أمد/
التقيت على هامش معرض عمان الدولي للكتاب 22 في عمان بالصديق فتحي صلاح، وطلب مني إيصال كتب لنابلس، وحين اتصلت بصاحب الكتاب لأحتلنه قال لي بحماس: “هذا الكتاب رايح يعجبك”، فبدأت قراءته في عمان، وشدّني جداً لموضوعه، ولأنّ غالبيّة “أبطاله” من معارفي الذين التقيتهم خلف القضبان في السنوات الأخيرة.
يتكون كتاب “المُغيَّبون خلف الشمس” من 337 صفحة، تصميم الغلاف: محمد أيوب، إصدار: دار المناهج للنشر والتوزيع، عمان ومؤلفه الدكتور عقل صلاح أحمد، باحث فلسطيني في العلوم السياسية، حائز على درجة الدكتوراه في النظم السياسية المقارنة من جامعة القاهرة، وأسير محرّر. وكنت قرأت الكتاب عدّة مرات قبل إيصال النسخ لصاحبها، وكان من المفروض إيصالها يوم 07 أكتوبر وحصل ما حصل.
جاء الإهداء مغايراً: “إلى مقامات الوطن العليا، إلى حرّاس الوطن، إلى الفدائيين خلف الشمس، إلى سَدَنة الحلم، إلى القادة الحقيقيين، إلى الأقمار على طريق النصر، إلى المحاربين الذين لا يستريحون، إلى ضمائر الوطن المُغيّبين، إلى الأحياء الحقيقيين في هذا الزمن… إلى كلّ الأحرار الذين آمنوا بفلسطين من بحرها إلى نهرها وطناً لا بدّ من خلاصة”.
يبعد الكتاب-كل البعد-عن أدب السجون الكلاسيكي، فلا يتناول معاناة الأسرى وصمودهم، بل يتناول حكايات 10 من قادة الحركة الأسيرة، ولكلّ منهم قصّة صمود وتحدٍّ وحكاية مغايرة؛ والأسرى العشرة (حسب ترتيب الكتاب) هم: أحمد سعدات ومروان البرغوثي وكريم يونس ونائل البرغوثي وجمال أبو الهيجا وكميل أبو حنيش وخالدة جرار ووليد دقة وحسن سلامة وزيد بسيسي.
كان لي شرف لقاء 8 من هؤلاء الأسرى عبر القضبان في السنوات الأخيرة، وقضيت معهم ساعات كثيرة، وكان آخرهم الأسير جمال عبد السلام أسعد أبو الهيجاء الذي أطلّ شامخاً بتسعة مؤبّداته من قسم 3 في سجن الجلبوع، فأخبرته أنّني تعرّفت عليه من خلال كتاب “المُغيَّبون خلف الشمس” ممّا أذاب جليد اللقاء الأوّل بيننا.
يتخذ الكتاب صفة “الكتاب البحثي”، وجاء في خمسة مباحث؛ عنوَن المبحث الأول “من قيادة الشعب الفلسطيني إلى غياهب السجون”؛ وتناول فيه مسيرة أحمد سعدات ومروان البرغوثي. والثاني “أقدم أسيرين سياسيين في العالم”؛ وتناول مسيرة كريم يونس ونائل البرغوثي. والثالث “من قيادة العمل الجماهيري إلى قيادة المقاومة في الانتفاضة الثانية”؛ فتناول مسيرة الشيخ جمال أبو الهيجا وكميل أبو حنيش. والرابع “البرلمانية والكاتب يدقون جدران السجون”؛ فتناول مسيرة خالدة جرار ووليد دقة. والخامس “من قيادة المقاومة والثأر المقدس إلى العزل الانفرادي”؛ وتناول مسيرة حسن سلامة وزيد بسيسي.
تطرّق الباحث للحياة الشخصية والتنظيمية لكلّ من الأسرى الذين تناولهم، مطاردتهم واعتقالهم، نهجه الثوري والمقاومة، موقفهم من التطورات الحاصلة على الساحة العربية، موقفهم من القضايا السياسية على الساحة الفلسطينية مركّزاً على التنسيق الأمني والاعتقال السياسي والمصالحة الفلسطينية وانعقاد المجلس الوطني ومنظمة التحرير والمفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية والانتخابات التشريعية الثالثة ومواقفهم من مسألة الانقسام وضرورة إنهائه وتحقيق الوحدة الوطنية، وضرورة إعادة بناء وترميم البيت الفلسطيني الداخلي، وصفقة القرن. كما تناول العزل الانفرادي لفترات طويلة لقادة الحركة الأسيرة، ونضال الأسرى والإضرابات عن الطعام، وحرمانهم من الزيارات العائلية، واستهداف قضية الأسرى، وتطرق للمطاردة الساخنة لبعضهم واعتقالهم من قبل السلطة الفلسطينية.
بالإضافة إلى ذلك، بحث المؤلف مسائل التعليم الجامعي العالي داخل السجون الإسرائيليّة، والثورة الثقافية الأدبية، ورفض إطلاق سراح غالبيّة هؤلاء الأسرى في الصفقات على مرّ السنين، واتفاقيات السلام، والتضامن الشعبي معهم محليا ودوليا.
حاول الدكتور عقل صلاح رصد مسيرة الحركة الأسيرة عبر عشرة من رموزها النضالية الذين قضوا عشرات السنين خلف القضبان في زنازين الاحتلال المظلمة وباستيلاته وتسليط الضوء على هويّتها التحرريّة.
كانت مصادر الكتاب متعدّدة وغنيّة وشمولية، بعيداً عن الفئوية المقيتة؛ فاعتمد الكاتب على وثائق، وكتب، ودوريات، وتقارير وندوات ومرافعات، ورسائل وأطروحات جامعية، ومقابلات مع الأسرى (أبطال كتابه البحثي) وآخرين ممّن لهم صلة وعلاقة بهم، وروايات وشهادات، ورسائل وبيانات، ومواقع إلكترونية، وصحف، فجاء شمولياً وموضوعياً.
يحاول الباحث تسليط الضوء على معاناة الأسرى داخل السجون، مؤكداً أنها من أهم القضايا السياسية والوطنية التي يجب أن تكون من أولى أولوياتنا، وعلى رأس الأجندة السياسية والإعلامية والجماهيرية والكفاحية، وليست مجرد قضية إنسانية وحسب.
التقيت، كم ذكرت أعلاه، بغالبية من تناولهم الكتاب؛ وأعادتني قراءة الكتاب لتلك اللقاءات وأجوائها، وما زال عالقاً في ذهني منها؛ وكأنّي بالكاتب حاضراً بيننا في ساعة اللقاء. فالتقيت بأحمد سعدات يوم 3 يونيو 2019 في سجن ريمون الصحراوي وكتبت على صفحتي بعد اللقاء: تبادلنا أطراف الحديث فجاء مثقّفًا لأبعد الحدود، تحليلاته مدروسة ومنطقيّة، ملمّ بكلّ شاردة وواردة، بعيدة عن الشعاراتيّة ومتجذّرة بأرض واقعنا المرير… عن أهميّة التعدديّة وضرورة النقد البنّاء والموجّه، عن الانقسام المقيت في الشارع الفلسطيني وأمور أخرى.
وكتبت بعد لقائي بمروان البرغوثي يوم 15 أيلول 2019 في سجن هداريم: “حدّثني بحماس عن أهميّة مشروعه التعليميّ خلف القضبان، مسيرته مع طلبة البكالوريوس والماجستير من الأسرى، ناقشنا غرامشي وتشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، نظرته ونبرة صوته تشعّ أملًا وإرادة وكلّها تفاؤل”. أما كريم يونس الذي التقيته يوم 10 يوليو 2019 في سجن هداريم فسبق أن أكد لي ما جاء في كتاب “المغيبون خلف الشمس” بقوله حين رآني: “شُفِت إنّو معي حق؟” وأعادني عشرات السنين حين كنت في البدايات، التقيته في سجن النقب الصحراوي للتوقيع على أوراق صفقة التبادل وابتسم حينها وقال: “سأوقّع ولكن لن تشمل الصفقة كريم، إسرائيل تفضّل إبطالها كليًّا إذا أصرّ الجانب الفلسطينيّ على ذلك” … وصدق!!.
وحين التقيت نائل البرغوثي يوم 3 كانون أوّل 2020 في سجن إيشيل حدّثني عن اعتقاله المتجدّد، صبيحة 18.06.2014 حين عودته من الصلاة تمّ “اختطافه” واعتقاله… والعالم يتفرّج صامتًا، اعتقال تعسفّي كردّة فعل لضغط المستوطنين… اعتقل للمرّة الأولى يوم 04.04.1978 وشعاره “هاي طريقنا واخترناها”، دفعنا ثمنًا ولسنا بحاجة لمقابل، ولم يعوّل على حرّاس أبواب الكازينو في أريحا ولا حرّاس المولات. وفي يوم 11 شباط 2024 التقيت في سجن الجلبوع حدّثني عن عزله بسبب صلاته في ساحة الفورة رغم المنع “صلّيت بالساحة وحدي ذات جمعة، أخذوني على الزنازين الانفرادية لأربعة أيام”.
وحكايتي مع كميل أبو حنيش شرحها يطول، فقد التقيت به 9 لقاءات داخل السجن لساعات طويلة، وتبين لي أنه شتّان بين أن تقرأ أدب الحريّة أو عن أدب السجون، وبين لقاء أديب بين القضبان، وقد سجلت هذه اللقاءات في يوميات زياراتي للأسرى، ومتنفسات الكتابة خلف القضبان.
أما خالدة جرار فالتقيتها 5 مرات داخل السجن لساعات طويلة، قبل 7 أكتوبر وبعده، وما زال عالقاً في ذهني ما حدّثتني به ذات لقاء عن أهمية تذويت القيم الإنسانيّة، فعلًا وليس قولًا، تعوّل على الجيل الجديد، وأهميّة تقبّله للآخر وللتعدّديّة، وعلينا أن ندافع عن تلك القيم لنتحرّر ونرتقي، وكم يؤلمها الحالة التي آل إليها الشارع الفلسطيني، كفانا تباهيًا من أقلّنا وحشيّة وقمعًا، فـ “كلّنا تحت بُسطار الاحتلال”.
والتقيت بوليد دقة 5 لقاءات داخل السجن لساعات طويلة، تناولنا “الزمن الموازي”، صهر الوعي والمحاولات المستميتة لاستهداف معنويّات الأسير في السجون عبر إعادة صياغة عقله وفق رؤية إسرائيليّة، فباتت السجون بمثابة مؤسّسات ضخمة لطحن جيل فلسطيني بكامله، وهي أضخم مؤسّسة عرفها التاريخ لإعادة صهر الوعي لجيل من المناضلين. حدّثني في اللقاء الأول بيننا عن ألمه وحسرته لاحتجاز السلطات حوالي ثلاثمائة جثّة فلسطينيّة ومنها جثمان الشهيد فارس بارود الذي توفيّ خلال فترة سجنه وما زالت جثّته محتجَزة وتساءل فارس محدّقًا بوجه سجّانه باستهجان: “هل ستحتفظ سلطة السجون بجثّتي حتّى تنتهي فترة محكوميّتي لتحريرها؟؟” ونحن صامتون صمت القبور… وعكاكيز السلطة تفاوض! … ويا لسخرية القدر، ها هو وليد يستشهد داخل السجن وما زالت جثّته مُحتجزة.
وأخيراً؛ أشار الكاتب إلى مقالة نشرتها في حينه حول رواية الكبسولة في بداية مشروعي التواصلي مع أسرى يكتبون (ص. 174)، وكذلك مقابلة أجراها معي بعد واحد من لقاءاتي بالأسير وليد دقة، تزامناً مع ذكرى يوم اعتقاله السادسة والثلاثين (ص.210) وإلى مقالتي “الأسير وليد دقة يحلّق في سماء الحريّة” (ص.212)، ووجدتني حين أنهيت قراءته للمرّة الأخيرة وكأنّي في جولة بين أصدقاء لي أتوق للقياهم وعناقهم.
يصل الباحث إلى نتيجة مفادها أن الحياة في السجن هي كفاح من نوع آخر ضد المحتل ولكن الاهتمام والتضامن مع قضية الأسرى في تراجع على المستوى المحلي والإقليمي والدولي ويعزي ذلك إلى حالة الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني، وضعف إدارة ملف الأسرى من قبل السلطة، وعدم وجود رد فعلي حقيقي من قبل القيادة لانتهاكات الاحتلال تجاه الأسرى والتزام السلطة بالتنسيق الأمني مع إسرائيل.
ويختتم بمطالبة القيادة الفلسطينية تدويل قضية الأسرى قانونيًا ودبلوماسيًا، وتحييد قضية الأسرى ورواتبهم ومخصصات عوائلهم عن الخلافات الفصائلية، وممارسة الضغط على إسرائيل من أجل تحسين ظروف اعتقال الأسرى وإعطائهم أبسط الحقوق.
وينهي بمطالبة كل أبناء الشعب الفلسطيني الوقوف مع قضية الأسرى وإحياء كافة الفعاليات والمناسبات والوقفات الاحتجاجية بالمستوى الذي يليق بتضحيات الأسرى وعدم الاكتفاء بفزعات عرب موسميّة هنا وهناك من باب رفع العتب.
نعم؛ وإلى أن يتحرّر آخر أسير فلسطيني وعربي من سجون الظلم والعدوان الغاشمة، سنبقى ندق الجدران ونقرع الأجراس.