أمد/
في ما يلي بعض الملاحظات على المقال المذكور في العُنوان، للدكتور ميشال الشمّاعي والمنشور في التاسع والعشرين من نيسان 2024، على الرابط أدناه. مُتّعت بقراءة ما جاء به الكاتب.
أوّلًا يجب التمييز بين مستويات العربية المختلفة، وعن أيّة عربيّة حيّة يدور الحديث، وما المقصود بالضبط بلغة حيّة.
الشقّان الأساسيّان للغة العربيّة هما اللغة المِعياريّة الحديثة (MSA -Modern Standard Arabic) والمحكيّات/اللهجات وما أكثرها. ثمّ يجب الإقرار بالواقع المغيّب بأنّ هذه اللغة المعياريّة ليست لغةَ أُمّ أيّ/ة عربي/ة. لغة الأمّ وَفْق تعريف علم اللغة المعاصر، هي لهجته المحليّة، والبون بين لغة القوميّة/التراث والمحكيّات ما زال واسعًا وعميقا، إذ أنّ نسبة الأمّيّة في العالم العربيّ ولا سيّما النساء، مربّيات الأطفال، ما زالت عالية. لا وجودَ لأيّ نمط لغويّ منطوق يوحّد جميعَ العرب والناطقين بالعربيّة قُرابة الأربعمائة مليون إنسان؛ والقول ذاته ينسحب بصدد اللهجات، فهي تفرّق ولا توحّد. العربيّة المعياريّة تكون بمثابة لغة مشتركة لكلّ العرب الذين يُجيدونها وهم أقلّيّة. هذا النمط اللغويّ حيّ في الكتابة، ولحدّ ما في إلقاء المكتوب الجاهز من محاضرات وخطب وعظات إلخ. وأقلّه الارتجاليّ وهو نصف الحيّ.
لا يحيد المرء عن الصواب إذا قال بأنّ العربيّة الفصيحة الحديثة/المعياريّة ليست لغةً حيّة بالمعنى المتعارف عليه، إنّها غير محكيّة بنحو طبيعيّ في كلّ المناسبات والحالات اليوميّة وغيرها بالمرّة. معظم معلمّي العربيّة في جميع المراحل التعليميّة، ابتداءً من الصفّ الأوّل وحتّى الجامعة، يعلِّمون هذه اللغة المكتوبة بإحدى اللهجات المحكيّة. في جُل الحالات، على ما يبدو، لا يُجيد المدرّس هذا النمط اللغويّ، ويا للدهشة يُطلب من التلميذ الغضّ الكتابة به. لا نُفشي أيّ سرّ دفين إذا قلنا بأنّ ظاهرة تدنّي مستوى العربيّة المعياريّة لدى أبنائها واضحةٌ وضوح شمس تمّوز وآب في بلادنا.
نقطة أخرى هامّة جدّا في هذا الصدد: كلّ طفل في العالم يمتلك قدرة ذهنيّة خارقة لاكتساب أيّة لغة يسمعها بشكل طبيعيّ في البيت وفي محيطه في السنوات الخمس أو الستّ الأولى من عمره. هذه النعمة/القدرة ، وهذا معروف علميًّا منذ زمن، تأخذُ بالانحسار والتضاؤل بمرور الزمن. الطفل العربيّ يسمع في هذه السنوات المصيريّة جدًّا من حيث اكتسابُ اللغة وحتّى نهاية حياته لهجة محليّة معينّة أو أكثر بحسب الظروف والأماكن التي يمكث فيها، ونصيب المعياريّة قليل والقراءة أقلُّ وهي أهمّ روافد اكتسابها. أطفال العالم يقرؤون ليفهموا ويعرفوا ويذوّتوا، في حين على الطفل العربيّ أن يفهم أوّلًا ليقرأ ثانيًا قراءة صحيحة، وأحيانًا قد يفهم والقراءة غير سليمة. بعبارة أُخرى، على الطفل العربيّ أن يُجاهد في سبيل معرفة أداة المعرفة قبل أن يصل إلى المعرفة ذاتها.
أمامَنا معضلة جوهريّة وبحاجة لحلّ كي تأخذ اللغة المعياريّة الميسّرة مكانها اللائق في عمليّة التربية والتعليم، في المراحل الأولى وتجنّب تدريس أيّة لغة أخرى بجانبها، فيشتدّ عودها في آخر المطاف، في المرحلة الجامعيّة. إنّ الأُمم التي تحترم لغاتِها القوميّة قد أحرزت مكانة مرموقة في العلم والمعرفة في شتّى الحقول. كلّ عضو لا يعمل سيندرس لا محالة، هذه سُنّة الطبيعة. لغة الأمّ مهما كانت قواعدها، لفظًا وصرفًا ونحوًا مركّبة ومعقّدة، فأبناؤها يملكون ناصيتها بالفِطرة، وشتّان بين هذه المعرفة الطبيعيّة المتأصّلة بالفِطرة، والمعرفة كلغة ثانية أو ثالثة مرتكزة على حفظ القواعد والشواذّ والبصم ومحاولات التطبيق. إنّ بداية الحلّ تكون بتوفير الظروف المناسبة للطفل للانكشاف لهذا النمط العربيّ المعياريّ بجرعات كافية (اُنظر تجربة الدكتور الفلسطينيّ عبد الله مصطفى الدنّان 1931-2022) وتأهيل المربّي، واستخدام الوسائل التقنيّة الحديثة، وأوّلا وآخرًا محاولة غرس المحّبة للغة في نفوس فِلَذات أكبادنا واختيار الكتب والمناهج الصحيحة واستخدام علم القواعد الوظيفيّ الحديث. أمامنا عمليّة تراكميّة طويلة الأمد ولا حلول سحريّة. إنّ وجود كتاب مقدّس للغة ما، لا يعني بالضرورة حمايتها من الانحسار فالاندثار. اللغة العبريّة انقرضت كلغة محكيّة مدّةَ سبعة عشر قرنًا من الزمان بالرغم من وجود كتابها المقدّس التناخ بالعبريّة.