أمد/
حسين البرغوثي! ذلك الوجه الأشقر الطيّب العميق! الذي كان عائداً من جامعة بودابست،أواخر السبعينيات، ولم يتخرّج، فجاء إلى جامعة بيرزيت. كان حسين مِمَن هزّ قناعاتنا ورجّ المُسلّمات فينا، وأشاع في وعينا تلك الحرائق الصعبة. كان موسوعيّاً، نمضي معه الليالي بطولها استماعاً وأسئلةً، فكان المعلّم الأحقّ بهذا الاسم. كان يعرف جهلنا فيمزّقه، ويأخذنا إلى الأسئلة اللامتناهية. لم يكن لديه سقف أو مُقدّس ولا يؤمن بالتابوات والمحظورات، فكان يسوح ويشكّك ويفاجئ ويجيب ويسأل..
***
نَستذكرُ الصَّديقَ حسين مثقّفاً خاصَّاً أرادَ لمعرفتهِ أنْ تصلَ بهِ إلى الحِكمة ؛ الحكمةِ التي تستوعبُ الكونَ، باللُّغةِ واللَّونِ والحَركةِ وقانونِ الفيزياء، الحكمةِ التي لا تَتوقَّفُ عندَ ذاتِها، حتَّى لا تتحوَّلَ إلى قَالبٍ جاهز. كان حسين يرغبُ بحكمةٍ مُتحوِّلةٍ لا تتوقف، حكمةٍ نقيضَ نَفْسِها وذاتِها، وكأنَّها معنى الخَلْق. كان يريدُ أن يقبضَ بأصابعهِ على تلك القوانينِ التي تحكمُ الزَّمنَ والحركةَ والمكان، ليسَ من خلالِ أدواتٍ معرفيّةٍ صارمةٍ فحسب، وإنَّما بوساطةِ الكشفِ والإلهام، وربَّما كان هذا يختصرُ سيرةَ هذا المبدعِ الفلسطينيِّ الذي أضاءَ ومضى. فمن ماركسيّةٍ شموليَّةٍ تدَّعي تفسيرَ العالم وتدَّعي تغييرَه، إلى هيجلَّيةٍ تبحثُ عن “الكلِّي” و”الشَّامل”، ومنها إلى نيتشويَّةٍ تطمحُ إلى ذاتٍ عُليا قويَّةٍ لا تعترفُ بالضَّعفِ أو الجموع، إلى إلهاميَّةٍ صوفيَّةٍ كشفيَّةٍ تعتمدُ اللُّغة وسيلةً وهدفاً في آن.
كم كان حسين مشغولاً بالكُليِّ والشُّموليِّ والعرفانيّ!
وكأنَّي بهِ في أيامهِ الأخيرةِ قد أدارَ ظهرَهُ للعِلمِ الموضوعي، واستقبلَ عِلماً آخرَ يُقْذَفُ إلى الصَّدرِ قذفاً. هذا المبدعُ الذي صاغَ هذه المقولاتِ الكُبرى، في بحثِها عن المعاني، وفي ادِّعائها بامتلاكها، دفعتهُ إلى دراساتٍ وابتكاراتٍ جديدةٍ ومغامِرة، فيها أصالةٌ حقيقيةٌ، لأنَّها انبثقتْ عن معاناةٍ حقيقيَّة.
ففي كُتبهِ النقديَّةِ الأُولى كـ”سُقوطِ الجدارِ السَّابع” و”أزمةِ الشِّعرِ المحلِّي”، اكتشفَ وكشفَ خواءَ النصّ الشِّعري المحلِّي لغيابِ المكان فيه، ولغيابِ التَّفاصيل، ولغيابِ اللَّونِ والحركةِ والصَّوت. لهذا لم يَرَ غير الأسدِ روحاً في أبي المحسَّد، لأنَّ صاحبَ السوبرمان كان حاضراً بإعجابهِ الطَّاغي بالقَويِّ الذي رآهُ في السَّيفِ الأمير، وادَّعى أنَّ الشَّاعرَ لم يَرَ النَّاسَ والضُّعفاءَ والمُرتمينَ على رصيفِ التَّاريخ. ولم يَخلِطْ المرايا لتسيلَ بهدفِ بَحْثٍ عن شكل جديدٍ بقدرِ محاولتهِ هندسةَ رؤيةٍ عقليَّةٍ أو كشفيَّةٍ إلهاميَّةٍ تمنَّاها وآمنَ بها، مثل الجَبْرِ المُفَكَّكِ الصَّادرِ عن واحدٍ فقط . ولعلَّ التَّجريبَ الشَّكلانيَّ تجربةٌ خاصَّةٌ بحسين، ولم تكنْ تجربةً مجتمعيَّة. وفي روايتهِ “الضفةِ الثَّالثةِ لنهرِ الأردن” يمكنني أن أقولَ: إنَّه كان من أوائلِ الرُّوائييِّنَ الفلسطينيِّينَ الذين كتبوا بأُسلوبٍ سرديٍّ حداثيٍّ، تداخلتْ فيهِ الأصواتُ والأزمنةُ والأمكنة، وغامرَ بتقديمِ شخصيَّةٍ لا تدَّعي البطولةَ ولا الأخلاق، وإنَّما شخصاً عاديّاً يواجهُ الكونَ منفرداً.. كان ذلك أمراً غيرَ معهودٍ في الثَّمانينيات.. ولكن هذا هو حسين البرغوثي جديداً مفاجئاً ومُبتكراً.
وحسين كان يرغبُ أن يكون شاعراً، كانت تُغريهِ هذه الصِّفةُ ويُحبُّ أن يتزيّا بها، لهذا كتبَ ديوانَهُ الرَّائعَ: “ليلي وتوبة”، وفيه أرادَ من اللُّغةِ ما تخبّئ ؛ أراد أن يُحاول إمكاناتِ اللُّغة، وأنْ يستخرجَ آخِرَ ما في النصّ. كانت القصيدةُ في هذا الدِّيوانِ جزءاً من معاناةٍ روحيّةٍ طويلة، أرادَ منها أن تكونَ إحدى الاحتمالاتِ المُمكنة، ولكن الاحتمالَ الأجمل. هذه المعادلةُ الصَّعبةُ حاولَ أن يطبِّقَها في دواوينهِ كلِّها، حيثُ القصيدةُ تَحملُ معها موجوداتِ العالمِ البصريَّةِ والسَّمعيةِ والهندسيَّة، تحاولُ أنْ تثبتَ أنَّها القصيدة الأكثرَ قُرباً من الحقيقة، ولكن حسين، ذلكَ الموسوعيَّ، الذي قرأَ وتمثَّلَ لم يتوقَّفْ عندَ هذا المقدَّسِ البَهي؛ الشِّعر، فقد كتبَ الدِّراساتِ المُبْتَكَرةَ التي لم يَسبِقْهُ إليها أحد! ففي كتابهِ “السَّادن” أشارَ بطريقةٍ فَذّةٍ إلى الرُّموز والدَّلالاتِ الكُبرى الروحيّةِ والدِّينيةِ والأَنثروبولوجيَّةِ التي حَكمتْ الإنسانَ العربيَّ قبلَ الإسلام، وأثبتَ كيف كانت على وشكِ الانهيار، وأنَّها وصلتْ إلى المرحلةِ ما قبل التَّفكك. وفي دراستهِ عن “النَّاقة” في الشِّعرِ العربيِّ الجاهليِّ أثبتَ بطريقةٍ مُعجزةٍ كيفَ أنَّ فَراغَي البحرِ والصَّحراءِ كانا أساسَ الإيقاعِ والوزنِ في بيتِ الشِّعر العربي، وربَّما كان حسين من أكثرِ الباحثينَ أصالةً في إشارتهِ إلى النَّقصِ الإيقاعيِّ في أوزان الخليل بن أحمد، من خلالِ ما أشارَ إليهِ حسين من النَّقص في التَّفعيلاتِ الطَّويلة، وتتجلَّى عبقريةُ حسين في أنَّه لم يعتمدْ على ما اجترَحهُ كمال أبو ديب أو كمال خير بك وآخرون، والذين اقترحوا نظاماً إيقاعياً بديلاً يقومُ على العلاقةِ ما بين الحُروفِ الصَّامتةِ والصَّائتهِ وعلى الحركةِ الثَّقيلةِ والخَفيفة، كما في “الفونتكس” الغربي، على اعتبارِ أنَّهم تَرجموا ومن ثم طَبَّقوا المنهاجَ الغَربيَّ على الشعرِ العربي، أما حسين البرغوثي فإنَّه ابتدعَ منهجاً معرفياً يقومُ على دراسةِ الظَّاهرةِ بشروطِها وخصوصِيَّتها من خلالِ مُتابعةِ حركةِ النُّجومِ والطَّوافِ حولَ الكعبةِ المُشرّفةِ لتأسيسِ نظامٍ إيقاعيَّ يُقارِبُ الموسيقى في الشِّعر العربي.
وفي دراساته تلك نُفاجَأُ بأنَّ حسين – رحمه الله – لم يكن يكتفي بأدواتِ المعرفةِ العلميَّة، وإنَّما كان يعتمدُ على كشفهِ وإلهامه.
في مسرحيته “لا لم يمت” كان يرغب في أنْ يملأَ العالمَ، وأنْ يملأَهُ العالم. وفي “الضوء الأزرق” رأينا تلك الرُّوحِ القلقةِ التي تبحث لها عن موقعٍ جديد، ليست بالمُرَاقِبَةِ فقط، أو المشاركةِ فحسب، بل في الخَلْقِ، أيضاً. “الضوء الأزرق” سيرةٌ جوّانيةٌ مفاجئةٌ للذَّائقةِ السَّائدة، حيث رأينا فيها الينابيعَ الأُولى للقلقِ والفنِ والمعرفة، وقدّمتْ إنساناً مفتوحَ القلبِ والعينِ على الحياةِ التي رآها مُربكةً وتستحقُّ التَّبؤرَ والانشغال، وكلّ ذلك تمّ بعُري وصراحة، وربَّما فظاظة.
أما في “حجر الورد” التي أرادَ فيها أن يصفَ إنسانَهُ الأعلى، يقول عنه، أو عن نفسه: وكأن التَّوترَ وطنهُ الأُم.
لكَ الله يا حسين هذا التَّوترَ العاليَّ الذي جعلَ منكَ هذا المبدعَ الذي نتفيّأه اليومَ أُنموذجاً للمثقفِ الأصيلِ والباحثِ على ضَوءٍ من شعاعٍ أزرقَ ؛ أكثر الأشعّةِ وأقصرِها وأنسبِها للرؤية. إننا نراكَ، فأنتَ كما هجستَ: لا لم تمت!
***
ولم تكن ثقافة حسين صحراوية أو موسمية، بل كانت شاملة، منفتحة، لم يبهره منبع دون آخر، بقدر ما كان يأخذها بين يديه ثم يشرب أكثرها صفاء وعافية وجدّة.
وكان حسين من المثقفين القلائل الذين لم يستلبهم بُعد واحد، لهذا لم يكن من المثقفين الآليين أو المكرورين النمطيين، المعبّأين بمعلبات جاهزة ومقولات باهرة قادمة من البعيد. كان مثقفاً يعجم ويسبر غور الكلام، ويدرك بوعي شديد أن ثمّة ثقافة محمولة على القوّة تدهم ثقافتنا وتحطّمها، وتحلّ مكانها.. لهذا كان يأخذها بحذر، وينتقي القمح من أكوام زوانها، وينبّه لما تسعى إليه من اقتلاع وعدمية.
ولعلّ أهم ما يميّز حسين، فيما كتب، أنّه أكثرنا جرأة في حقول التجريب، واجتراح مضمون يأخذ من كل مكوِّن ثقافي أكثر عروقه قوّة وبريقاً، كأنه كان يسعى لتقعيد رؤية نقدية تفتتح عهداً جديداً من تصالح كل الأشكال الإبداعية ومنجزات المعرفة البشرية.
كان، على حبّه للجدل والمساجلة، متأمّلاً، يلتقط الإبرة من بين أكوام الحطب، ولا يمانع في إشعال الحريق في تلك الأكوام الباردة، ليطرّز بالإبرة ثوباً جمالياً ناصعاً مكتملاً، منسجم الهيئة طاهر الأذيال.
***
النموذج الذي قدّمه لنا المرحوم الدكتور حسين البرغوثي، مثقفاً ومبدعاً وإنساناً، كان نموذجاً مختلفاً حقاً، ذلك أن هذا المثقف والمبدع كان شجاعاً بما فيه الكفاية ليذهب إلى مناطق العتمة والجدل في ثقافتنا العربية ليمزجها مع مناطق الجدل والضجيج في الثقافة الغربية ليخرج من كل ذلك برؤية اعتمدت المنهج أكثر مما اعتمدت النتائج. كان مثقف الأسئلة أكثر من مثقف الإجابات، كان مثقف الاحتمال وليس مثقف الاكتمال، كان مثقف القلق وليس مثقف السكون والركون، وكان مثقف التوتر وليس الاستكانة. لم يبهره الغرب عند رؤية كنوز ثقافته وأسئلتها وحمولاتها ولم يتعصّب لمقولاتها أيضاً، فرأى الصورة بإحداثياتها الزمانية والمكانية، ومال إلى الاستبصار والاستبطان بما يشبه العرفانية الكشفية.
النموذج الذي قدّمه هذا الرجل، يظلّ في مشهدنا الثقافي الفلسطيني نموذجاً لا ينسى ولا يمحى، فهو النموذج الجريء الذي لم ينصع لشروط اللحظة السياسية أو الموضة العقائدية ولم ينصع ولم يخضع للموروث ولا لقداسته، ولم ينقل دون تمحيص ولم يقرأ بإنبهار بل كان حُرّاً كما ينبغي لمبدع، وسيداً كما ينبغي لمثقف.
أراد للشعر أن يعبّر عن العالم ببراءة وحكمة النصّ المقدّس، وأراد للنثر أن ينثر بدائع الكون ثم يضمّها من جديد، وأراد للتنظير النقدي أن يجمع شتات العلوم كلها لفهم الجمال العصيّ على الفهم.
النموذج الذي نتحدث عنه، هو نموذج المبدع الذي أضاف إلى السرد ما أضاف، وأضاف إلى النثر ما أضاف، وأضاف إلى الشعر كذلك، إذ على يدي هذا المبدع تحول السرد في روايته “السادن” إلى دفيئة تزهر بكل شيء، المتعدد والغائب والحاضر والمتواري والواضح والغامض، وعلى يديه صار النثر سبيكة ذهب وفضة، وحمل عنه ومنه المعادلة الرياضية والمعادلة الروحية، أما الشِعر فقد صار معماراً من الاسمنت والزجاج والضوء والغيم والماء.
النموذج الذي نتحدث عنه، بدأ معرفياً ثم انتهى عرفانياً، قاطعاً المسافة الطويلة والمُنْهِكة ما بين البصر والبصيرة، وما بين الحس وبين الإحساس، وما بين الكشف وبين الانكشاف.
حسين البرغوثي، الذي نحتفل كل يوم بذكراه الحاضرة، لم يكن صديقاً فقط ، ولم يكن معلّماً فحسب، وإنما كان روحاً كبيرة، أرادت أن تستوعب العالم وأن تعلّمنا كيف نستوعبه أو نفهمه أو نكتشفه بحجر من الورد المقدود من الروح والقلب وأن نرى الجمال فيه كالسائل في الأواني المستطرقة.