أمد/
أولا النص: وليعلُ الهلال
سورةٌ أخرى وأخرى من ليالينا الطوال
وشهيد الحقِ يعرفني وأعرفه
وتعرفه الأزقة والتلال
وكل جرحٍ نازفٍ كان الضماد له
موالُ عشقٍ باذخٍ كلما اشتدَ القتال
حتى حدودُ الموت صالَ بها وجال
وفضاؤه الممتدُ يَهمي دفقهُ
يرجو الشفاءَ كأنه الماءُ الزلال
شريانهُ المبتلُ غصنٌ أخضرٌ
زيتونةٌ في الريحِ تهزأُ بالمحال
هُوَ نخلةٌ مدت ذراعيها
إلى الأفق البعيدِ عن الخيال
أحَدٌ هناكَ هتافه أُحُدٌ هنا
وفوق صخوره صلى تودعهُ الرجال
فاضَ الوريدُ فأينعت كلُ
الحدائقِ والشقائقُ في جلال
يا والدَ العبدينِ عمّدْ جرحكَ الممتدَ
من أقصى الجنوبِ إلى نهاياتِ الشمال
من مَدمعِ الجرحِ النديِّ تحيةٌ
هذا فداء القدسِ فليعلُ الهلال.
ثانياً: القراءة النقدية
الشهيد في الثقافة الدينية:
تكاد تكون للشهيد، أي شهيد، صورة واحدة لدى كل الشعراء الفلسطينيين، وربما تقاطعت في بعض ملامحها مع صورة الشهيد لدى شعراء الأمة، عربية وإسلامية. وهذا أمر طبيعيّ، فالشهيد مصطلح ديني في الأساس مرتبط بالتضحية، لم يكن حاضراً في الثقافة الجاهلية قبل الإسلام بهذا المفهوم، وقد أعطته الأحاديث الشريفة أهمية كبيرة، مع ملاحظة أنّ القرآن الكريم لم يستعمل لفظ الشهيد والشهداء لهذا المعنى (المقتول في سبيل الله) بل كان بمعنى الشاهد، ومن ذلك قوله تعالى “وجئنا بك على هؤلاء شهيداً” أي شاهداً، واستخدام القرآن الكريم صيغة الصفة للمشبهة في وصف النبي الكريم- عليه الصلاة والسلام- للدلالة على ثبات هذه الصفة وأهميتها، هذه الأهمية اكتسبها أتباعه المؤمنون، فقد وصف القرآن الكريم المؤمنين المسلمين بقوله: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا”. فالآية ساوت بين النبي وأتباعه في مهمة الشهادة، وأن يكونوا شهودا أو شهّادا أو شاهدين على الآخرين، ولهذا المعنى تفسير عقدي ديني ليس له علاقة مباشرة إلا بحدود تأويلية، إذ دم الشهيد شاهدا على منزلته وكرامته كما هو مبين في الأحاديث النبوية أعطت لكلمة “الشهيد” مفهوما جديدا، وهو المقتول في سبيل الله.
إذاً، جاء المفهوم الأكثر أهمية في هذا السياق في الأحاديث النبوية، عندما وصف الرسول الكريم حمزة بن عبد المطلب بأنه “سيد الشهداء”، بعد أن قتل في معركة أحد. مع أن الأحاديث الشريفة لم تجعل الشهادة ميزة لحمزة وحدهـ، بل إن شهداء الأمة كثر، كما جاء في أحاديث أخرى، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: “منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ”، وغير هؤلاء أصناف أخرى وردت في اعتبارهم شهداء عند الموت.
هؤلاء شهداء غير شهداء المعارك والنزال، إنما هم شهداء أجر ومنزلة كما يقول العلماء والفقهاء، إنما شهداء النزال والقتال والاشتباك مع أعداء الأمة في الحروب والاحتلالات فهم مَن وصفهم الرسول الكريم: “ما من مَكْلُومٍ يُكْلَمُ في سبيل الله، إلا جاء يومَ القيامة، وكَلْمُهُ يَدْمَى: اللَّونُ لَوْنُ الدَّمِ، والرِّيحُ رِيحُ المِسْكِ”، بل يتمنى الشهيد أن يعود إلى الدنيا ليقتل ثانية لما سيلقاه من الكرامة الإلهية يوم القيامة كما جاء في الحديث الشريف: “ما من نفس تموت، لها عند الله خير، يسرها أنها ترجع إلى الدنيا، ولا أن لها الدنيا وما فيها، إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع، فيقتل في الدنيا لما يرى من فضل الشهادة”.
هذا الوعي الديني على أهمية الشهادة كان له أثر كبير عند كل من قاتل عدوا، ولعله تسلل إلى أتباع الحركات غير الإسلامية، وصار لفظ “الشهيد” وساما وطنيا ممنوحا لكل من قتل من أتباع تلك الحركات اليسارية أو العلمانية، فقد تغلغل هذا في الوعي الإنساني، واكتسب أهمية اجتماعية واضحة، فصار لقب أم الشهيد، وأخ الشهيد، وأخت الشهيد، وأبو الشهيد محببا ومطلوبا، ويحمل كرامة من نوع ما، وفيه من التعزية ما فيه، إلى درجة الفرح وإطلاق الزغاريد كما جاء في الأهزوجة الشعبية:
زغردي يا ام الشهيد وزغردي
زيني فخر الأصايل بالودع
وازرعي الحنا على الصدر الندي
واربطي العصبة على كل الوجع
ولأجل ذلك فإن المقاتل الذي يقضي نحبه شهيدا؛ مقتولا في أرض المعركة يحوز الفخر والتمجيد الشعبيين، ويوصف بالبطل والشجاع والمقدام، وتمتزج عبارات الناس في الحديث عنه بين الحزن والفخر، وتتكون لديه في أذهان الناس صورة مثالية، فلا يتحدثون عنه إلا بما يعزز هذه الصورة الكاملة المنجزة الموقعة بالدم.
الشهيد في الشعر الفلسطيني:
لقد انتبه الدارسون بطبيعة الحال إلى صورة الشهيد في الشعر، فأنجزوا حولها دراسات كثيرة، فقد شكل حضور الشهادة والشهيد وغيرها من الألفاظ المنتمية إلى هذا الحقل الدلالي ملمحا بارزا في الشعر الفلسطيني في كل الفترات التاريخية، في الشعر الفصيح وفي الشعر الشعبي، وفي الحكايات والقصص والروايات.
إن طبيعة الصراع في فلسطين الممتد لأكثر من مائة عام خلّف مئات الآلاف من الشهداء والضحايا، وبرزت كثير من صور للأبطال المناضلين والمجاهدين، فكان لكل فترة من فترات هذا الصراع شهداؤه الأبطال، وقادته العظام الذين غدوا أيقونات حرية، لم يذهب دمها سدى على مذبح الحرية والتحرير والانعتاق من المحتل الغاصب البغيض.
ومن القصائد ذات الحضور البارز في هذا الجانب قصيدة “الشهيد” للشاعر إبراهيم طوقان. رسمت القصيدة بتجريد شعري كبير صورة الشهيد من لحظة ما إن يعبس الخطب فيبتسم مقدما، وحتى الاستشهاد ليختتم المشهد بهذه الصورة:
أي وجه تهللا
يرد الموت مقبلا
صعّد الروح مرسلا
لحنه ينشد الملا:
أنا لله والوطن
إن صورة الشهيد متهلل الوجه، المبتسم، لها حضورها في كثير من قصائد الشعراء. ولم تكن هذه الصورة مجرد تعبير شعري لافت، بل إن له واقعا يناظره، وتكثر الأحاديث حوله من ذلك ما وصف به وجه الطفل حمزة نصار الذي استشهد في غزة في أحد الغارات عام 2021، فوثقت صورته عدسة آلة التصوير وهو مبتسم. هذا الوصف أكده كثيرون وهم يشاهدون ذويهم الشهداء.
وشهدت الحرب الأخيرة على الفلسطينيين الدائرة بكل عنف وجبروت وقسوة في غزة والضفة الغربية ارتقاء شهداء كثيرين تجاوز عددهم خمسة وثلاثين ألف شهيد، والحبل على الجرار، فلم ينقطع سيل الدم، ولم يكفّ الغول المتوحش عن البطش، ونشهد كل يوم بل كل ساعة ارتقاء شهداء جدد، في ظروف نضالية مختلفة، فشهداء هذه الحرب ليسوا المجاهدين المقاتلين على أرض غزة وحدها، بل هناك آخرون يقتلون برصاص المستوطنين في الضفة الغربية، وهم يدافعون عن وجودهم في قراهم، وهؤلاء أناس عاديون، مدنيون، غير مسلحين، ليس لديهم إلا أجسادهم ليناضلوا بها، ولذلك كانوا فرائس سهلة الصيد بأيدي هؤلاء المعبأين أيديولوجيا بالقتل والإفناء والإبادة والترحيل والطرد، فزاد القتل واستفحل، وسقطت كل الاعتبارات من حسابات هؤلاء المنفلتين من عقلهم، فلم يراعوا صحفيا، ولا فلاحا ولا امرأة ولا طفلا، ولا أستاذا ولا عاملا، ولا طبيبا ولا مسعفاً، فالكل صار مستهدفا ما دام أنه يحمل صفة الفلسطيني أو الدفاع عن الفلسطيني أو يظن أنه يدافع عن الفلسطيني.
صورة الشهيد محمد عوض الله موسى
يتكون نص الشاعر إسماعيل حاج محمد “وليعلو الهلال” من عشرين سطرا، يتحدث فيها عن الشهيد محمد عوض الله محمد موسى، ابن قرية قريوت/ جنوب نابلس (48) عاما، متزوج وأب لولدين وابنتين، ويحب أن يكنّي نفسه بأبي العبدين، لأن ابنيه الذكرين التوأمين اسمهما عبد الله وعبد الرحمن. وسبق للاحتلال أن اعتقله أيام الانتفاضة الأولى.
كان يعمل الشهيد رحمه الله سائقا ومسعفاً متطوعا لسيارة إسعاف بلدته قريوت، سيارة تابعة لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني التي افتتحت لها مقرّا في القرية. وقد استشهد رحمه الله وهو يقوم بواجبه خلال إنقاذ الجرحى على إثر المواجهات بين أهالي قرية الساوية والمستوطنين المدعومين بجنود الاحتلال، يوم السبت 20/4/2024، بإصابة مباشرة متعمدة أصابته في شريان الفخذ، ولم تمهله الإصابة طويلا حتى فاضت روحه شهيدا بعد أن نزف كثيراً من الدماء.
لم يراعِ الاحتلال وصف الشهيد ولباسه وطبيعة عمله، فاستهدفوه مباشرة، كما فعلوا بحوادث أخرى كثيرة مشابهة، وقد أظهرت هذه “المقتلة” الذي ينفذها الاحتلال كم أنه احتلال متعجرف، غير مبالٍ، همجي، وشرس، لا يراعي قانونا ولا عرفا، ولا أخلاقا، وشعاره أن الكل الفلسطيني عدوه، والكل مباح للقتل والنهب.
يقف النص أمام حادثة القتل هذه، ويوثقها في هذه الأبيات. ويمتاز الشاعر إسماعيل حاج محمد في أنه يرصد ويوثق لكثير من الشهداء، فقد كتب الكثير من الشعر في الشهداء، وضمت دواوينه المنشورة العديد من القصائد التي تحتفي بالشهادة ورموزها، بل ويوثق للأحداث ويعمل دائما على أن تكون قصائده إشارات للأحداث الوطنية، وهو بهذه الاستراتيجية الشعرية يعيد القارئ إلى الدور الأهم للشعر في توثيق الأحداث وتخليدها شعريا كما في شعر الجيل الأول من شعراء فلسطين، وكثير من الشعراء العرب وشعراء العرب القدماء، فقد كان للشهداء نصيب من ذلك الشعر.
إنه شعر مهم عموما ليس فقط، في القدرة على حمل الحدث وتصويره فنيا وجمالياً، بل في دلالاته الأخرى المصاحبة الاجتماعية والسياسية والتاريخية، ولا بد من الشعراء من أن يقوموا بدورهم، وخاصة الشعراء الفلسطينيين، ويجب ألا تبعدهم الفنيات والفرضيات النقدية عن أن يكونوا فاعلين ومناضلين بشعرهم في تسجيل الأحداث وتوثيقها، لأن في توثيقها أهمية نفسية أولا، وثانيا تحمل في طياتها بعدا مهما من التقدير والإعجاب والانحياز لفكرة المقاومة والنضال المستمرة التي لم تخبُ يوماً، ولن تخبو حتى يتحرر الشعب الفلسطيني من محتليه وقاتليه، وثالثا يعبّر عن مقولة نقدية لها وجاهتها ومنطقيتها سأشير إليها لاحقاً.
يستفيد الشاعر من كل هذا التاريخ الديني والوطني في كتابة هذا النص، فالشهادة ومفهومها والشهيد ومفهومه، يتحكمان في النص وتوجيهه من خلال مجموعة من الألفاظ التي تحمل آثار المعنى الديني والمعنى الوطني المقدسين، على الرغم من أنه لم يوظف هذين المفهومين ولم يذكرهما إلا في البداية ليكون هناك تأسيس مفهومي عام، يحمل الدلالة الدينية “شهيد الحقّ”.
جاءت القصيدة مفتوحة الأفق على التناص الديني تحديدا، دون أن يغرق في اللغة المباشرة والمعاني المكررة، فجاءت القصيدة مكثفة دالة، يستند فيها على الغنائية اللافتة من خلال استخدامه وتصرفه الإيقاعي للبحر الكامل وتفعيلاته، وجاءت بين الشكل الكلاسيكي الذي يتقنه الشاعر إتقانا تاما بلا شك، وبين القصيدة الحرة، متصرفا بالشكل الخارجي للقصيدة ليتيح لتدفقاته الشعرية أن تولد معبرة عن المعنى.
يؤسس الشاعر للقصيدة بوصفها “سورة”، وبهذا إحالة منذ اللحظة الإبداعية الأولى على المعنى الديني؛ السورة من القرآن الكريم، وسواء أقصد الشاعر النص أم حادثة القتل التي أودت بالشهيد، فإنهما يؤديان معنى واحدا خارجا من رحم الثقافة الإسلامية التي أشرت إليها أعلاه.
تحضر المعاني الدينية بوضوح في القصيدة، بل إن حديث “ما من مكلوم” الذي سبق وذكرته تجده بصورة أخرى دنيوية واقعية، رابطا بين مهمتين، الأولى مهمة الشهيد كونه مسعفا، ويعمل على تضميد جراح المصابين في كل معترك يطلب منه أن يلبي نداء الواجب فيه، فأصبح المسعف شهيداً، المنقذ من الموت، غرق فيه، وكان واحدا من المصابين، هذه الصورة تمتد في التعبير عند الشاعر راسما المشهد كله، اختتمه بسطر واحد “شريانه المبتل غصن أخضر”.
هذا السطر ينقل القارئ إلى لحظة الشهادة، ويتجاوز عنها، فلم يتوقف عندها ليرسمها، وسكت عنها،لأنها مؤلمة أولا والشاعر يريد أن يتجاوز لحظة الألم، ولأنها معروفة ثانيا، والشعر لا يعيد ما هو معروف، وليس معنيا بما هو معروف، إنما ما يعنيه هو المعنى الشعري للحدث وكيف أصبح في المدونة الشعرية، لذلك تبدأ صورة الشهيد الشعرية بالتشكل بعد التأسيس الديني الثقافي والسياسي والتاريخي المتجمع في هذا الوصف “شهيد الحق”.
يصف الشاعر الشهيد بوصفين لهما دلالتهما الوطنية والدينية، وهما الزيتونة والنخلة. لماذا هذين الوصفين بالتحديد؟ لا شك في أن لكلتا الشجرتين دلالة دينية، فقد وردا في القرآن الكريم، لكن الشاعر بنى على هذا التأسيس الديني معنى واقعيا وطنيا، فالزيتون في فلسطين له أهمية كبيرة في حياة الفلاح الفلسطيني، وحضرت في كثير من التاريخ الفلسطيني كأداة نضال وثبات، وليست مجرد شجرة، فهي تدل على تجذّر الفلسطيني بأرضه، فهذه الشجرة الزيتونة غذاء للفلسطيني ودفء له، وعلامة على وجوده، وليس غريبا أن يقوم الاحتلال باستهدافها بالقلع والحرق، فالاحتلال يعلم أن التاريخ مختزن في جذوع هذه الأشجار القوية الضاربة في عمق التاريخ، ففي كل قرية فلسطينية ثمة شجرة زيتون واحدة على الأقل عمرها أكبر من عمر الاحتلال ودولته الظالمة الأفاكة.
ولا تبتعد رمزية النخلة عن رمزية الزيتونة مع أنها أقل حضورا في السياق الوطني، فهذه الشجرة أيضا وردت في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، وتكثر زراعتها في منطقة الأغوار في فلسطين، وخاصة في أريحا. وتتخذ النخلة رمزيتها من كونها قوية وشامخة، ومصدر طعام مهم، وتحضر كثيرا في مناسبات الإنسان الفلسطيني وخاصة في رمضان. لذلك يؤنسن الشاعر في قصيدته هذه النخلة قائلا: “مدّت ذراعيها إلى الأفق البعيد عن الخيال”، تعيد هذه الأنسنة أنسنة الرسول الكريم للنخلة بحديث أسماها فيه أنها “عمّة” قال: “أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طينة أبيكم آدم وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم ابنة عمران، فأطعموا نساءكم الولد الرطب، فإن لم يكن رطب فتمر”. يلخص هذا الحديث هذه المكانة لهذه الشجرة، وأهميتها الغذائية، وبعدها الديني التاريخي الممتد حتى لحظة الخلق الأولى، خلق آدم عليه السلام.
إضافة إلى ذلك تختزن عبارة الشاعر إسماعيل الهيأة التي تكون عليها النخلة، شامخة، عالية، لا تنظر إلى أسفل، تمد ذراعيها إلى الآفاق البعيدة عن الخيال، وهذا المعنى من السموّ في طبيعة النخلة، يناظره سموّ وعلوّ معنوي ومادي لمعنى الشهادة، فارتقاء الشهداء له هذه الخاصية كذلك.
يعود الشاعر إلى الأرض بعد هذا التحليق، لكنها عودة إلى الأرض بمعناها المقدّس، فيستعير من التاريخ الإسلامي حادثتين بالطريقة نفسها؛ بتكثيف عالٍ، في سطرين، يجدل العلاقة بينهما على طريقته ليدلا على الشهيد نفسه. الحادثة الأولى حادثة بلال بن رباح، وهو يقول هناك في مكة تحت التعذيب: “أحد أحد”، وبتلاعب لفظي يلتفت الشاعر في السطر نفسه إلى جبل أُحُد، هذا الجبل الذي قال عنه النبيّ أيضا: “جبل يحبنا ونحبه”، وارتبط فيه استشهاد “سيد الشهداء حمزة”. تأتي جمل الشاعر رابطة بين الحادثتين في السطر الثاني في قوله: “وفوق صخوره صلى تودعه الرجال”. بلال بن رباح الذي عذب بالصخور في مكة، كان حاضراً في أحد، وصلى الله وصحابته على حمزة على جبل أحد. هذا مشهد منقول بدلالة أخرى حيث صلى الآلاف من المشيعين على الشهيد محمد موسى بجنازة رهيبة، لم تشهد لها القرية مثيلا ولا القرى المجاورة.
هذه المهابة تناظر بأهميتها المشهد التاريخي الذي يحيل النص القارئ ليتذكره وهو يقرأ أحداث الحاضر بوعي تاريخي ديني سياسي، ليخدم الواقع لذلك قال الشاعر “فليعلُ الهلال”، مقابلا فيه من التحدي ما يكفي، وباستحضار فيه من البلاغة ما يكفي لقول الكفار، كفار قريش “اعلُ هبلُ”. اليوم لن يعلو هبل بل يعلو الهلال، متلاعبا الشاعر مرة أخرى موظفا ثنائية الدلالة في هذه الكلمة، الدلالة الدينية، إذ الهلال علامة على الإسلام وهو شعاره، والدلالة الواقعية، حيث كان الشهيد رحمه الله مسعفا متطوعا في الهلال الأحمر الفلسطيني.
هذه التضحية من الشهيد، وكل الشهداء العاملين في أرض المعارك والنزال، من مسعفين وصحفيين وأطباء، يمثلون الجانب الإنساني المحمي من القانون الدولي الإنساني، هذا الجانب هو أكثر انتهاكا في فلسطين، والإحصائيات تشهد على ذلك، جعل عمل هذا الجيش من المدنيين صعبا محفوفا بالمخاطر، زيادة على مخاطره التي تقرها حالة الحرب في أية بقعة في العالم، إلا أنها في فلسطين أكثر خطورة، لأن الاحتلال يستهدفها عمدا وعن سابق إصرار. فمسلحوه يعلمون مسبقا أنهم سيقتلون مسعفا وصحفيا وطبيبا، وعلى الرغم من ذلك إلا أن هؤلاء المسعفين والصحفيين والأطباء جميعا تحلوا بالشجاعة للقيام بعملهم، وأصبح عملهم بطوليا فعلا، حقيقة لا مجازاً، ففي حالات كثيرة يضحون بأنفسهم من أجل إنقاذ جريح، فيعيش الجريح ويقتل المسعف والطبيب، كما حدث مع الشهيد محمد أبو العبدين.
هذه الصورة من البطولة لا تقل أهمية عن بطولة شاكي السلاح، المقاتل في أرض المعركة، هذا التصور انعكس في نص الشاعر بملامح أسطورية واضحة في قوله: “فاض الوريد فأينعت كل/ الحدائقِ والشقائقُ في جلال”. تقول الأسطورة إن شقائق النعمان تلوّنت باللون الأحمر نتيجة الدم، كما جاء في الأسطورة الفينيقية، وكذلك الكنعانية، والبابلية، وكلها أساطير شرقية لفلسطين نصيب منها.
ولهذه الزهرة حضور في الأدب الشعبي الفلسطيني، ويطلق عليها “زهرة الشهداء”، وشعبيا في اللغة العامية الفلسطينية يطلق على شقائق النعمان “الحنّون”، وورد في مواويل الشعراء وأناشيدهم. وبالتقنية نفسها يحيل النص على هذا المخزون المعرفي لشقائق النعمان بجملة واحدة.
لم يترك الشاعر هذه الأسطورة دون أن يربطها باللحظة الزمنية للحدث وبالبعد الديني، فجاء التركيب “في جلال” ليؤكد شعرية هذا التوظيف لتتجانس كل العناصر معاً، ضمن المشهد المرسوم في النص وأثره في الشاعر ومن حوله أيضاً، حيث جلال الموت وهيبته، عدا أنه يشير أيضا إلى التناغم الإيقاعي الهادئ للنص.
وأخيرا تحضر في النص صورة المسيح الفادي، وكل شهيد من شهدائنا هو مسيح، لأنه هو “الفادي” أيضا الذي يفتدي بنفسه أتباعه، بل كل البشرية، ولا أدل على هذه الدلالة من عمل المسعف، فهو يفتدي بنفسه ليعيش غيره، بل إنه في لحظة القيام بواجبه لا يسأل إلا عن المحتاج إلى المساعدة وينسى نفسه. يعزز الشاعر هذا المعنى الديني المأخوذ من المسيحية بلفظ “عمّدْ”، لفظ مكتنز بالمعنى أيضاً، فهو ليس مجرد لفظ، بل إنه يحمل تاريخا وثقافة، وطقوسا دينية لها قداستها عند أتباع الدين المسيحي، وصار هذا المعنى متداولا في الثقافتين الشعبية والرسمية في الشعر الفلسطيني بعامّة، وفي قصائد الشاعر إسماعيل حاج محمد.
يوظف الشاعر هذا المعنى ليرى من خلاله قداسة اللحظة المتمثلة في الشهادة، فليس بعد الجود بالنفس أي جود، وليس هناك من هو أجود من الشهداء، لتكون دماؤهم حاضرة في طقس تعميد البلاد كلها من شمالها إلى جنوبها، وفي هذا الشمول استقصاء، يحرص الشاعر على تأكيده بتعبير “أقصى الجنوب” حيث إيلات المحتلة، وبتعبير “نهايات الشمال” حيث شمال فلسطين وإصبع الجليل.
هذا الشمول له دلالة تحيل على أسطرة الشهادة والشهيد من جهة لترسيخ صورته في الوجدان أو للتعبير عن هذه الصورة، ومن جهة أخرى تربط تضحيات الشهداء معاً، ففي الجنوب وفي الشمال كما في وسط الضفة حيث استشهد محمد عوض الله، فللحدث دلالة واحدة، إنه فداء للقدس، ومن الملاحظ أن الشاعر في هذا النص ينهي القصيدة نهاية مشابهة لقصيدة الشاعر إبراهيم طوقان “الشهيد”، فكلاهما قدّم دمه؛ للوطن عند طوقان، وفداء للقدس عند حاج محمد، وما القدس عند الشاعر إسماعيل إلا رمز للوطن كاملا كما جاء في النص “من أقصى الجنوب إلى نهايات الشمال”.
ثالثاً: الخاتمة
وأخيرا، ومن خلال هذا التحليل لقصيدة “وليعلُ الهلال” للشاعر إسماعيل حج محمد، أخلص إلى أن الشاعر اعتمد على المعاني الدينية في رسم صورة الشهيد، الإسلامية والمسيحية، راسما للشهيد صورة قربته إلى تخوم الأسطورة، دون أن يغرق في التهويل من جهة، ودون أن يخرج إلى تسطيح المعاني ومباشرتها من جهة ثانية، فجاء النص معبّرا، ببلاغته وشعريته المعتمدة على التاريخ وحوادثه، واضعا الشاعرُ هذه الصورة في سياق التضحيات الأخرى للشعب الفلسطيني على عموم امتداد ساحات الصراع مع المحتل الغاشم، شمالا وجنوباً حيث غزة أيضاً.
وعلى الرغم من قسوة الحدث، حدث القتل، واستشهاد المسعف محمد موسى، وعلى الرغم كذلك من العلاقة التي تربط الشاعر بالشهيد، حيث كانا صديقين وجارين إلا أن الشاعر تعالى عن لحظة الموت القاسية ولم يغرق في الحزن، بل إنه ابتعد عما يشير إلى الحزن من ألفاظ، ولم يشر إلا إلى الليالي في المفتتح، ليكون الدم نفسه عاملا من عوامل التخلص من ظلمة هذه الليالي، ليالي القهر والتسلط والتجبر التي يصر الاحتلال على صنعها وتكثيفها عبر القتل ليغيّر في حياة الفلسطيني، والفلسطيني يصرّ ألا ينقاد لتلك الصنعة، صانعا أفقه من المقاومة حتى وهو يكتب عن الشهداء، لا يكتب إلا بحب وتمجيد وفخر، وبذلك قهر للاحتلال وهزيمة لإستراتيجيته في أنه يريد لنا أن نسلم للأمر الواقع ونرضى بالاحتلال، بدلا عن الحرية والتحرير، وما دمنا نكتب للشهداء بحب ونهتف لهم في المسيرات، ونشيّعهم بالآلاف لن تنكسر لنا شوكة، وسيكون مصير الاحتلال وأعوانه إلى زوال ومصير أتباعه مهما كثروا إلى مزابل التاريخ الذي لن يرحمهم.
يثبت النص- ونصوص الشعراء الآخرين- أن الشعر قادر على أن يكون ناطقا باسم الأحداث دون أن ينزاح إلى المباشرة، فاعتمد النص على التناص الديني والتاريخي، وعلى توظيف الرموز، وعلى الجناس والتورية والتشخيص، وتجاورت عناصر البلاغة القديمة مع الحديثة من بلاغة الحذف والإحالة والرمزية لصنع هذا النصّ المنتمي إلى تاريخ طويل من شعر المقاومة الفلسطينية.
كما يدل النص على أن الأحداث قادرة على استنطاق الإبداع، وأن ثمة تلازما بين الحدث الواقعي والأدب، إذ إن بينهما صلة وقرابة لن تنقطعا، وسرعان ما يعود هذا التلاحم إلى الواجهة كما فعلت أحداث السابع من أكتوبر منذ لحظتها الأولى وحتى الآن، ليكون أثرها قويا في الشعر، والشعر خاصة، حيث ساعدت هذه الأحداث على انتعاش شعر المقاومة بكل مضامينه السابقة، ليعود إلى الواجهة كتابة ونشرا وتداولا واهتماما نقديا كذلك. وخلفت هذه الظاهرة شعرا كثيرا جيدا على امتداد العالم وليس في فلسطين والوطن العربي. إنه الحدث الأكبر عالمياً، ولذلك كان من الضروري أن يكون له هذا الأثر الفعال في إبداع الكتّاب والشعراء منهم على وجه الخصوص. وقد أشرت إلى ذلك في موضعه من كتابي “مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين” الصادر هو أيضا بتحفيز مباشر من هذه الأحداث التي أرجو لها أن تغيّر وجه التاريخ، وألا تذهب دماء الضحايا والشهداء هدراً في دنيا السياسة، مع العلم أنها لن تذهب سدى عند الله سبحانه وتعالى، مهما كانت نتائج هذه الحرب.