د. محمد عبدالله الخولي
أمد/ يستوعب السرد الروائي التاريخ بحدوده الزمنية والمكانية، إذ يقوم السارد بإعادة إنتاج التاريخ، لا من أجل الحكاية ذاتها، بل يعود السرد التاريخي عبر الرواية لمضمرات نفسية يقصدها الروائي حال سرديته التاريخية لحقبة زمنية محتشدة بالأحداث. وتنفلت الرواية من حدود الزمان وتقبع في أفق اللازمن عندما يستشرف الكاتب ما يؤول إليه العالم في مستقبله، وفي حالة الاستشراف الروائي لا يكون للزمن وجود إلا في ذهن الروائي وحده، إذ لا وجود لهذا الزمن إلا في مخيلة الروائي.
وفق مخيلة كل كاتب/ وما يعتمد عليه من أساسات فكرية وعقائدية ينبني مستقبل العالم، ومن هنا ينقسم أدب الخيال العلمي الاستشرافي أو التوقعي إلى نوعين : الأول، ” أدب الاستشراف الطوباوي” وتعني ” الطوباوية ” أو ” اليوتيوبيا ” المدينة الفاضلة أو العالم المنشود الذي يتغياه كُتَّاب الرواية الطوباوية. إذ كانت الرواية ” الطوباوية ” تبحث عن المكان في اللامكان، وبمعنى آخر تبحث عن العالم المثالي بوصفه مكاناً محيَّزا في الذهن لا وجود له ولكنه من الممكن أن يكون، مثلما “اقترح علينا ” توماس مور” في نصّه ” إيتوبيا ” جزيرة خيالية شيدوا عليها بناية اجتماعية تمكّن من تلافي نقائص النظام الاقتصادي والسياسي الإنجليزي في ذلك العصر، وظلّ كتاب هذا النوع من الاستشراف الطوباوي في انتظار انكشاف تلك الأمكنة ليتحقق حلم اللامكان بوجود المكان أو العالم المثالي، واستمر هذا الحلم بداية من القرن السادس عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر، حتى قضت الرحلات العلمية الاستكشافية على هذا الحلم، فتحوّل الحلم اليوتيوبي من المكان إلى الزمان، وكان الزمن مجالا خصبا يرعى فيه الخيال العلمي لهؤلاء الكتاب، فأصبحوا يستشرفون يوتيوبيا الزمان بدلا من يوتيوبيا المكان، وكلا الحلمين : الزماني، والمكاني يسعيان إلى العالم المثالي.
أما النوع الثاني من أدب الاستشراف العلمي، هو ” أدب الاستشراف الكارثي ” وينبني هذا النوع على الاستشراف الزمني الذي يتوقع الكوارث التي تحل على العالم والإنسانية في مستقبلها كالحروب والأوبئة وحلول الآلة مكان الإنسان، وتضاعف جرائم الحرب في مستقبل البشرية، ومن هنا نستطيع القول : أن أدب الخيال الكارثي مناقض – تماما – لأدب الخيال الطوباوي؛ إذ توقع كتاب اليوتيوبيا ما يؤول إليه العالم من حياة مغرقة في الرفاهية واللذة والتقدم والازدهار العلمي، بفضل ما يتوصل إليه العلم من تقدم وتكنولوجيا ورقمنة إلى القضاء على الحروب والأوبئة. كما ” تخيَّل [ أناتول فرانس ] في روايته: على الحجارة البيضاء، أنه في سنة 2270 سيتمكن التقدم العلمي والتقني من القضاء على الحروب بفضل شعاع (y) العجيب وهو سلاح دفاعي يمكن لشخص واحد أن يطلقه وهو أمام جهاز الكمبيوتر بضغطة زر واحدة.”
لكنّ المتغيرات على الساحة العالمية والحروب الدائرة هنا وهناك كانت ضربةً قاضية لكتّاب الرواية الطوباوية، حتى قيل أنَّ هذه الروايات مجرد مخدر للبشرية، ” وأنها أفيون لإخماد الضمائر الحية وإغراق للبشرية في آمال خدَّاعة سرابية ووهميّة.” فما يجري الآن يتنافى تماما مع توقعات كتاب الرواية الطوباوية، فكلما تمكّن الإنسان من العلم وطوّع التكنولوجيا لخدمته زادت شراسته ونهمه للحروب، وكأنّ العلم أصبح سلاحا مدمرا يفتك بالبشرية ويرهق سكان هذا العالم، بينما كان المتوقع أن يكون العلم وما توصل إليه الإنسان من معرفة وتقنيات علمية متطورة أن يعم السلام والخير على هذا العالم، ولكن العلم وهذا التطور الذي يتضاعف يوما بعد يوم يضع العالم على حافة هاوية النهاية.
تقول الباحثة [كوثر عياد]: ” إن الموضوعات التي تناولها أدب الاستشراف الكوابيسي – كما أطلقت عليه الباحثة عملت على توسيع مجال حقل التفكير، فتعمّد الكتاب لفت النظر إلى تطور تقنيات المراقبة والتجسس التي وضعت تحت تصرّف الأنظمة الاستبدادية، وعلى العولمة التي تلغي الخصوصية، وتعمل على توحيد ثقافة البشر، كما لفتوا النظر إلى اندلاع حروب توسّعية جديدة، وإلى قرب نهاية الكون وفناء الإنسان، نظرا للكوارث الطبيعية، أو الكوارث التي تسبب فيها الإنسان.
وبناء على ما سبق تلاشت الرواية الطوباوية التي تحلم باللا مكان في المكان، وازدهرت روايات الخيال العلمي الكارثي، تلك الروايات التي تتحدث عن مستقبل العالم، والحال الذي ستؤول إليه البشرية. وأصبح الرعب أيقونة لرواية الخيال العلمي، وأضحى التخوّف من الآتي مضمارا تضرب فيه خيول أدب الخيال العلمي، وتشق غمار الزمن إلى اللازمن. وهنا يطرح السؤال نفسه، هل خروج روايات الخيال العلمي الكارثي إلى اللازمن تخرج الإنسان من ماضيه وحاضره إلى ما هو غيبيّ مجهول؟ وينفصل الإنسان عن تاريخه ورهانات حاضره إلى مستقبل ينفصل انفصالا كليا عن ماضوية التاريخ البشري؟ أم أنّ اللازمن الذي يستشرفه كتاب الخيال العلمي الكارثي يتصل اتصالا مباشرا بماضي الإنسان وحاضره؟ كل هذه الأسئلة تجيب عنها رواية الكاتب ” مجدي الفقي” [يسألونك…..؟ ………غدا الساعة!!]ٍ
بدايةً من العنوان، الذي صاغه الروائي مجدي الفقي في صورة سؤال حذف منه المسؤول عنه، “يسألونك” فأحدث ذلك ارتباكاً في الجزء الأول من العنوان ” يسألونك ” مع اكتمال تركيبه اللغوي من فعل مضارع، وفاعل وهو الواو، ومفعول به وهو كاف الخطاب، ومع اكتمال التركيب اللغوي ظلت الجملة الأولى بفعلها وفاعلها ومفعولها في حالة من الفوضى، بسبب حذف المسؤول عنه، والذي تجلى في الإجابة؛ ليكتمل العنوان على مستوى التركيب اللغوي والمعنى على حدٍّ سواء.
وقد شفع الروائي مجدي الفقي الجزء الأول من العنوان ” يسألونك ” بمجموعة من النقط المتتالية التي تعقبها أداة الاستفهام مباشرة، وهذه النقاط تعد تشيكلا بصريّاً له أدائيته من حيث المعنى، وكأنَّ المسؤول عنه أمر يتحاشاه الروائي تأدبا مع الله، فالسؤال عن الساعة وموعدها من الأمور الغيبية التي يتحوَّط الإنسان وهو يتساءل عنها متأدبا مع الذات العلية، وكأنّ قلم الروائي مجدي الفقي استنكف أن يتلفَّظ عبر المكتوب بما يتنافى مع آداب العقيدة.
ولذا عدّل من صيغة السؤال المفترض أن يكون ” متى الساعة ” إلى صيغة ” يسألونك ” والتي تتضمن في طياتها السؤال عن الزمن ومتى تكون الساعة؟ ولكنه تفادى ذلك كلِّه بحرفية متناهية. فمن خلال صيغة الجمع في ” يسألونك ” وضع الروائي نفسه ضمن الجمع المتسائل عن الساعة وقيامها، إذ السؤال الفردي عن موعد قيامها يعد جرأة من السائل على الله، وهذا ما نوّه عنه الكاتب في مقدمته التي وضعها للرواية إذ يقول : ” أنَّى لك أيها العبد الحقير أن تخوض في غيبيات الله وهو وحده عنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو.. أؤمن ياربي بذلك جيدا، وما آتيتنا من فيض علمك إلا قليلا.. قليل به نحيا.” فمنذ البداية والروائي مجدي الفقي يتهرَّب من السؤال المباشر عن الساعة وقيامها، فأدخل فرديته في جموع السائلين والباحثين عن هذا السؤال ليكون من جملة السائلين.
وبطريقة أخرى أكثر حرفية من ذلك، تناص العنوان مع النص القرآني [ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ] ومن خلال هذا التناص يضع الروائي مجدي الفقي وزر هذا السؤال في عنق السائلين الأوائل الذي توجهوا بهذا السؤال للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال ابن كثير : ” أنها نزلت في قريش. ويحتمل أن تكون قد نزلت في نفر من اليهود.” ومن خلال تأويل العنوان يتوقع القارئ أحد أمرين: الأول، أن يكون الكاتب هو المتسائل عن يقين لا عن شك، وهنا ينزل السؤال منزلة التقرير، ويخرج السؤال بلاغيا عما وضع له إلى غرض بلاغي آخر. والثاني : أن يكون السائل هو المتشكك، والمجيب هو الروائي وفق عقيدته الإيمانية، إذ يكتمل العنوان بتلك الإجابة التي تحمل في أفقها التأكيد بتقديم ” غداً” بوصفها ظرفا زمانيا منصوبا متعلقا بالفعل ” يسألونك” وتقديم الظرف الزماني هنا دلالة قاطعة على تحقق الحدوث، ومن هنا يتحدد السؤال عن الزمن التي تقوم القيامة فيه لا عن القيامة نفسها، فهي واقعة لا محالة، فكل العقائد السماوية تؤمن وعن يقين بقيام الساعة، ولكن السؤال عن الزمن هنا يبين أن الخلاف واقع على زمن الحدوث لا على الحدث ذاته.
كما استخدم الروائي مجدي الفقي التشكيل البصري في كتابة العنوان في الجزء الأول ” يسألونك “عن طريق وضع نقاط متتالية قبل علامة الاستفهام، بدأ الإجابة عن السؤال ذاته بمجموعة من النقط المتتالية، وكأنّ الحيرة والتخبط البشري مع ما وصلت إليه البشرية من علم ومعرفة، لم ولن يستطيع العلم الحديث أن يتوقع ولو على سبيل التخمين موعد قيام الساعة، وقد انتقلت حيرة السؤال إلى حيرة في الإجابة، فتلك النقاط التي سبقت الإجابة ” غداً الساعة ” دليل حيرة وتخبط المجيب هو الآخر. فثمة ارتباك في السؤال والإجابة عن الوقت والزمن، وثمة تيقن لحدوث الأمر.
تنطوي الصفحة الخارجية على عنوانين فرعيين الأول : ” بانوراما درامية للحياة… صفحات من تاريخ قريتين” حيث نزل العنوان الفرعي بمنزلة الشارح لمضمون الرواية، أنها بمثابة سردية يروي المؤلف من خلالها تاريخ القريتين، ويوحي هذا العنوان بأنَّ تاريخ القريتين يمثل في مجمله حال البشرية، والإنسان بوصفه خليفة لله على هذه الأرض. وعلى وجه الخصوص يحمل تاريخ القريتين – عن طريق الترميز – صورة الأنا العربي، ومدى التشرذم في العلاقات بين الدول العربية، هذا التشرذم الذي يمثل حال الأنا الكلي للكيان العربي في بلاد الشرق – خاصة – في هذه الحقبة الزمنية. وعن طريق التأويل يتجلى لنا، أن حال قرية ” كفر دمنو” على وجه التحديد، وتلك الثلة اليهودية التي حاولت اختراق هذه القرية في أزمنة بعينها، يمثل أو يشير إلى ما يفعله اليهود في الماضي والحاضر بفلسطين الحبيبة وأرضها المقدسة، ويظهر هذا – جليّاً – من خلال بعض الأسماء التي تسكن وسكنت هذه القرية، مثل، صهيون، شمعون، مريكا، سليمان، داود، سمعان.
بينما يحمل العنوان الفرعي الثاني تجنيس الرواية بوصفها ” رواية خيال علمي ” وبهذا وضع الروائي روايته في إطارها التجنيسي. فهنا الكاتب يفتح لنا باب الدخول المخصص لقراءة هذه الرواية، أنها تنتمي إلى روايات الخيال العلمي. وقسَّم الكاتب روايته إلى جزئين الأول: دقات أشراطها، والثاني: فرار نبأها. ونحن من خلال ما وضع بين أيدينا نعالج الجزء الأول من الرواية وهو ” دقات أشراطها ” واختار المؤلف مفردة دقات لتتلاءم مع مفردة الساعة ودلالاتها المعجميّة.
يبتدئ الروائي مجدي الفقي الفصل الأول من روايته وعنوانه- ” شهد الملكة .. هلوسة ونبوءات من أفواه..” – بما يشبه الكرامة والنبوءات التي تجري على ألسنة أهل الحكمة من المجاذيب أهل الله، الذين يستشرفون المستقبل من طوالع السماء، ويكون بينهم وبين أهل البرزخ اتصال يشبه المكاشفات والرؤى، فيرى ذو الإصبع ” وجدي العشري” – في مستهل الفصل الأول من الرواية – سحابتين صُبغتا بالسواد تصارع كل منهما الأخرى، يشتبكان وينفصلان، وتعاود الريح دمجهما، رسمت السحب كائناً هلاميا بينهما، رجل ثائر الشعر واللحية، بعينيّ قلب الجمرة، تشقهما خيوط حمراء تملأ قبة السماء، وتفترش الأرض يجذبهما ليتعاركا من جديد، ويعلوهما دخان أسود، يضحك وجدي بصوت مرتفع ويشير للسحب… اهدوا يا بلد… اتهدوا شويه… الخراب جاي… الخراب جاي. جحظت العين الوحيدة، لفهيم الزند، فاغرا فاه، وضم جلبابه الممزق بين فخذيه، وسأله:
-بتقرا إيه في السما يا وجدي؟
-شوف جمل الشرق وجمل الغرب بيتعاركوا يا واد يا فهيم… الخراب جاي، وشوية شويه بتحمر عين الشر.
هذه النبوءة، هي ملخص لأحداث الرواية، وما سيجري من تفاصيل حكائية بين قريتيّ ” سامول” و “كفر دمنو”
تكونت الرواية من أربعة عشر فصلاً، اثنتي عشرة منها، يحكي الروائي فيهم تاريخ القريتين، بأسلوب بسيط، ولا تنتمي هذه الفصول لا من قريب أو من بعيد إلى الخيال العلمي، إذ ركّز الكاتب في سرديته على تفاصيل الحكاية التي تروي تاريخ القريتين. وفي الفصلين: الثالث عشر، والرابع عشر، يستعرض الروائي فيهما بعض ما سيكون من تقدم علمي وتكنولوجيا في المستقبل الآتي، وإن كان كثير منها تحقق وقوعه في الزمن الذي نعيشه، أو تنبّأ به روائيون قبل ذلك.
فهنا الرواية تقع في جدلية الزمن واللا زمن كما أشرت إلى ذلك في العنوان، فالجزء الأكبر منها والذي يحتل ثلاثة أرباع الرواية ينتمي إلى الزمن في ماضويته التاريخية، والجزء الآخر ينتمي إلى اللازمن، وأعني بالأخير، الزمن الآتي الذي لا وجود له إلا في مخيلة الكاتب.
تتسع الفترة الزمنية التي يسلّط الكاتب الضوء عليها لتأويلات متعددة، وتنتج هذه التأويلات من خلال فعل القراءة، ونعتمد من جملة هذه التأويلات تأويلا واحدا، تظنه القراءة التأويل الأقرب؛ نظرا لمواءمته للأحداث الجارية على الساحة العالمية الآن، وخصوصا تلك الحرب والإبادة الجماعية التي يتعرض لها إخواننا في غزّة.
ويعتمد هذا التأويل – في مجمله – على عدد من المؤولات التي تبرهن على صحة هذا التأويل. ومن هذه التأويلات دلالة بعض أسماء الشخصيات التي تقطن قرية ” كفر دمنو” مثل ( صهيون- شمعون- سمعان- مريكا- موسى- سليمان) ودلالة هذه الأسماء – ومما لا يدع مجالا للشك – تشير بوضوح إلى حضور الآخر/ اليهودي في هذه الرواية. ومن هذه المؤولات بعض الجمل الواردة على لسان بعض الشخصيات في الرواية، مثل: [ إنت عبرت حدود اليهود] قالها الحاج إبراهيم حسيب النبي، و [ أضاع صهيون معالم الأرض ] تلك الجملة التي وردت في الصفحة رقم 28 من الرواية، هذه الجملة – تحديدا – تشير بوضوح إلى المنهج المتبع من قبل الآخر/ اليهوي، وهو يحاول طمس معالم التاريخ قديما وحديثا ليثبت أحقيته في الأرض، وهذا ما يفعله اليهود منذ ردح من الزمن في الأراضي الفلسطينية، ومثل هذه الجملة – بوصفها مؤولا – تأتي جملة صهيون: [أنا قتيل أثر جدي سليمان]. ثم تأتي جملتان فاصلتان تحسم هذا التأويل وتوجهه ناحية الآخر اليهودي: الأولى على لسان ” غزّاويَّة ” أخت ” صهيون ” وهي تقول – ” كداب في أصل وشه.. خمسين جنيه اللي أعطاهم لي وجوزي فاتح بطنه، كل ما يعطيني عشرة جنيه يبصمني على ورقة وانا معرفشي حاجه، أقول له ورقة إيه دي يا ” صهيون” يضحك ويقول : دا حفظ حقوق يا غزاوية يا ختي متخافيش.” والجملة الثانية، على لسان هاجر زوجة ” ياسر الحفناوي” : [ نقعد في خيمة احنا والعيال وما نغلط زي اللي غلط أبدا…” بداية يشير الاسمان: غزاوية، وهاجر إلى القضية الفلسطينية، فغزاوية تشير إلى غزة ومحاولة نهب الأراضي الفلسطينية، وما يجري الآن من أحداث يعرفها القاصي والداني. ويشير اسم هاجر إلى تلك العلاقة والقرابة التي تربط العبرانيين بالعرب من طريق نبي الله إبراهيم عليه السلام، ويرجع الترميز في ” هاجر” – بوصفها مصرية -إلى موقف مصر من القضية الفلسطينية، ورفضها الذي لا يقبل مجالا للشك في قضية تهجير الفلسطينيين وخروجهم من الأرض، إذ حذرت مصر مرارا وتكرارا من فكرة التهجير، وقد صرحت بذلك القيادة السياسية في أكثر من خطاب لها. وتأتي جملة وجدي العشري : ” اصبر وعد التانية جاي.” تلك الجملة البسيطة في أسلوبها، والتي تناصت مع قول الله تعالى وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5). تستبطن هذه الجملة وعد الله بالنصر للمجاهدين الذين يضحون بكل ما هو غال من أجل الأرض وقدسيتها. فكل هذه الجمل التي انخرطت في البنية السردية للرواية تشير إلى وجود الآخر، وأنّ تاريخ القريتين إسقاط على الأحداث الجارية الآن في فلسطين.
ومن جملة المؤولات التي تشير صراحة إلى وجود الآخر اليهودي- وأنّ التاريخ الزمني الذي تستهدفه الرواية ما هو إلا إسقاط على الأحداث الجارية- تلك الأفعال المشينة التي قام بها اليهود في قرية ” كفر دمنو” ومن جملة هذه الأفعال، أنّ شمعون اشترى ربع بيت ياسر الحفناوي بتخطيط من جد صهيون، ورآهم البعض ينقّبون بملاعق صغيرة تحت الجدران، حتى انهالت على ياسر الحفناوي وأولاده:
جلس ياسر الحفناوي على كوم الأنقاض يندب حظه
-أروح فين يا بلد بباقي الأولاد
تهامس البعض من مصمصي الشفاه:
-يروح فين صحيح بكوم اللحم الباقي
برز صهيون برأسه المدببة:
-يقعد شوية عند إسماعيل المصري جاره على ما يبني داره.
صرخات مدوية من ياسر وزوجته، وانبطحا أرضا على ركام الأنقاض وقالا سويا
-أبدا… أبدا… نموت هنا ومانسيبشي بيتنا.
هذا الحدث – ومما لا شك فيه – ينقل لنا صورة الواقع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، ومحاولة تهجيرهم إلى أراضي سيناء، ولذا تعمّد الكاتب أن يطلق اسم ” اسماعيل المصري” على جار ياسر الحفناوي، والذي يشير عليه ” صهيون” أن يسكن لفترة معينة عند جاره ” إسماعيل المصري” وهذا ما يرفضه – تاما – ياسر الحفناوي وزوجته هاجر.
بداية من الفصل الثاني عشر، والمعنون بــ ” العشار عطلت ” ينتقل الروائي مجدي الفقي إلى اللازمن، حيث تبتدئ الرواية في سرد أشراط الساعة، ومن أشراطها، تعطيل العشار، وقبيل تعطل العشار، يتطور موضوع العشار من التلقيح الطبيعي إلى التلقيح الصناعي، وتهجين السلالات، وهذا ما يحسبه الروائي خيالا علميا، ولكن منذ فترة ليست بالقصيرة والدول الأوروبية تقوم بهذا التلقيح الصناعي للحيوانات، فالخيال العلمي هو استقراء للزمن الآتي وما يحل فيه من متغيرات علمية وسياسية وعسكرية واجتماعية، وكل ما سبق يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى التطور العلمي لدى الإنسان، وما استشرفه الروائي مجدي الفقي من تعطيل العشار في الزمن الآتي، ينبني اعتقاده على الشريعة الإسلامية وما أخبر به القرآن الكريم ” وإذا العشار عطلت” فهذا الاستشراف – من وجهة نظري الخاصة – هو استشراف ينبني على العقيدة، وليس خيالا علميا محضا.
أما الفصلان: الثالث عشر، والرابع عشر، والمعنونان على الترتيب بـــ ” وازيّنت… وظن أهلها” و ” وما يدريك… أتاها أمرنا” يشتبك الروائي مجدي الفقي مع اللازمن بصورة حقيقية وجادة، تنتمي إلى أحد مساري روايات الخيال العلمي، وهو التوقع أو التنبؤ كما أطلق عليه “جان غاتينيو”، ويعني هذا النوع، توقّع اختراع سلاح جديد خاص. أو إنجاز حضاري هام. وقد تم توقع اكتشاف القنبلة الذرية بشكل دقيق، بحيث خُيِّل لأجهزة الأمن الأمريكية في العام 1944 أنَّ هناك تسربّاً في المعلومات السرية عن صناعة هذا السلاح، وفي هذا المضمار توقّع الروائي مجدي الفقي ما سيؤول إليه العالم من تقدم في صناعة الأسلحة، وتفوق ” ضياء الإسلام ابن قرية ” كفر دمنو ” في اختراع أسلحة مضادة تقي العالم من هذه الحروب، وتكون سببا مباشرا في انتصار المقاومة على اليهود، حتى يتخفّى اليهود خلف الشجر والحجر، وينادي الشجر والحجر: يا مسلم ورائي يهودي تعال فاقتله.
اعتمد مجدي الفقي في الفصلين الثالث عشر والرابع عشر على تقنيات روايات الخيال العلمي ومرتكزاتها التي تجعل رواية ” يسألونك….؟ ….. غدا الساعة! تميل بطرف في نهايتها وحسب، إلى روايات الخيال العلمي؛ لتنحصر بذلك الرواية التي نحن بصددها الآن بين جدلية الزمن واللازمن، حيث جعل الروائي مجدي الفقي روايته تقبع بين التاريخ في ماضويته المحاصرة بقيود الزمن، وبين اللازمن أو المستقبل الآتي. ولعل من أهم وظائف ” الخيال العلمي” تلكم الوظيفة التي أشار إليها ” محمد العبد” في بحثه الموسوم بــ ” الخيال العلمي استراتيجية سردية ” هي الوظيفة التنبؤية، وهي تنطلق من التسليم بأنّ إمكانيات العلم النافع لا تنتهي، ولا يمكن لها أن تكف أو تعجز عن صناعة مجتمع الرفاهية. في هذه الوظيفة يطلق أدباء الخيال العلمي العنان لخيالهم للتنبؤ بشيء من الاكتشافات الجديدة التي تحلم بها البشرية في مجالات الطب والتكنولوجيا وفهم أسرار جديدة للطبيعة، ولعل الوظيفة التنبؤية هي الأوفر حظا في سرديات الخيال العلمي بعامة. وقد جعلت للخيال العلمي فرعا معروفا باسم ” أدب المستقبل” إذ ليس أدب المستقبل في حقيقته إلا فرعا من فروع الخيال العلمي الذي يهتم بمستقبل البشر وبالتطورات المستقبلية للبشرية، وقد صار أدب المستقبل علامة على الخيال العلمي وأصبحت له رؤاه السياسية والفلسفية.
وهذا ما فعله – تماما – الروائي مجدي الفقي في الجزء الأخير من روايته، حيث اندمغت رؤيته للعالم في المستقبل برؤى سياسية وعقائدية من خلالهما استطاع أن يستشرف نهاية العالم، وما الذي ستؤول إليه البشرية في مستقبلها.
المصادر والمراجع:
جان غاتينيو: أدب الخيال العلمي، ت: ميشيل خوري، دمشق، طلاس للدراسات والنشر، ط1، 1990.
كوثر عيّاد: أدب الخيال العلمي تعريفه وأنماطه.
مجدي الفقي، رواية : ويسألونك ……؟ …….. غداً الساعة!!
محمد العبد: الخيال استراتيجية سردية، مجلة فصول، ع71، خريف 2007.