أمد/ يكمل طوفان الأقصى شهره السابع كاشفا المشهد بكل الفاعلين فيه.. لم يعد في الميدان متخف أو مدع.. يتجلى كل شخص أو نظام أو حزب أو هيئة بحقيقة موقفه فلم يعد من الممكن التعتيم او التشويه او الإختباء.. وذلك ليس على المسرح الدولي فقط بل والإقليمي والمحلي وفي هذا تسليط ضوء باهر على المنطلقات والدوافع والمصالح خلف المواقف المتنوعة والمتعددة.. فغدا طوفان الأقصى بحق كاشفا لمعادلات الصراع الكوني وامتداداته، ولم يعد لأنصاف المواقف الباهتة وجود، ولن يتمكن أحد من إخفاء نواياه وعميق مشاعره وهذا في حد ذاته قيمة عظيمة تجنب الأجيال القادمة سبيل الضلال والتيه والخداع.. ولتوضع الكلمات في مواضعها، فهذا هو الوعي الضروري المطلوب في المرحلة القادمة.. كما أنه كشف عن عناصر قوة غير متوقعة آخذة في التشكل والتطور لدحر العدوان والحاق هزيمة نكراء في روحه ووجوده.
ما هي أفاق المفاوضات؟
من البداية يجب أن نشير الى أن هناك حرب اعلامية عاتية ترافق العملية التفاوضية وتملك الإدارة الأمريكية مصطلحات وأدوات للتعمية على حقيقة ما يجري.. فالخطاب الامريكي سياسيا واعلاميا يجعل من المفاوضات سبيلا واضحا وقويا لإعادة الرهائن.. وكأن المشكلة كلها رهائن ويتم تكرار المصطلح وهو ضمنيا يحمّل الفلسطينيين مسئولية احتجاز الرهائن.. وبعد أن فشل الإعلام الامريكوصهيوني من تكريس مقولة “ان المعركة بين حماس والكيان الصهيوني وان جوهرها اعتداء حماس على المدنيين واحتجازها رهائن” أخذ الكلام منحى آخر يحاول تكريس أن حماس ترفض العروض السخية بعد أن تحول النظام العربي الى وسيط مهمته اقناع المقاومة الفلسطينية بمبادرات يتم التفاهم عليها مع المبعوثين الامريكان وكلها تتجه الى قطع مسافة من الوقت لعله يتم خلالها انهيارات حقيقية في قوة المقاومة أو يمكن استرداد بعض الأسرى الصهاينة، وكذلك لعله يتم فرض وقائع جديدة على الأرض من احتلال لأجزاء في غزة أو ترحيل لمئات الآلاف من أبناء القطاع أو تركيز قاعدة عسكرية أمريكية بريطانية على سواحل غزة.. هناك جملة أهداف رافقت الدعوة الى مفاوضات بين المقاومة والكيان الصهيوني ولقد نشطت كل أدوات أمريكا الأمنية والعسكرية والإنسانية والدولية من أجل انجاز تلك الأهداف وليس من باب الصدفة أنه بعدما يحل وزير الخارجية الأمريكي بالمنطقة تشتد الهجمات العسكرية الصهيونية التي تتسبب بقتل مئات الفلسطينيين وتدمير مساكنهم وتشديد التضييق عليهم.. ومن باب السخف والتضليل المخادع يتم الحديث عن ضرورة إيصال المساعدات الى الجوعى من أبناء قطاع غزة في الشمال في حين لم يعد خافيا على القاصي والداني أن صواريخ أمريكا وقنابلها التي تضاعف في إرسالها الى الكيان هي المتسبب في الكارثة الإنسانية في قطاع غزة..
لم يطالب الفلسطينيون بأكثر من الحد الأدنى: ان ينسحب جيش الاحتلال من غزة وأن يتوقف العدوان على المدنيين.. ومع ذلك تدعو المقاومة لعملية تبادل أسرى جدية.. وهنا تدخل التفصيلات الأمريكية التي تعتبر أن هذا عبارة عن إعلان نصر للمقاومة وأنها عملية انتحارية للكيان الصهيوني كما صرح أكثر من مسئول أمريكي.. فما هي حقيقة المفاوضات الجارية..؟ هنا لابد من المسارعة الى القول أنه لا يوجد موقف ثابت للأمريكان فلديهم سيناريوهات عديدة ولهم مع كل سيناريو احتمالات عديدة ثم إنهم يطورون أهدافهم او ينقصونها بناء على معطيات مستجدة بعضها لا يكون في الحسبان.
يذهب الخطاب الأمريكي للحديث عن دولة فلسطينية منزوعة السلاح، وتوفر شروط الأمن للكيان الصهيوني، وذلك كأرضية لعملية تطبيع مع دول عربية وازنة، وتخض عملية اللعب بالكلمات وفن الصياغات السياسية المواقف العربية المعنية التي تقترب من التطبيع ولكنها تجعل من موضوع الدولة بأي صيغة كانت سلمها لعلاقات طبيعية متكاملة مع الكيان الصهيوني.
من الواضح أن الحرص الأمريكي على عقد صفقة هدنة ليست بريئة، إنما هي كما قال الرئيس الأمريكي تأتي كعنصر حاسم في إستراتيجية أمريكية داخلية وخارجية.. وعليه فلن تحدث صفقة الهدنة إلا عندما تفقد الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني الأمل في أحداث تغييرات في الواقع الفلسطيني بعد أن فشلوا في إيجاد سلطة بديلة في غزة أو شق الصف الفلسطيني.. وهذا يعني أن شروطا عديدة لابد أن تبرز في الرد على السياسة الأمريكية من شأنها إحداث قناعة أمريكية بضرورة الذهاب الى هدنة.. منها تصاعد المقاومة من أكثر من مكان، وحركة الطلاب الامريكان نصرة لفلسطين ومحكمة العدل الدولية كما أن هناك شروطا موضوعية يمكنها أن تعجل بضرورة خضوع أمريكا لاسيما التربص الصيني والروسي ومحاولة استفادتهما من الانشغال الامريكي في مستنقع المشرق العربي..
جبهات المقاومة:
الذي لا شك فيه أن الاسناد العربي والاسلامي والانساني ضروري جدا في المواجهات ضد العدوان الصهيوني.. هكذا كان على مدار عشرات السنين وذلك ليس فقط كجانب أخلاقي وانساني انما هو في حقيقته لمواجهة ظلم يمتلك تفوقا عاتيا في السلاح وعديد الجند، انها مواجهة غير متكافئة دفعت مصر الكبيرة الى الاستعانة بالعرب والاصدقاء في حرب لمدة عشر أيام ودعت سورية الى الاستقواء بالجيش العراقي في حرب لمدة اسبوعين، وهكذا يمكن النظر لضرورة الاسناد العربي لاي مواجهة مع الكيان الصهيوني المزود بارقى التكنلوجيا وبالدعم الكامل من معظم دول العالم ماديا وامنيا وعسكريا..
ولكننا في هذه المواجهة نرى تولد معاملات جديدة ففي حين انسحب النظام العربي من اي مواجهة ضد الكيان الصهيوني بل وانسحب من أي تأييد ودعم للمقاومة الفلسطينية ولكن هناك معاملات اسناد قوية وحقيقية استمرت لعدة أشهر وربطت مصير اسنادها بنتائج ما يحصل في غزة.. وفي طليعة هذا الاسناد ما يفرضه اليمنيون على خريطة الصراع وفرض سيطرتهم على باب المندب اليمني وعلى بحر العرب فيمنعون أي سفينة عسكرية أو مدنية صهيونية او ذاهبة الى الكيان الصهيوني ولقد وصل الأمر الى أن تضرب القوات البحرية اليمنية المدمرات والسفن البريطانية والامريكية التي حاولت اختراق المنع اليمني.. الامر الذي نتج عنه خروج ميناء ايلات عن الخدمة وتكبد الخزينة الامريكية خسائر مئات الملايين من الدولارات كما أوقعت بها خسارة معنوية وأمنية باهضة والامر نفسه لحق بالكيان الصهيوني الذي لن يستطيع خط الإمداد القادم من الإمارات مرورا بالأردن ان يكون حلا ناجعا أو بديلا كافيا.. وكما تقوم القوات المسلحة اليمنية بمهماتها الواضحة الجريئة فان المقاومة اللبنانية لازالت تشاغل العدو في حرب استنزاف لم يشهدها العدو من قبل فعلى مدار سبع أشهر أوقعت المقاومة اللبنانية خسائر فادحة في الأمن الصهيوني وقد أجبرت المقاومة مئات آلاف المستوطنين على الرحيل من شمال فلسطين ولا زالت المواجهات متواصلة ومتطورة وان كانت محددة بخطوط حمر.. كما أن هناك محاولات عراقية للدخول الى ساحة المواجهات بعمليات تستهدف مواقع عسكرية صهيونية من خلال مسيرات وصواريخ.. وهذا يعني احتمال فتح جبهات جديدة مثل الأردن التي طالما ناشدها الناطق العسكري للقسام بضرورة دخول المعركة.. وقد تنطلق مواجهات من اماكن عديدة ان استمر العدوان على غزة واذا استمرت المقاومة في غزة بحضورها القائم.
الجامعات الامريكية:
مسألة في غاية الإثارة والدهشة.. فالموضوع في غاية التعقيد.. ليس فقط على الجانب السياسي والثقافي إذ أن تساؤلات عديدة تشير الى الاستغراب بان يتمكن الوعي من اختراق حجب التضليل الاعلامي الذي تفرضه سياسات المتحكمين بالقرار الدولي.. وهذا في حد ذاته مثير للانتباه، لكن من يعرف كيفية عمل الجامعات الأمريكية يدرك استحالة قيام الطلبة بأي فعل يخرج عن المرسوم لها من قبل الدهاقنة.. فالجامعات في أمريكا تخضع لسيطرة عصابة من رجال المال شركاء الحكومة السرية.. يقدمون أموالهم على هيئة تبرعات للجامعات فتصبح الجامعات بتشكيلتها أو مواد التدريس أو تحركها انما هي ضمن الرؤية الاستراتيجية لتلك العصابة التي تبدو ك”بابا نويل” الذي سريعا ما يكشر عن أنيابه إزاء أي تصرف من قبل الجامعة “طلبة وهيئة تدريس”.. ليس فقط بتوقف ” التبرع” انما ايضا باغلاق ابواب الشركات أمام الخريجين من هذه الجامعات.. انها غاية الدكتاتورية القهرية التي تعمل بدأب على أدخال الناس في حلقة العبودية الحديثة..
رغم ذلك كله خرجت أكثر من 45 جامعة وكلية تفرض السؤال الكبير المخفي: الى متى تقف أمريكا بالسلاح والقنابل -التي يدفع ثمنها المواطن الأمريكي- بتزويد القوات الصهيونية لقتل الأطفال والنساء وتدمير المدن والمستشفيات والمدارس والجامعات في فلسطين..؟ الى متى يمكن أن يحتمل الضمير الانساني الصبر على عدوان عدة عقود من قبل عصابات عنصرية متوحشة ضد شعب أمن مظلوم أعزل من السلاح وحرمانه من أرضه..؟ هنا حقا استطاع طلبة امريكا أن يفرضوا السؤال على أرض الواقع لينخرطوا بذلك في عملية التصدي للتضليل والتشويه ويرفعوا صوتهم عاليا مطالبين بمقاطعة الكيان الصهيوني ومعاقبته وضرورة الوقف الفوري للعدوان على قطاع غزة وتمكين الشعب الفلسطيني من استرداد فلسطين وإقامة دولته الحرة.. انهم في المواجهة ويدفعون ثمنا كبيرا لموقفهم لا يتوقف عند حد فصل بعضهم من الدراسة بل والتهديد بالسلامة الأمنية لأشخاصهم فلا يمكن أخذ كلام بن غفير بضرورة تشكيل مجموعات مسلحة في امريكا للتصدي لهؤلاء الشباب إلا على محمل الجد، وهذه جبهة حقيقية بل أساسية نصرة لفلسطين وتصديا للكيان الصهيوني وسيكون لها الأثر الأكبر في لجم العنصرية المتوحشة.
محكمة العدل الدولية:
رغم أن هذه المؤسسة أحد ركائز النظام الدولي الجديد الذي تمارس الحكومة السرية سلطانها على العالم من خلاله ويكفي ان ندير النظر قليلا لمتابعة ملف روسيا بعد حربها على أوكرانيا لنرى نشاط هذه المؤسسة في إصدار مذكرات اعتقال بحق الرئيس بوتين الأمر الذي اضطره الى المكوث في حدود بلاده، ومن غير الوارد أن ننسى أن هذه المؤسسة قد شكلت لمحاسبة أصدقاء هتلر وتصفية النازية فهي مؤسسة أنشئت أصلا كيد قانونية للبطش بمخالفي القرار الدولي المتحكم.
إلا أن تطور الوعي لدى الشعوب وانتصار حركات حرر في شتى أنحاء العالم فضح حقيقة النظام الدولي المخادع عندما تقدمت جهات مشتركة في المؤسسة بشكوى ضد الكيان الصهيوني وضد ألمانيا الداعمة له، ورغم تجند الأمريكان والانجليز بالدفع عن الكيان الصهيوني الا ان هول الجرائم المرتكبة والتي تم تسريب بعضها من خلال وسائل إعلام أرغمت المحكمة على النظر في القضية ومحاولة اتخاذ إجراءات عقابية ضد الكيان الصهيوني ولعله قد اقترب وقت صدور مذكرة بالاعتقال تطال عديدا من قادة الجيش الصهيوني كما وزراء القتل والعنصرية في حكومة الكيان.. وهكذا تأتي ضربة قوية غير متوقعة على رأس الكيان من قبل أحد مؤسسات النظام الدولي التي صنعت أصلا في الدفاع عن اليهود ضد النازية.. فكان وقع النذر القادمة من لاهاي مربكة ومرعبة للقادة الصهاينة الذين سارعوا للاستنجاد بالإدارة الأمريكية التي لم تنتظر صدور الأحكام بل أعلنت حربها ضد المحكمة الدولية واتهمتها بالتحيز وانها تتدخل فيما لا يعنيها .. وهكذا تذهب الإدارة الأمريكية لتدمير أحد مؤسسات النظام العالمي الذي يتعرض لهزات عميقة في أكثر من موقع.
إنها نتائج طوفان الأقصى العظيمة التي تسجل بالنقاط تقدما لفلسطين والإنسانية ضد عصابات الشر والعنصرية والجريمة والله غالب على أمره.