د. أحمد يوسف
أمد/ فيما كانت الحرب على غزة يشتد أوارها، جاء خبر استشهاده مباغتاً كوقع الصاعقة، وكثرت التساؤلات: هل كان الاستهداف مقصوداً أم نتيجةً لصاروخٍ طائش ضلَّ طريقه وحطَّ رحال دماره في بيته؟ وهل يا ترى كان أحد أبناء الشيخ من كوادر المقاومة فكانت الضربة أصلاً موجهة له؟ أم أنَّ الشيخ كان يأوي مسلحين في بيته من النازحين؟ وأسئلةٌ حائرة أخرى، ظلت تطارد ذهني وتلاحقني وأنا في حالة من الذهول لهول تلك الصدمة الموجعة..
فالشيخ يوسف سلامة -وكما يعرفه الجميع- ليس مقاتلاً في صفوف كتائب القسَّام أو سرايا القدس، حتى نتفهم دوافع هذا الاستهداف الصهيوني لشخصه وللمكانة التي يمثلها، فالشيخ كان عالماً أزهرياً ووزيراً وخطيباً سابقاً للمسجد الأقصى، وهو رجلٌ مسالمٌ له باعٌ في الكتابة الدينية والإصلاح الاجتماعي، وقد عهدناه من الرجال الأعلام، وكان له إطلالة وحضور في وسائل الإعلام، ويتمتع بعلاقات إسلامية ومسيحية واسعة، وأتذكر استجابته السريعة لي لكتابة شهادته عن الأب منويل مسلَّم؛ الشخصية الفلسطينية المسيحية الاستثنائية، والتي تناولت سيرتها في كتاب (أيقونة وطن) الذي يمثل الجزء الأول من الموسوعة المعرفية عنه، التي توليت الأشراف على أجزائها العشرة الصادرة عن معهد بيت الحكمة.
في الحقيقة، كان الشيخ يوسف سلامة (رحمه الله) متصالحاً مع نفسه، ومنفتحاً على الجميع بكافة ألوان طيفه الحزبي والسياسي، وكانت تعلو وجهه ابتسامةٌ يُلاحظها كلُّ من التقاه وسلَّم عليه.
في فبراير 2006، كانت عودتي إلى قطاع غزة من الجزائر، على إثر فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية.. جاء الشيخ يوسف سلامة مصطحباً معه الشيخ جمال أبو الهنود للتهنئة بسلامة عودتي إلى أرض الوطن، بعد غيبة طويلة للدراسة والعمل في أمريكا والجزائر، وبغرض المباركة لي بالمنصب الحكومي كمستشارٍ سياسي لرئيس الوزراء الجديد إسماعيل هنية. جلسنا في حديثنا ما جاوز الساعة من الوقت، إذ طاب النقاش فيما تداولناه من بعثٍ لبعض الذكريات وإحياء لأسماء معارف جمعتنا بهم غربة السنين والبلدان.
تواعدنا على لقاء قادم يجمعنا به مع رئيس الوزراء في المقر الحكومي، وهذا ما كان، إذ حضر ومعه هدية من الكتب والإصدارات التي تشهد على حيوية جهوده الكبيرة لخدمة القدس والمسجد الأقصى، ومحطات نشاطه وتحركاته في العالمين العربي والإسلامي من أجل الدفاع عنه، وحشد المواقف لنُصرته، في سياق ما يتعرض له الشعب الفلسطيني وقضيته من مظلوميّة واضطهاد، وما لحق بمقدساته الدينية وآثاره التاريخية من محاولات الطمس والتهويد.
في تلك الزيارة لمجلس الوزراء، أهدانا مجموعةً من الكتب الدينية ذات العلاقة بالمسجد الأقصى، وكان من بينها كتابه (دليل المسجد الأقصى)، والذي تضمن تعريفًا مفصلاً بالمسجد الأقصى المبارك وأهميته، والمكانة الدينية والتاريخية لمدينة القدس، وكذلك دحضًاً لرواية الاحتلال ومزاعمه بأنَّ المسجد الأقصى بُني على أنقاض الهيكل المزعوم.
لم تنقطع الزيارات بيننا بعد ذلك، إذ كانت تربطه بأخي خالد (عز الدين) المقيم بالجزائر صداقات قديمة، تعود بداياتها إلى سنوات دراسة الشيخ هناك لنيل شهادة الماجستير من المعهد العالي لأصول الدين بجامعة الجزائر، كما كانت تجمعني بأخيه القاضي د. جميل سلامة وابن عمه الشيخ سالم سلامة علاقات صداقة وودٍّ مميزة. كانت المناسبات الوطنية والدينية تجمعنا كشخصيات اعتبارية، ولا تخلو وقفاتنا بين الأصحاب من فرص الحديث في السياسة وشؤون الحركة الإسلامية على هامش تلك المناسبات.
كان الشيخ يوسف سلامة رجلاً صاحب هيبة ووقار، ولا يُعرف عنه أنه كان من هواة الخصومة وافتعال الصدام، وخطابه دائماً يجمع ولا يُفرِّق، وعلاقاته بكلٍّ من فتح وحماس كانت متوازنة، وهو في طبعه أقرب لشخصية الشيخ المحافظ، الذي ينأى بنفسه وعلمه عن الحزبية والتطرف، ويميل في سلوكه وأخلاقه إلى الاعتدال والوسطية.
كان الشيخ يوسف (رحمه الله) من الشخصيات الدينية المعروفة بالتسامح الديني، وعلاقته بالمجتمع المسيحي الفلسطيني أكثر من ممتازة، وكانت تجمعه بالأب منويل مسلَّم؛ إمام طائفة اللاتين في قطاع غزة، الكثير من المودة وعلاقات الصداقة والاحترام، وكانا يتبادلان التهاني في المناسبات الدينية والوطنية.. وكما سمعت من الأب منويل أنَّ الشيخ يوسف كان يحظى بالاحترام والتقدير لدى المسيحيين بمختلف طوائفهم.
وفي سياق ما أتذكره من المواقف التي لا أنساها بيننا، أنَّ الشيخ كان يواظب على مطالعة “جريدة القدس” يومياً، وكان لكلانا عموداً أسبوعياً فيها، فكان عمودي باسم (من وحي الوطن)، أما عموده فيحمل عنوان (معالجات إسلامية)، وكان كلما قرأ ذلك العمود الخاص بي ووجد فيه ما يستدعي أن يقول شيئاً، إلا ويتواصل معي ليعبر عن إعجابه أو ليلفت نظري -بأدبه الجم- لملاحظة ما، حيث كانت بصيرته لا تُخطئ التقدير، وبوصلته وطنية التوجه بامتياز.
وبالرغم من تقلد الشيخ يوسف (رحمه الله) لعدة مناصب عليا؛ حكومية وشرفية، إلا أنَّ سمته كان التواضع وفي أخلاقه آية، وكان ديدنه مؤانسة جلسائه بعلمه ولطائفه التي لا يخلو منها الحوار.
لقد تدرَّج الشيخ يوسف سلامة في المناصب الأكاديمية والدينية، حيث عمل مدرسًا بجامعة الأزهر في غزة، ثم مسؤولًا للأوقاف في قطاع غزة، ثم وكيلًا لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ثم وزيراً للأوقاف، ثم إماماً وخطيباً للمسجد الأقصى، وكانت مقولته التي يرددها ويؤكد عليها -دائماً- إنه “لا قيمة لفلسطين بدون القدس، فهي لؤلؤة فلسطين، وأنَّ الأقصى هو قلب فلسطين وشريانها النابض”.
من المعروف عن الشيخ يوسف سلامة أنه حفظ القرآن في طفولته، خلال دراسته في الكتاتيب بمسجد المغازي الكبير على يد الشيخ النجدي (رحمه الله)، وقد أهلَّته تلك “الثروة الدينية” التي تحصلَّ عليها مبكراً، أن يكون إماماً وخطيباً حين كان في العشرين من عمره، وقد درج الشيخ يوسف على مجالسة الكبار من الوجهاء ورجال الإصلاح والدعاة، أمثال: الشيخ سليم شراب والشيخ أحمد ياسين والشيخ محمد عواد، وغيرهم من وعاظ ذلك الزمن الجميل.
كان الشيخ يوسف (رحمه الله) يتجنب الصدام والمزاحمة، رغم مكانته الأزهرية المرموقة وشهاداته الدينية العالية، وعلاقاته الواسعة داخل فلسطين وخارجها، وقد نجح في الحفاظ على هيبته الدينية وعمامته الأزهرية في وقت تكاثر فيه خطباء المنابر، ممن منحتهم الحناجر والارتجالية -بغير علمٍ- منزلةً غير مستحقة، وليسوا لها بأهل.
كان الشيخ يوسف مُحبّاً للرئيس ياسر عرفات (رحمه الله)، وكنَّا نجد له من المواقف والذكريات ما يحببنا في الحديث عنه من حين لآخر، والإشادة بمكانته ومواقفه كأبٍ للجميع، وكزعيمٍ سياسي يتمتع بكاريزما القيادة الوطنية العالية، والتي منحته حالةً من الاجتماع حوله والإجماع عليه، وتوافق الكلّ من قادة الفصائل الفلسطينية على القول: “نختلف معه، ولكن لا نختلف عليه”.
نعم؛ وهذه حقيقة، أنَّ الشيخ يوسف لم يكن من أصحاب الهوى الفصائلي، وكانت أبوابه في العلاقات مشرعةً مع الجميع، وقد جمع من الأصدقاء المقرَّبين في كلٍّ من فتح وحماس والجبهتين الشعبية والديمقراطية ما يجعل منه عنواناً وحدوياً، وقاسماً مشتركاً بين الجميع.
في 31 ديسمبر 2023، أُعلن خبر استشهاد الشيخ وإصابة بعض أفراد عائلته، فقلت في نفسي: لعل هذا الاستهداف جاء بطريق الخطأ، فالشيخ صاحب عمامة ولا يحمل في يده من سلاحٍ إلا القلم!! إلا أنَّ ما أورده الإعلام الإسرائيلي عن سرِّ ذلك الاستهداف أكد غير ذلك، وأنَّ الشيخ كان مقصوداً لذاته مع سبق الإصرار والترصد، إذ يكفي هؤلاء الصهاينة من سببٍ لتبرير ذلك أنَّ الشيخ يوسف كان من عُشَّاق القدس، وظل لسانه كأحد خطباء المسجد الأقصى يلهج بدعوة العرب والمسلمين لنصرته، وتحريضهم إلى الالتفاف حوله وتحريره، وهو اليوم -في سياق حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة- يدفع حياته ثمناً في هذه المعركة التي حمل طوفانها تخليداً لذكره؛ كأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
رحم الله شهيد الأقصى وفلسطين، وتقبله في عباده الصالحين.. اللهم آمين