أحمد أشقر
أمد/ “يجب أن تتذكروا ما فعله العماليق بكم،
هكذا يقول كتابنا المقدس، ونحن نتذكر بالفعل ونحارب.
قواتنا العظمى حول غزة وإسرائيل ينضمون إلى سلسلة
من الأبطال اليهود، وهي سلسلة بدأت قبل 3000 عام مع يوشع بن نون”.
(نتنياهو، 7 أكتوبر 2023)
إن قصف الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية <لإسرائيل> التي تبعد عنها 1200- 1800 كيلومتر، بنحو 350 من الطائرات المسيّرة والصواريخ ووصولها إلى أهدافها بدقة- كما تؤكد التقارير الإسرائيلية والأمريكية شبه الرسميّة- خلال منتصف ليل- فجر 13- 14 نيسان 2024، أمر يمكن فهمه بسهولة خاصة من قبل خبراء العلوم الاستراتيجيّة العسكريّة والعسكريين أنفسهم.
هذا المقال لا يُعنى بهذه الجزئية (نعم إنها جُزئيّة) لأنها في السياق التاريخي كانت وأصبحت تحصيل حاصل، وقد تتكرر في المستقبل بعنف أكثر. لكن ما يهمنا هنا، هو العقليّة الإسرائيليّة- المصيدة بالحجم والكارثيّة التي أنتجتها هي بنفسها. والمصيدة- هي العداء لإيران، الدولة العظيمة التي تستند على عمق تاريخي يتجاوز الـ3000 سنة، وجغرافيا مساحتها 1.6 مليون كيلومتر مربع وأمة تعدادها نحو 80 مليونا من المواطنين، بالإضافة إلى مصادر ثروة ماديّة ومعنويّة ضخمة جداً وحلفاء مثل روسيا والصين وكوريا الشماليّة، كلهم يتفقون على ضرورة القضاء على الهيمنة الأمريكية وبناء نظام دولي يعطي الجميع شرعيّة لمصالحه. بينما كل ما تملكه إسرائيل هي سرديّة جذورها الخرافيّة- الدينيّة، مستعمرون لا يزالون غير متجانسين إثنيّا أو اجتماعيّا (كما يراهم عالم الاجتماع الإسرائيلي سامي سموحة) يهددون دائماً بمغادرتها على أتفه الأمور ومساحة جغرافيّة بحجم دبوس على عباءة المُرشد- وتبعيّة وظيفيّة لأمريكا (للتوضيح- يجب التأكيد على الفروقات الشاسعة جدا بين التاريخ الذي يعني الحقائق/ facts – والسرديّة/ narrative التي في جوهرها وجهة نظر قد تكون خارج التاريخ كما هو الحال بما يخص اليهود وإسرائيل- موضوع مقالنا هذا، لكنها تحمل في طياتها جذوراً تاريخيّة).
لذا يمكن القول أن عجز إسرائيل عن الردّ رغم هول الضربة المذكورة عبارة عن تحطيم تصوّرها عن صراعها ضد العرب (والمسلمين) منذ بدء الجولة الحاليّة من طوفان الأقصى، وثم الإجهاز عليه كليّاً ليلة الضربة الإيرانيّة. فتلقي الضربة أمام العالم كلّه كان عجزاً حقيقيّاً ولن تتمكن من ترميمه ولو حاولت مراراً وتكراراً (لن نقول إعادة هيكلته وبنائه)، كما هو حال اللا-ردّ ليلة 18 نيسان الجاري، وذلك ليس لسوء تقديرها كما يُقال، بل لسقوطها في مرآة هويتها- كما سنوضح في هذا المقال.
المصيدة في مرآة الهويّة
يمكن القول إن السلوك الأمثل للهويات هو التعاشُر المشترك على قواعد المساواة، والتعاون والعلاقات العاطفيّة. لكن بعض الهويات قد تعيش حالة من الخصومة والصراع على كافة المستويات الفرديّة والجمعيّة. عمليّاً- إن ديدن كل الصراعات، هو صراعات هويّاتية، تختبئ في ثناياها صراعات على مصادر الثروات المادية والثقافية والروحيّة والنفوذ، وليس المصالح الاقتصاديّة فقط- كما يدعي الماركسيون الاقتصادويون.
تُشكلّ اليهودية- <إسرائيل> نموذجاً وحالة مثاليّة في الصراعات الهويّاتية (الجوهرانيّة أو الماهويّة)، لأنها لا تزال تستمد <حقّ> وجودها وعدوانيتها الإباديّة من نصيّات خُرافية- دينية قامت برفعها والتحلّيق بها <خارج وفوق> التاريخ، رغم اصرارها على ممارسة واقعها المعاش ضمن معطيات وقوانين التاريخ (في الاقتصاد، التعليم، الصناعة، العلاقات الدولية والعدوان والإبادة). في هذا السياق تشكلّ هذه الثنائيّة- الشيء وضدّه (خارج التاريخ وداخله)، تشكّل- حالة فصام ثابت يَحُول دون وصول إسرائيل (واليهود الذين يعتبرون اليهوديّة مركبّاً ناشطاً- مقابل المركبين، الصامت أو السلبي- في هويتهم) إلى مخرجات فكريّة، ثقافيّة وقيميّة متوازنة ومعقولة في التعامل مع غير اليهود (الجوييم/ goyem) حتى لو كان هذا اليهودي هو ألبِرت أينشتاين (1877- 1955)، الذي اعتبر تواجد عدة يهود في صفد في القرن العاشر- كما ورد في كتاب المَقْدِسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، دليلاً على حقّ قيام دولة إسرائيل، كما جاء في مناظرة له مع المؤرخ فيليب حِتّي (1886- 1978) سنة 1947.
أنتجت هذه الثنائية عالماً غير واقعي، وتفكيراً رغبوياً (wishful thinking) لإدارته. كما أنها أنتجت اللاساميةَ كمقياس لعقاب من ينتقدهم (كما يحصل الآن في العالم)، وثواب لمن يرقص على أصوات شخيب دماء ضحاياهم.
يجب التأكيد أن المدخل أو المنهج الذي يتم استخدامه هنا، لا يخص إيران بالتحديد، أو العرب والمسلمين- بل يخصّ اليهود وإسرائيل فقط. وبما أننا نعرف أن كل هويّة تستدل على محيطها والهويّات الأخرى من خلال عيونها وعيون الذين يرونها (مصالحها المختلفة والمتبادلة)، أي بطريقة المرايا المتقابلة؛ إلا الهويّة اليهوإسرائيليّة فإنها ترى العالم بهويتها هي فقط، أي ليس بالضرورة أن تكون الصُوَر والنتائج متناظرة أو متساوية. باختصار- إن ـ <إسرائيل> الاستعمارية تستدلّ وتتعرف على إيران العضويّة في المنطقة والإقليم من خلال أعينها هي أو من خلال سرديّتها. لذا تبقى أعين إسرائيل مشدودة للحفاظ على وجودها المادي، نافية هويات الآخرين/ الـgoyem. لذا فأعين إسرائيل ومرآتها تبقى عوراء مشوشة، بينما عيون إيران مفتوحة بالضرورة وإن كَبَت أو اعتراها الغباش في وقت ما.
مصيدة <إسرائيل> ومقوماتها
تتكون هذه المصيدة من أربعة محاور تمتد على عشرات العقود، كما تتبناها <إسرائيل> وتغذيها في مجمل سرديّتها الاستعماريّة:
المحور الأول- طوّر اليهود في تراثهم الديني والثقافي الذي لا يزال متوارثاً حتى الآن، ثنائية نحن اليهود- وهم الـgoyem، الذين هم ليسوا آخرين بمفهوم التعاشر بين الناس- بل goyem بمفهوم كل من هم غير يهود وفقاً للعقيدة والشريعة اليهودية الذين تعتبرهم آدابها- جوييم، حيوانات، أو أدنى من اليهود وأرقى من الحيوانات. هذه الثنائيّة دفعتهم لتطوير مفهوم آخر عن أنفسهم والآخرين، قائلين: نحن أبناء النور- والجوييم أبناء الظلمة. فأبناء النور يحقّ لهم مصادرة كل شيء من أبناء الظلمة (العرب والمسلمين ومن يقف إلى جانب عدالة قضاياهم). يقول قائل إن إسرائيل الحاليّة هي <علمانية> وعقليتها لا تمت بصلة إلى اليهودية واليهود القدامى. حسناً- إذاً ما هو تفسير هؤلاء المدّعين لخطاب نتنياهو المليء بالاستعارات الدينيّة في الأمم المتحدة بتاريخ 29 أيلول 2023، والذي يطرد فيه عرب فلسطين من أرضهم وتاريخهم؟ يمكن القول أن هذا الخطاب عبارة عن نسخة مختلفة من خطابه في بار إيلان من سنة 2009. وما هو تفسيرهم لخطاب العماليق ويشوع بن نون (في سفري يشعيهو والتكوين في التناخ) الذي ألقاه نتنياهو على مرأى ومسمع العالم <المُتنور> عصر اليوم الأول من طوفان الأقصى، ثم أعاد تكراره في رسالة إلى الجنود في الثالث من نوفمبر 2023؟ ولماذا إصرار اليهود اعتبار كيانهم دولة يهوديّة؟ في هذا السياق يمكن اعتبار هذه الخطابات هي الفقه العملي لما تقوم به <إسرائيل> لمحو غزّة كما طالب العديد من السياسيين والحاخامات اليهود. حتى أن بعضهم طالب بقصفها بالسلاح النووي- مثل وزير التراث عميخاي إلياهو وعضو الكنيست طالي جوطليف. ثم نعود إلى تكرار سؤالنا: ومن أين تأتي هذه الكميات الهائلة من كراهيّة اليهود للعرب وحثّ دولتهم على محو غزة؟ فالدعوة للإبادة تأتي من داخل النصوص الدينيّة التي تُنشر حاليّاً في فيديوهات متعددة أكثر بكثير من الأدبيات <العلمانية> في كل وسائل الإعلام والدعاية والنشر؟ (لا يهمنا هنا إن كانت إسرائيل ديموقراطيّة إثنيّة عند سامي سموحة، أو بالرغبة لتحويلها دولة كل مواطنيها عند الموالي لقطر عزمي بشارة الذي استعار أفكاره عن إسرائيل من عالم الاجتماع الإسرائيلي، سامي سموحة). ولماذا يتم الاحتفاظ بعادة إعداد الكعك المسمى “آذان هامان” من أسطورة سفر إستير في التناخ في عيد المساخر؟ ولماذا بدأ مغنون يهود يغنون في الأعراس والبارات أغانٍ ضد هامان وأحشوريش؟ أعتقد بأني أجبت عن هذه الأسئلة في غالبيّة ما كتبت ونشرت في العقدين الماضيين، تحديداً كِتابيّ، التهجير.. والإبادة: الفقه اليهودي المعاصر تجاه العرب (2018)، والصراع على الهوية في اللاهوت اليهودي: ثلاثيّة المرأة والجنس والـgoy (2019).
في سياق خطاب العماليق- يقول الباحث في سرديات العنف في الثقافة الإسرائيليّة، (Gerald Cromer)، إن العماليق في اليهوديّة يشكلون “ذروة الشر الجسدي والروحي” (A War of Words: Political Violence and Public Debate in Israel 2004)- لذا يجب على اليهود إبادتهم. نشير هنا إلى أن دولة جنوب أفريقيا قد ألحقت خطاب العماليق في الدعوى التي قدمتها للأمم المتحدة لاعتبار ما تقترفه إسرائيل في غزّة إبادة شعب. لكن هذه المنظمة الخاضعة للقوى الاستعماريّة أطلقت يد إسرائيل في غزّة بحجة دراسة القضيّة.
المحور الثاني- نتقدم كثيرا لنصل إلى الفيلسوف الألماني هيجل (1770- 1831) الذي قال أن الوعي اليهودي هو “وعي شقي”. يصل هيجل إلى هذا الاستنتاج من مفهوم متلازمة الثنائية التي أنتجتها اليهودية. فيقول أن الإله اليهودي المتعالي ومطلق القوّة، دفع باليهودي لأن يؤمن أنه كائن صغير. بهذا تحوّل اليهودي إلى كائن مشلول لا يخطو خطوة واحدة دون أمر أو تدخل الإله، كما أنه ينتظر المشيح كي يخلصّه من الجوييم ويجعله سيّداً على عالم خال من غير اليهود- كتابه فينومينولوجيا الروح 1807. لهذا السبب طوّر الفقه اليهودي 613 فريضة تعبّر عن العجز والشلل- من جهة؛ وتحميل الإله نتائج أعماله- من جهة أخرى. كما يفتح الوعي الشقيّ، أو المتشظّي الطرق كافة أمام اليهود وغير اليهود على جميع المسالك العمليّة، وأبواب العلوم الإنسانية والآداب ليقول كل طرف عن الآخر كل ما هو بين قطبيّ- الإيجابي والسلبي. أي أن ثنائية المسالك والتفكير اليهودي عن الآخرين دعت الآخرين إلى تطوير مسالك وتفكير مُماثل- نقيض، كان أقساها وأشدّها عنفاً كارثة اليهود في الحرب العالميّة الثانية. في المقابل- تبنت الأمم التي تنتمي للمسيحية البروتستانتيّة وتدور في فلك المصالح الإمبرياليّة، دعم تهجير غالبيّة سكان فلسطين وإبادة غزّة.
المحور الثالث- اعتبرت حركة الحداثة الأوروبيّة الصهيونيّة حركة تنوير حداثيّة (كما اعتبرت النازيّة)، رغم أنها كانت تؤكد على الدوام على مرجعيتها الدينية في مشروع بناء دولة اليهود في <أرض إسرائيل> على حساب العرب. إن الحداثة الأوروبية التي انبثقت من رحم الاستعمار الحديث تبنت الصهيونيّة ومشروعها ونظّرت في حقول الفلسفة، والفكر، والأدب والتاريخ وعلم الآثار. كما عملت على شيطنة العرب والمسلمين، شعوب الشرق <المتخلف>، وغير اليهود- كما قال عنهم الأديب والسياسي اليهودي ورئيس الحكومة البريطاني، بنجامين ديزرائيلي (1804- 1881)، إن “التوجه الفطري لدى الشعب اليهودي مضاد لمبدأ المساواة بين البشر”. كما كتب ديزائيلي في روايته آلوري 1833، قائلاً إن طموح اليهود “النضال من أجل إقامة كيان يهودي في فلسطين وإعادة بناء هيكل سليمان”، أي اشتباك دموي مع العرب (والمسلمين). وفي سياق اليهودية والنازية- بعد وصول هتلر إلى الحكم سنة 1933 وضع الدكتور الراباي يوناثان فرينتس كتابه نحن اليهود سنة 1934 الذي فيه بارك صعود النازية وأيّد مبدأ التفوق العرقي النازي قائلاً: “سيتحوّل معنى الثورة الألمانية للأمة الألمانية في نهاية المطاف عن الذين أوجدوها وشكلّوا صورتها. إن أهميتها بالنسبة لنا يجب أن تُقال هنا بوضوح: لقد ضاعت أصول الليبرالية. والشكل الوحيد للحياة السياسية التي ساعدت على اندماج اليهود غرق واختفى”.
كان جان بول سارتر (1905- 1980) أول وأهم الداعمين السياسيين والفلاسفة المنظرين للصهيونيّة كما عبر عن ذلك في كتابه تأملات في المسألة اليهودية 1950، باعتبارها التمثيل الحقيقي لحق اليهود في الوجود الحرّ، دون أن يلتفت إلى الكارثة التي ألحقتها الصهيونية (ولا تزال) بفلسطين والأمة العربيّة. فقد كانت أطروحته من أهم أركان الدعاية الصهيونيّة، صوّر فيها العرب كامتداد للنازي الأوروبي المضطهد لليهود. في سياق سارتر نذكر ما يلي: كان سارتر قد زار <إسرائيل> في آذار 1967، أي قبل عدوان حزيران بثلاثة أشهر. وعندما بدأ يلقي بيانات المديح لها والتجربة <الاشتراكيّة> في الكيبوتسات بواسطة وسائل الإعلام المختلفة، تواصل معه الشاعر طه محمد علي (1931- 2011) المُهجّر من صفورية المنكوبة، شارحا له ما حلّ بقريته والقرى الأخرى نتيجة <اشتراكيّة> الكيبوتسات ودعاه لزيارة هذه القرى، فما كان من سارتر إلا الردّ على أبي نزار قائلا: يلّي فات مات- هذا ما سمعته من المرحوم أبي نزار أكثر من مرّة. وسارتر وعشيقته سيمون دي بوفوار (1908- 1986) كانا مجرمين، فقد اعتادت الأخيرة على اصطياد وتجهيز قاصرات لممارسة الجنس معه، أي اغتصابهن- A dangerous liaison: Simone de Beauvoir and Jean-Paul Sartre, By Carole Seymour-Jones (London 2008), page 216 and 274.
وحسب ممدوح عدوان (1941- 2004) في كتابه تهويد المعرفة 2009، عمل كل من الفلسفة والفكر والأدب الأوروبي على ثلاث قضايا:
القضيّة الأولى- غسل المثالب والشائنات في آدابهم المختلفة من خلال إعادة النظر لتبرير دور اليهود أو نفيه. ومن يطالع آدابهم <البحثيّة> و<النقديّة>عن الدين والتراث اليهودي منذ منتصف القرن التاسع عشر يقرأ كميات هائلة من هذا الغسيل. مثلا والكلام لي- يفسر بعض <الجغرافيين> و<الحقوقيين> وعد الإله يهوه لأبرهام بفلسطين، ثم لابنه يتسحاق واستثناء ابنه البكر اسماعيل من <حصته> في أرض كنعان ثم قيام ساره بدفع أبرهام لطرد الولد إسماعيل وأمه إلى الصحراء- كما ورد في سفر التكوين بالتناخ- من خلال قوانين الأحوال الزوجيّة في الشرق القديم ضمن مفاهيم العلاقات الزوجية في اليهوديّة (ملاحظة- سأقوم بشرحها لاحقاً باستحضار وعد يهوه وطرد هاجر وابنها، من خلال اتفاقيات أبرهام بين إسرائيل وبعض دول الخليج، ليس من باب التعاون بين الأديان كما يتخيّل السذّج من العرب، بل لطرد عرب فلسطين من أرضهم ومن التاريخ).
القضيّة الثانية- “سرقة العبقريات”، فكل شخصيّة عبقرية في التاريخ يتم اختراع سلالة يهودية لها، ثم ربطها بالمستعمرين اليهود في فلسطين. دون أن يذكروا أن بعض هؤلاء العباقرة لم يكن يجيد العبريّة قَطّ، ولم تكن هويته اليهوديّة ناشطة. والكلام لي- حتى ليخال الناس أن دار أبو زجلو وأبو طبول، وكان يمتهن الكثير من أفرادهما الرقص والتطبيل في الأفراح في وطنهما الأم، المغرب- هم من نسل موسى بن ميمون، ونسايب فرويد وأينشتاين. نشير هنا- أن المخرج يوسف شاهين (1926- 2008) كان قد وقع في هذا الفخ في فيلمه “المهاجر” الذي يستحضر فيه قصة النبي يوسف (اليهودي) سنة 1997، ليعود إلى تكرار مسألة الأيدي العاملة المصريّة (العربيّة) والعقل اليهودي.
القضيّة الثالثة- احتكار المآسي- الضحيّة، وقد تم ذلك من خلال تقزيم مآسي الشعوب الأخرى والانفراد بمأساتهم وحدهم. يمكن ذكر بعض الأمثلة على ذلك- مثل، طمس كارثة الغجر علما أن النازيّة أبادت من الغجر ( كغجر الروما والسنتي) بنسبة مئوية أكثر من اليهود. كما ويرفض اليهود اعتبار مجزرة الأرمن كارثة وكذلك مجازر السريان في نفس الفترة، هذا ناهيك عن عدم تذكرهم أول إبادة في القرن العشرين التي قامت بها ألمانيا في ناميبيا ما بين سنوات 1904- 1908.
المحور الرابع- أسفر تاريخ مواجهة العرب مع الإستعمار اليهودي ودولة <إسرائيل> عن هزيمة نكراء للعرب تُوّجت باتفاقيّة أوسلو سنة 1993. فهذه الاتفاقيّة التي منحت الشرعية <لإسرائيل>، فقدت خلالها (م. ت. ف) شرعيتها الإستراتيجية والأخلاقيّة وباتت عبئاً على فلسطين وعلى كل من ينتسب أو يُنسب إليها، لدرجة أن <إسرائيل> حَرمتها من توقيع وثيقة استسلامها على أرض وطنها، فشحطتها إلى إحدى ساحات البيت الأبيض في أمريكا. تلت أوسلو اتفاقيات أبرهام مع الكيانات الخليجيّة التي رأت فيها إمكانية تعاون مع اليهود- على عكس اليهود أنفسهم الذين رأوا فيها توسيع لنفوذهم في المنطقة ونهب ثرواتها وسوقاً جديدة وكذلك جسراً للتوسع إلى مناطق اخرى. فاختارت <إسرائيل> أبراهام ليس دلالة على وحدة النسب والإنتساب- كما يفهمها المغفلون والمتواطؤون العرب؛ بل أرادت عبرها تكرار عملية طرد نسل إسماعيل ابن إبراهيم وأمه هاجر من وطنهما، كما فعل جدّ اليهود (والعرب؟) إبراهيم وزوجته سارة، وفقا لما ورد في سفر التكوين 21: ” فَقَالَتْ [سارة] لأبرهام: “اطْرُدْ هذِهِ الْجَارِيَةَ [هاجر] وَابْنَهَا [إسماعيل]، لأَنَّ ابْنَ هذِهِ الْجَارِيَةِ لاَ يَرِثُ مَعَ ابْنِي إِسْحَاقَ” […] فَبَكَّرَ أبراهام صَبَاحًا وَأَخَذَ خُبْزًا وَقِرْبَةَ مَاءٍ وَأَعْطَاهُمَا لِهَاجَرَ، وَاضِعًا إِيَّاهُمَا عَلَى كَتِفِهَا، وَالْوَلَدَ، وَصَرَفَهَا. فَمَضَتْ وَتَاهَتْ فِي بَرِّيَّةِ بِئْرِ السَبْعٍ”.
بعد هذا الاتفاق أعلنت <إسرائيل> عن “تقليص الصراع”، أي إنهاء الصراع وعدم حقّ الفلسطينيين في الاستئناف. وقد بدأت مباشرة حملة تصفية ما تبقى من أراضي الفلسطينيين وتكثيف قمعهم وإبادتهم في غزّة. يساندهم في هذا بشكل فعّال وناشط الأنظمة الخليجية والعرب، بواسطة التعاون الإقتصادي والإعلامي النشط المعادي لعرب فلسطين ومحور المقاومة. ما أريد قوله هنا- أن إبادة أهالي غزّة وقمع واغتيالات الضفة الغربية ومناطق الـ48، هو استحقاق أولي لاتفاقيات أبراهام ولما سيجري لاحقاً من شلالات دم. كتب الشاعر الفذّ أحمد حسين (1939- 2017) عن إبراهيم والإبراهيميّة نبوءة دمويّة فقال:
“يا أَيُّها المَوْتُ الصَّباحيُّ الرَّشيقُ كَرَقْصَةِ الأَفْعى
انْتَشِرْ حَتّى حُدودِ اللّهِ
وَافْتَتِحِ الفُصولَ الأَرْبَعَة
بِدِمائِنا،
لَمْ يَبْقَ ما نُعْطي لأَبْراهامَ إلاّ ما حَوى الزَّيْتونُ مِنْ زَيْتٍ
وَما نَفَضَتْ مَواعيدُ اللِّقاحِ عَلى ثِيابِ الزَّوْبَعَة”.
(قراءات في ساحة الإعدام)
ويعتبر أبراهام شخصيّة سلبيّة في الآداب اليهودية المختلفة، في الأصول والفروع والشروح (كنت قد أفردت لقصة أبراهام وساره وطردها إسماعيل وأمه فصلا في كتابي المذكور أعلاه، الصراع على الهويّة في اللاهوت اليهودي.
وما دمنا في الحديث عن كيانات الخليج واتفاقيّات أبراهام يحضرني ما يلي كما سمعت- يقال أن نحو 100 ألف من عرب إسرائيل- دون تحفظ واعتراض على التسمية- تمكن غالبيتهم من الحصول على قروض من البنوك والقتلة والطخيخة في قراهم، فزاروا الإمارات وبعض الكيانات الخليجيّة. عاد هؤلاء مبهورين بحاويات القمامة- حاويات الزبالة الذكيّة التي ما أن تمتلئ بالزبالة حتى تأتي شاحنة لتفريغها وشحنها وتفريغها دون تدخل البشر. والإنبهار بحاويات الزبالة الخليجيّة يذكرني بالصور التي التقطها بعض الذين زاروا الأردن بعد اتفاقية وادي عربة في منتصف تسعينيّات القرن الماضي، حيث عاد هؤلاء بصور لهم بالقرب من براميل الزبالة الملونة في حيّ عبدون، أي تدمير للوعيّ والذائقة الجماليّة لهؤلاء الناس. والقادم أعظم!
نتوقف قليلاً على تأثير سياق أوسلو- اتفاقيات أبراهام على عقلية إسرائيل بالقول- أثّرت هذه الإتفاقيات كثيراً على إسرائيل، من حيث أسلوب الحكم لدى الأنظمة العربيّة، فبدأت بتقليدها. لذا يمكن للإصلاحات القضائية التي تعمل عليها الحكومة الحالية، أن تكون محاولة لخربطة أجهزة الحكم دون رقابة أو عدالة قضائية (التي لا تزال لليهود فقط)- كما هو الحال لدى الأنظمة العربيّة من أحباء صهيون، التي تحكم وتقمع شعوبها دون حسيب أو رقيب.
جذور الصراع الإيراني- <الإسرائيلي>
يجب البدء بالقول أن جذور الصراع لم تكن دينيّة بحتة- كما يبدو لغالبية الرأي العام. هنا لن نعود إلى تكرار ما هو معروف، والقائل إن <فلسطين المسلمة> تحظى بمكانة خاصة وقدسيّة عند <إيران المسلمة>. بل سنتوقف عند خمس محطات مختلفة لتشخيص وشرح هذه الجذور والأسباب:
المحطة الأولى- إذا تصفحنا مدونات التاريخ المطويّة والمُغيبّة، سنجد أن الإيراني الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (1877- 1954) أفتى سنة 1938 أن الجهاد في فلسطين (دون غيرها) واجب على العرب والمسلمين. وكاشف الغطاء كانت صفة قد أسبغت عليه لأهميته في المزج بين العلوم الدينيّة والدنيوية. ويعود نسبه إلى قبيلة نخع العربيّة اليمنية، وتلقى علومه في النجف الأشرف وبعض الحوزات الإيرانية. وبعد صدور دستور التتريك العثماني سنة 1908 بدأ كاشف الغطاء الحديث عن ضرورة نهضة وإصلاح عربيين (عربي- وليس إيراني أو فارسي). وفي خضم احتدام الصراع بين المستعمرين اليهود وحلفائهم والعرب أصدر كاشف الغطاء فتواه المذكورة. ولم يتوقف عن إصدار الفتاوى للنضال ضد الإنكليز؛ فقد أفتى سنة 1954 بضرورة محاربة الإنجليز في الكويت. كما قلنا لم تكن مرجعيته دينيّة فقط- فعندما نظّم الاستعمار في بلاد الشام مؤتمر بحمدون سنة 1954 في لبنان رفض كاشف الغطاء تلبية الدعوة والحضور ونشر بيانا جاء فيه: “ألستم أنتم أخرجتم تسعمائة ألف نسمة من العرب [من فلسطين]؟، أخرجتموهم من أوطانهم وبلادهم وشردتموهم بالصحاري والقفار يفترشون الغبراء ويلتحفون السماء. وكانوا في أوطانهم أعزاء شرفاء، يكاد يتفجع لحالهم الصخر الأصم، ويبكي لحالهم الأعمى والأصم، وأنتم لا تزالون تغرون اليهود بالعدوان عليهم. فهل فعل نيرون كأفعالكم هذه، والعجب كل العجب أنكم في الوقت نفسه تطلبون من المسلمين والعرب الانضمام إلى جهتكم، والتحالف معكم، وإبرام المعاهدات معكم، فإنكم تضربون العرب بأرجلكم ورجالكم يصفعونهم على عيونهم بيد، ويمسحون رؤوسهم باليد الأخرى” (يمكن العودة إلى البحث الذي أعده حيدر نزار عطية السيد سلمان، بعنوان- الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ودوره الوطني والقومي 2008 .
المحطة الثانية- ورثت الثورة الإسلامية الخُميّنيّة (والتأكيد على الخميني الشخص) سنة 1979، إيران ذات النزعة الإمبراطوريّة. فقامت الثورة- الدولة بقطع العلاقة مع <إسرائيل> وقطع العلاقات الدبلوماسية وتسليم سفارتها في طهران لتعساء (م. ت. ف). ثم أعلن الخميني عن يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان يوم القدس للتضامن مع الشعب الفلسطيني. ومنذ تلك الثورة استبدلت إيران نزعتها الإمبراطورية- وهذا هو تقديري- بضرورة مساعدة فقراء ومحتاجي المسلمين (والعالم). وما نراه اليوم من دعم لحركات المقاومة في فلسطين، ولبنان، وسورية، والعراق، واليمن ومساعدة فنزويلا بكسر الحصار البحري عليها سنة 2022، هو التحوّل الحقيقي في نزعة إيران، أو doctrine إيران تجاه الإقليم. وإيران ليست إسلاميّة شيعيّة غيبيّة كما يصورها أصحاب المسرحيات الغبيّة. فكلنا نعلم أنها ساندت أرمينيا المسيحيّة بحربها ضد أذربيجان الإسلامية الشيعيّة. وإيران الخمينيّة الحاليّة تشكل قوة محوريّة ضمن القوى التي تعمل على تصفية القطب الواحد وبناء عالم متعدد الأقطاب. ويعود هذا الفضل للإمام الخميني، رجل الدين الذي أدرك تمظهر مظلوميّة الحسين بن علي قبل 14 قرناً، والإسهام في ردّ الظلم عن المُسلمين الآن.
المحطة الثالثة- هذه المعطيات والتحولات كانت حاضرة على طاولات مراكز التفكير والتخطيط الإستراتيجي وأذرعها الأكاديمية والمخباراتيّة. وأعتقد أن أول من التقط هذه الفكرة وبدأ الكتابة والكرازة عنها هو رجل الإستخبارات البريطانية- الأمريكية، المستشرق برنارد لويس (1916- 1918). بدأ بالتنظير لإستراتيجيّة “الاحتواء المزدوج” لكل من إيران وتركيّا متيقناً أن القوى التي يقوم على خدمتها قد أجهزت على آمال وطموحات الأمة العربيّة، والرأس المركزي في مثلث منطقة “الدول الإسلامية” (الأمم العربيّة، والتركية والإيرانيّة). فقد سمعته يتحدث عن هذا ذات مرة في جامعة حيفا سنة 1985، وشاهدته في جامعة تل أبيب بعد سنة 2000 بسنة واحدة أو اثنتين، حينها كتبت بعض الصحف الإسرائيلية أن لويس ألقى محاضرات أمام قيادة الأركان وخبراء وبعض سفراء إسرائيل في العالم عن هذه الاستراتيجيّة. وعندما تيقنت هذه الأطراف أن تركيا التي بدأت منذ انضمامها للناتو سنة 1952، وأسلمتها على الصيغة الأمريكية منذ حلف بغداد سنة 1956 أصبحت إيران الشاه ضمن هذا الحلف. انطلق منه التعاون الإسرائيلي التركي، الإيراني والإثيوبي. لكن مع انتصار الثورة الإسلاميّة سنة 1979، بدأ التحوّل الدراماتيكي في الإقليم بانسلاخها عن التبعيّة للإمبريالية وبداية حصر التحرر القومي الواضح. فكانت خسارة إسرائيل وأمريكا لإيران عظيمة ومزلزلة- كما هي الآن (إن ما حدث لها يمكن أن يحدث في تركيا مستقبلا. فخسارة حزب أردوجان الانتخابات البلدية في تركيّا مردّه موقفه المؤيد لإسرائيل في طوفان الأقصى- كما نقل سياسيون عن أردوجان تحديداً. وبما أن تركيا، باتت ضمن توابعهم، أبقوا على العداء لإيران، التي تحولت اثناء حكم نتنياهو إلى هَوَس، تحديداً عندما بدأت مشروعها النووي والصاروخي، لم تتمكن إسرائيل من تداركه (نتنياهو- يعني إسرائيل من الباب إلى المحراب). ونتيجة لسياسته التي لم تأخذ بمبدأ دور روح الأمم في التاريخ حطّت إيران في لبنان، وسوريا- الجولان وغزّة، أيّ ‘خلف الشبّاك’- كما يقال. أي أن إسرائيل لا تزال مصابة بعمى مطلق في تقدير نتائج عقيدة مرآتها المتقابلة.
إلى جانب فشل برنارد لويس في هذه القضيّة فإنه تحول إلى شخصيّة عديمة القيمة إذا ما قرأناه على ضوء الاستشراق 1978 لإدوارد سعيد (1935- 2003)، فإن مؤلفاته على ضوء تطور مناهج البحث التاريخي والتأريخ باتت سخيفة لا يعتّد بالكثير منها طالب حصيف في سنته الجامعيّة الأولى. عداء لويس للعرب والمسلمين أفقده صوابه. فقد ادعى في الكتاب الذي وضعه، نصان يهوديان حول بدايات الإسلام 1958، وأعده للنشر بالعربيّة سنة 1998، نبيل فيّاض (1955- 2022)- أن الراباي شمعون بار يوحاي الذي عاش في القرن الثاني تنبأ بظهور الإسلام في القرن السادس. هذا ما نقرؤه في النصيّن اللذين ترجمهما فياض إلى العربية من الإنجليزية. نشير هنا إلى أن لويس وفيّاض كتبا وأدانا الغيبيّة الإسلاميّة آلاف المرات، إلا أنهما ولعماهما العنصري يبدو أنهما فقدا صوابيهما نتيجة عداءهما الأعمى للمسلمين تحديداً، واستغباءهما للأوساط الأكاديميّة والقراء. كتب فيّاض لي ذات مرّة رسالة في إطار نقاش حول الرسالة اليمنية لابن ميمون (التي حققتها ونشرتها سنة 2018)، ادعى فيها أنه حققها، لكنه ترجمها من لغة ما، كتب يقول لي بأنه يحبّ الصهيونيّة ودولة إسرائيل وله فيها أصدقاء مثل دافيد كِمحي (كان مدير عام سابق لوزارة الخارجية الإسرائيليّة). وفيّاض كان من أقطاب <الثورة> السوريّة. ملاحظة أخيرة- حال إسرائيل- نتنياهو مع إيران، هو كحال أمريكا- نيكسون، الذي استشار أمين عام الأمم المتحدة، كورت فالدهايم، قبل زيارته للصين سنة 1970، فقال فالدهايم- اتركوا الديناصور الصيني نائماً ولا توقظونه!
المحطة الرابعة- إضافة إلى ما ذكرناه في (المحور الرابع) عن هدف اتفاقيات أبراهيم، الذي هو طرد فلسطين والفلسطينيين من وطنهم وتاريخهم، تيقنت إيران أن فشل <إسرائيل> وكيانات الخليج في شنّ عدوان مسلح عليها، ستجعلها تعمل مجتمعة على حصارها والتضييق عليها، على شكل مراكز أبحاث- وتلفيقات طائفيّة ومذهبيّة مكثّفة، ومراكز تجسس، والإعلان علانيّة عن التعاون الإسرائيلي- الخليجيّ. لذا بات عليها الاستعداد ولربما أن تبدأ هي بمواجهة مسلحة مع <إسرائيل> ولو بواسطة حلفائها وشركائها في المنطقة. وما حدث في السابع من أكتوبر سنة 2023 ليس بعيداً عن هذه القراءات.
بعد أن تعرفنا على محاور مكونات الهويّة الإسرائيلية، الجليّة والخفيّة؛ وجذور الصراع ضد إيران (والعرب). نستنتج أن المحور المركزي فيها والمحطات التي تتخلله، هو اليهوديّة، عليها تم تركيب المسيحيّة الإنجيليّة التي كانت أول من نظر لضرورة <إعادة اليهود إلى وطنهم وإقامة دولة إسرائيل>، الاستعمار و<الحداثة الأوروبيّة>، نكبة فلسطين، العداء لإيران، اتفاقيات أبرهام، إبادة غزّة واحتمال تحويل المنطقة إلى شلالات من الدم.
<إسرائيل> نحو التطرف الديني والليبرالية
جرت الانتخابات في <إسرائيل> في السنوات الأربع الأخيرة كما تابعتها وكتبت عنها عدة مقالات على النحو التالي- “يهودية- يمينية- متطرفة مقابل يهودية- يمينية- ليبرالية”. في هذا السياق لا يهم من فاز ومن لم يفز، لأن الفائز هو القاعدة التي انطلقت منها كل القوائم الانتخابية اليهودية، ألا وهي تعزيز النزعة اليهوديّة. ولا يهمنا (الّلا)فرق بين شدّة عِيار مكوناتها عند كل قائمة. فكلهم من نسل أبراهام وساره اللذين، وبعد أن فشلا في طرد الولد إسماعيل وأمه/ هاجر قبل عشرات القرون، يتفقون اليوم على ضرورة محاولة طرد نسليهما، عرب فلسطين. فهؤلاء متخاصمون كل واحد منهم على <حصته> من أرض ودم ومستقبل العرب، يشتم الواحد منهم الآخر، لكنهم يقفون ضد العرب وقفة رجل واحد.
المحور الخامس- بعد معركة سيف القدس لسنة 2021 وتصاعد كثافة نضال عرب 48 ضد محاولة المُستعمرين اليهود السيطرة على حيّ الشيخ جراح في القدس، أصدر “مجلس الأمن القومي الإسرائيلي” تقريرة سنة 2022 قائلا فيه أن إسرائيل يتهددها ثلاثة مخاطر استراتيجيّة -إيران، وحزب الله و<عرب إسرائيل>. يدل هذا على قدرة عقل <إسرائيل> الأمني الاستراتيجي على فهم دولة على عتبة امتلاك القوة النووية بحجم إيران وجماعات لا مرجعية وقيادة كعرب 48.
بعد كل هذا الوصف والتحليل، يُطرح السؤال التالي: هل سببت هذه الهويّة مشكلة لأصحابها وحاولوا تداركها؟ نعم- يمكن القول أن نشأة المسيحيّة من رحم اليهوديّة (بحسب العقيدة المسيحيّة) هي المحاولة الكبرى وليست الوحيدة في تاريخها؛ وهي التي حدّت- على ما أعتقد- من انتشار اليهوديّة مثل الإسلام. فالأناجيل الأربعة وبقية الرسائل تخبرنا بدقّة عن التحدي التي جاءت به المسيحيّة، بدءاً من الملكيّة العامة، مروراً بالتخلي عن الناموس لصالح النعمة، وصولا بإخراج الرسالة المسيحيّة من القبيلة اليهودية إلى العالم كافة. فقد أدرك يسوع المسيح أحد مؤسسي المسيحيّة، إشكال ثنائية الإله المتعالي واليهودي الكائن الصغير. فحاول من بعده حلّها في ثنائية- لاهوته هو (إي الإله) وتجسده هو (أي الإنسان)، مبتدئاً بالقَطْع وتفكيك الشريعة بتخليصهم منها وإدخالهم إلى عصر النعمة دون شرط، حين خصّهم وحدهم دون غيرهم من الجماعات الإنسانيّة الأخرى برسالته محاولاً إخراجهم من دائرة القبيلة، حين قال: “لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ” (متّى 15: 24). أما اليهودي شاؤول، الذي كان يعرف بتشدده للشريعة اليهوديّة، والذي أصبح فيما بعد- الرسول بولس، وأصبح ركنا لا يمكن التنازل عنه في العمارة المسيحيّة، هو الذي أخرجها بالكامل من دائرة القبيلة إلى العالم الرحب بقوله: “ولا فَرقَ الآنَ بَينَ يَهودِيّ وغيرِ يَهودِيّ، بَينَ عَبدٍ وحُرّ، بَينَ رَجُلٍ واَمرأةٍ، فأنتُم كُلّكُم واحدٌ في المَسيحِ يَسوعَ. فإذا كُنتُم لِلمَسيحِ فأنتُم، إذًا، نَسلُ أبرهام ولكمُ الميراثُ حسَبَ الوَعدِ” (رسالة غلاطية 28:3- 29)، و”فليتقبلكم جميعًا بعضكم البعض كما تقبلنا المسيح أيضًا لمجد الربّ. لأن المسيح لم يأتِ لخدمة يهودي أو يوناني، بل لخدمة المختون من جهة الناموس والغير مختون من جهة الإيمان (النعمة). فإذًا نحن خادمون للمسيح في سبيل إيمانكم، كل واحد بحسب الهبة التي أعطيت له من الله” (رسالة رومية 7: 12- 15). يجب أن نذكر أن مهمة المسيح مع اليهود كانت قاسيّة جداً انتهت بالتحريض وصلبه ومغادرته ميدان رسالته.
نشأة المسيحيّة لم تكن المرّة الوحيدة التي يمدّ التاريخ فيها حبل الخلاص لليهودية. فقد حاول الإسلام- على خلاف مع المسيحيّة- بأسلمة اليهود واحتوائهم في الدين الجديد. وما اعتناق عديد من اليهود خلال فترة التأسيس الإسلامي وبعدها إلا محاولات فقط. كما يمكننا اعتبار تأثر فقهاء اليهودية، كموسى بن ميمون، وسعد الفيومي وشموئيل بن علي تحديداً إلا محاولات لحلّ الإشكاليات التي صنعها اليهود بأنفسهم. فاليهوديّة الخلاصيّة واليهود الخلاصيون، رفضوا الخلاص الذي عرضه عليهم يسوع المسيح والمسيحيون. إنها مفارقة معقدة كثيراً، كالأطفال الذين يرفضون التخلي عن ألعابهم المؤذية مقابل الحصول على ألعاب ممتعة أكثر. (قال فرويد أن الأديان تنتمي إلى عصر طفولة البشريّة). واللا-خلاص هو تحول إلى جوهر الصهيونية و<إسرائيل>.
تستمر المحاولة، عند اليهود، كحالة ماركس، الذي تحولت عائلته منذ كان طفلاً في الثامنة من عمره إلى البروتستانتيّة ثم تخلى نهائياً عن الإنتماء الديني- كارل ماركس (1818- 1883) في المسألة اليهودية، الذي ربط بينها وبين الرأسماليّة مؤكدا أن النضال ضدّها هو نضال ضد الرأسماليّة. أي محاولة خلاصيّة أخرى، تخلص اليهود من يهوديتهم وتخلص الإنسانية من الرأسماليّة.
تستمر المحاولة عند يتسحاق دويتشر (1907- 1967) في كتابه اليهودي اللا يهودي، وقد جمعت زوجته تمارا مقالاته وأصدرتها بعد وفاته: يقول دويتشر أن اليهود- إسرائيل تمكنوا من عضّ فلسطين إلا أنهم لم يتمكنوا من ابتلاعها. وأن الحاخامات هم من سيسيطرون مستقبلا على السلطة في <إسرائيل>، وأن حربها ستصبح أبديّة [إذا لم يقم العرب بإيقافها]. فدويتشر الذي درس في المدرسة الدينية الحسيدية في كراكوف أعلن إلحاده في سنّ العشرين. وفيما بعد، اكتشف أنه ينتمي إلى سلالة “الفئة” من اليهود، مثل سبينوزا [الذي استعار مدخل تفكيره من الرشديين اليهود المطرودين من الأندلس إلى هولندا]. هيوم وماركس، وروزا لوكسمبورغ، وتروتسكي، وفرويد. يقول عنهم: “الهرطوقيون اليهود الذين يتجاوزون الشرط اليهودي، هم أصحاب تقاليد قديمة […] جميعهم ذهبوا إلى ما بعد حدود هذا الشرط. فجميعهم وجدوه شديد الضيق، شديد البدائية، شديد السطوة. بحثوا عن مثالاتهم وعن إنجازاتهم خارج هذا الشرط” (عند دلال البزري، القدس العربي 21 نيسان 2024).
نواصل رصد أزمة اليهودية واليهود في وقتنا الراهن- كان الزوجان، عادي أوفير وأرئيلا عائشة أزولاي قد كتبا سنة 1998 في الذكرى المئوية الأولى للمؤتمر الصهيوني حول ضرورة حلّ دولة إسرائيل لصالح دولة لليهود والعرب، على أن تكون عربيّة الطابع لاستيعاب اللاجئين. فأوفير المتخصص في فلسفة الأخلاق، ينطلق من العنف اللامنطقى ولا أخلاقيّة الإله اليهودي (اليهودية وإسرائيل) في كتابه- In the beginning was the state: divine violence in the Hebrew Bible 2023. (يوجد نسخة بالعبرية لكتاب أوفير تعود إلى سنة 2013). أما أزولاي المتخصصة في الأنثروبولوجيا البصريّة فتعتبر شاهدة من خلال مجموعات الصٌّوَر الفلسطينيّة التي تبحث فيها قبل النكبة وبعدها على حجم الدمار، الذي أوصى به الإله اليهودي ونفذه اليهود وإسرائيل. وإله اليهود، يهوه، “المعروف عنه منذ زمان بعيد أن فيه ما لا حصر من النزوات والغضب”- كما يصفه كارل يونج- بين يهوه وأيوب 1952.
أما شلومو ساند، الذي فكك في كتابه كيف لم أعد يهوديًا 2014 الأساطير والأباطيل اليهودية الداعمة لاستعمار فلسطين، فيتساءل قائلاً: “كيف يستطيع شخص ليس مؤمنا أو متدينًا، بل إنسانويا ديمقراطيا أو ليبراليا يتمتع بحد أدنى من النزاهة، أن يستمر بتعريف نفسه كيهودي؟” وبما أنه شخص نزيه أجاب بنزاهة وتخلى عن اليهودية. ثم يختم كتابة بنتيجة باتت بعد طوفان الأقصى والضربة الإيرانية، حاضرة في العديد من الأدبيات النقدية الإسرائيلية والداعمة لها على طاولة البحث، قائلا: “إنّ مستقبل هذه (المملكة الصليبية) الجديدة، وكيلة العالم الغربي في قلب الشرق، يكتنفه الشك”.
ما عرضناه حتى الآن من مواقف لفلاسفة ومفكرين يهود حاولوا إيجاد حلّ لاشكاليتهم اليهوديّة في المقام الأول. لكن خبير الدراسات المُستقبلية، دافيد باسيج، يذهب إلى ما هو أبعد وأكثر تعقيدا من ذلك، في كتابه السقوط الخامس- كيف بإمكان دولة إسرائيل التخلص في المستقبل من التاريخ اليهودي 2021، يبحث في أزمات اليهود في تاريخهم، وعلاقاتهم الداخلية مع الشعوب الأخرى. يقول باسيج أن الخطر الذي يتهدد المجتمع الإسرائيلي في حرب أهلية داخليّة قادمة لا محالة، مردّه بالأساس التطرف اليهودي المتصاعد، الذي قد يؤدي إلى انهيار دولة إسرائيل. كان باسيج محقّاً حين انطلق من التطرف اليهودي، لأنه يدرك أن (وطأة ثلاثة آلاف عام- عند يسرائيل شاحاك) باتت عبئاً على دولة إسرائيل ويهودها. لذا يطرح سؤاله المذكور، الذي على ما يبدو سيبدأ البحث عن حلّ له في كتابه الجديد- السقوط السادس.
حسناً- يمكن القول أن المستعمرين اليهود في فلسطين ورثوا هذه المصيدة، التي اعتبروها إنجازاً لا يضاهيه أي إنجاز لأية جماعة في تاريخ البشريّة. فهذه المصيدة، أي عدم إدراكهم لضرورة الخلاص من مآسيهم وفشلهم، تتجلى في السلوك العنيف المنفلت من عقاله كإله التناخ، وما تمارسه الدولة، وأدواتها ونخبها ضد عرب فلسطين، والغزّيين على وجه الخصوص. فمنذ بدء طوفان الأقصى استعادوا فكرة إنتاج الكارثة النازية وما إلى ذلك من مفاهيم وممارسات (…). أما فيما يخصّ الضربة الإيرانية فقد كان فهمهم لها ضمن ثنائية (انهيار قدرة الردع الإسرائيلية- و”الانتصار”)- نعم الانتصار- فقد انتصروا لأن القوى العظمى في المنطقة وبعض توابعها العربيّة عملت على إسقاط العدد الأكبر من المسيّرات والصواريخ- كما يشيعون، رغم تأكيدهم على أن الصواريخ التي أطلقتها إيران على القواعد العسكرية والنقب والجليل أصابت أهدافها- أي أن هذه القوى هي التي أنقذت كيانهم. هذه عقلية الطفل الذي تدوسه الشاحنة كلما خرج <للعب> في الحارة مع أترابه، لكنه لا يُقتل لألف سبب وسبب، مع ذلك يبقى متمسكاً بالخروج وقطعة الحلوى التي في يده ستصيبه بالسكري إذا ما استمر بالاحتفاظ بها كلما خرج إلى الحارة. فهذا الطفل يؤمن إيماناً مطلقاً أنه كلما داسته شاحنة (ولو إيرانيّة) سيأتي من ينقذه منها، ليطالبه هذا الطفل بالمزيد من الدعم والتأييد له لأنه من أبناء النور وداعميه هم من أبناء الظلمة- كما فعل قباطنة الدولة ونخبها عندما طالبوا أمريكا وأوروبا بمزيد من الدعم. كما طالبوا السعودية بالعودة إلى اتفاقيات أبراهام، والإمارات، والأردن ودول الخليج بإقامة تحالف إقليمي ليحموها هي على حسابهم. عبّر عن عقلية الطفل هذه، المحرر السياسي لصحيفة هآرتس، يسرئيل هرئيل، صحيفة النخب اليهودية في العالم، قائلا في مقال له بتاريخ 23 نيسان 2024، إن إيران- والمثير هنا يُسقط حالة دولة إسرائيل على إيران- المحاطة بالأعداء من كل جانب تحارب من أجل البقاء. ففي حدود معرفتي ومعرفة العامة من المهتمين في السياسة، أن إيران لم تحارب يوما من أجل البقاء، بل- على العكس فإن إسرائيل هي التي تعترف أنها تحارب من أجل البقاء. فأصبح السؤال الجوهري عند صانعيها وداعميها: هل أصبحت إسرائيل عبئاً على علينا. وهل علينا الاستمرار بتمويلها والاحتفاظ بها؟
ختاما- لا-خلاص ولا- حلّ!
ما أريد إضافته في هذا المقال ما يلي: إن (اليهود) <إسرائيل> التي تعاني بصورة مزمنة من ثنائية قطبيّة، نحن اليهود أبناء النور- وإيران الجوييم أبناء الظلمة. <إسرائيل> الصغيرة في كل شيء، الكيان الوظيفي التابع في كل شيء، تعاني أزمات داخليّة ووجودية مع المحيط العربي (- الإسلامي) الذي زُرعت فيه، نظرت في مرآتها- المصيدة (الوحيدة) فشاهدت إيران- الدولة القوميّة العضوية في منطقتها، المحاصرة من أكثر من أربعة عقود، والتي تطورت في مجال الغذاء والصناعات الخفيفة والعسكريّة المتطورة لدرجة الاكتفاء، وأصبحت دولة على عتبة امتلاك القنبلة النوويّة- وكأنها هي (أي إسرائيل)، تحارب من أجل بقائها ضمن ثنائية جديدة (إيران وليس إسرائيل- إسرائيل وليس إيران). فهذه المحاور والحدود هي محدودية إسرائيل في فهم إيران والتعاطي معها. ومنها (أيضاً) جاء عدم قدرتها على إدراك معاني وأبعاد الضربة الإيرانيّة.
نختم بالقول؛ أن ثنائية العقلية اليهودية- <إسرائيل> التي أنتجت المصيدة والأفكار الخلاصيّة لليهود- الصهيونيّة- إسرائيل، لا تعمل للإنفكاك منها. فمنذ بدء طوفان الأقصى، الذي لا يجاريه لا طوفان جلجامش ولا طوفان الأديان اليهمسلاميّة، طرح بعض ‘العقلاء’ العودة إلى فكرة حلّ الدولتين، على أمل الخلاص من إيران بدرجة أولى وتهدئة عداء وعنف العرب ضدها مؤقتاً، لكنها تواصل البقاء داخل مصيدتها هي: اللا- حلّ/ اللا- خلاص!