحُكم” في نهاية الأمر ليس مُغالبةً بقدر ما هو اتفاق مجتمعي أيضاً، وبالتالي ، فإن التدهور أو الانحطاط قرار جماعي .. فالرواية تقول -حسب فهمي على الاقل- أن الفرد مهم جداً في هذه المعادلة ، الفرد الذي يطوّر حرّيته وفردانيته بعيداً عن “القصر” ، يجب أن تكون هناك مسافة كافية بين الفرد وبين القصر ،ليحافظ الفرد على شفافيته وقدرته على الرؤية والتمييز بين الصواب والخطأ ..فالفردانية هي الاستعصام بالموقف وبالرؤية وبمصدر الرزق أيضاً،وهذا ، ربما ، ما يُفسّر إصرار المتصوفة على التقشف أو العيش بعيداً عن العمران.
إن مثقف القرن السابع الميلادي – والذي كان متصوفاً أو فقيهاً – حاول أن يقدم نموذجاً للتغيير وللتنوير ، من خلال السلوك والموقف معاً..ولهذا رأينا كيف يُطارَد الفقيه المتصوف العزّ بن عبد السلام من قبل الحُكّام المتعاونين مع أمراء الفرنجة ،ورأينا كيف يُسجن، ورأينا كيف يُهَدِّد ،فيما بعد، حُكّامَ القاهرة المماليك ببيعهم ، إن لم يواجهوا التتار، الذين كانوا يهددون السلم العالمي ، فضلاً عن الأُمّة الاسلامية في حينه.
وأدّعي، هنا، أن عوض التقط هذا المفهوم وطوّره وقلّده لمتصوفٍ لم يكن له من العالم سوى سطح بيت عادي في طنطا، ومن فوق هذا السطح أدار البدويُّ عالمَه الداخلي والخارجي. وما يؤيّد كلامي، هو ما وصفته الرواية بطريقة مدهشة من هجوم الملك الفرنسي المجرم لويس التاسع على مدينة المنصورة ودفاع أهلها عنها، فقد تخيّل الكاتبُ كيف أن المتصوفة ،في ذلك الوقت ومن كل بلاد المسلمين، تجمّعوا في خيام قريبة من خيام عسكر المماليك ،ليساعدوا في الدفاع عن المدينة. ومن الواضح أن الكاتب أراد من ذلك أن يقول إن التصوّف لا معنى له إن لم يكن موقفاً من العالم؛ شجاعاً وواضحاً ومنحازاً إلى الناس، وإن التصوف لا معنى له إن تحوّل إلى طلاسم لخلاص شخصي أو امتلاك قوّة وهمية أو ادّعاء بالامتلاء والاكتفاء والتنور المجاني.. فالتصوف الحقيقي -حسب الرواية كما أرى- هو النزول إلى الأسواق وليس الاعتصام بالجبال! لأن الاسلام جاء لأهل الأسواق وأهل الجبال على حدٍ سواء.
رواية الصوفي والقصر رواية ناجحة وقوية ، بقدرتها على الاقناع والتبرير، والنسج والرصف ، والربط والابتكار ، برسالتها القوية وفي أدواتها الفنية أيضاً. وبرأيي فهي رواية يجب أن نتوقّف أمامها، باعتبارها رواية رائدة في موضوعها ، وهو ما أشار إليه غير ناقد ، عند الكتابة عنها.
ظلّ أن أشير إلى أن الروائي قد تحدّث عن مُجمل الحال المعيش ، الآن، في عالمنا العربيّ، بكل صخبه وسقطاته وشظاياه ومكائده وحروبه وفقره وخريطة تحالفاته وأزماته المزمنة وإشكالياته المركبة.. من خلال استعارته للقرن السابع، ثمّ قام بعملية إسقاط كاملة وثقيلة ، تجعل القارئ يحسب أنه يقرأ مشاهد ما يعيشه اليوم من خراب عميم معاصر وساخن ،على امتداد الجغرافيا العربية! كما أن الروائي تصدّى لدور العلماء، رجال الدّين، وراح يفكك أدوارهم ومرجعياتهم ،والخلاف الناشب بينهم.. ليصل إلى نتيجة حاسمة وهي أن الدين يعني الاصطفاف مع الناس ، وقيادتهم ، ومقارعة الظالمين والمُحتلّين الغرباء، وعدم الانزواء والركون إلى الصمت المشبوه، بدعوى الزّهد او التأويل القاصر.
شكراً أخي أحمد على هذه الرواية المختلفة والبوصلة المحترفة.
رواية الصوفي والقصر لاحمد رفيق عوض