أمد/
يعتقد الكثيرون أنّ الرواية – بوصفها جنسا أدبيّاً – تنتمي إلى الواقع، وتلتصق به، إذ يعدها البعض مجتمعاً صغيرا، أو كوناً مصغرا من الكون الذي نعيش فيه، ولكن هل واقع الرواية هو الواقع المجتمعي الذي نحياه؟ أم ثمة فرق بين الواقعين؟ إنّ الأدب عموما لا يخلق واقعا موازيا، بل يخلق عالمه الخاص به، وأعتقد أنّ هذا العالم الخاص بالأدب، هو الذي يجذب القارئ إلى الأدب بشتى فنونه. وهذا الخلق الجديد ليس خلقا من عدم، إذ الواقع المُعاش هو المادة الخام التي ينخلق منها الشعر والرواية والقصة والمسرح، فثمة اتصال وانفصال بين الواقعين، وكل فن من الفنون الأدبية يخلق عالمه بمرتكزاته الخاصة وآلياته التي تضمن له خصوصيته، فمعالجة الشعر للواقع تختلف كثيرا عن معالجة الرواية له، فالشعر يميل ناحية التخييل، ويخلق واقعه في عوالم بعيدة كلّ البعد عن الواقع المعاش، فيتبادر إلى ذهن القارئ أنّ العالم الشعريَّ بعيد كل البعد عن واقعنا، وهذا الأمر ليس صحيحا، فالفنون الأدبية بسائر أنواعها تنتمي بشكل أو بآخر إلى الواقع وهذا لا جدال فيه، إذ انفصام الفنون الأدبية عن واقعها يعد ضربا من الهذيان، والفنون الأدبية مهما استغرقتها عوالم التخييل فهي منغرسة بالقوة في المجتمع ومنقهرة تحت سلطة الواقع.
تتمايز الرواية عن الشعر وسائر الأجناس الأدبيّة الأخرى ببنائها السردي الذي تنطمر فيه الحكاية، ويكون القارئ بين أيديولوجيتين: أيديولوجية الروائي، وأيديولجية الواقع، إذ تنتمي الأخيرة إلى الواقع بملابساته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فهي تمثل ” الوعي الجمعي ” للمجتمع أو ” الأنا الكلي ” بينما تمثل الأولى ” الوعي الذاتي ” أو ” أنا المتعالي” ونقصد بالأخيرة وعي الذات بواقعها والذي يتماس مع الواقع إذ هو طينة الخلق التي تنخلق منها الرواية، ولكنه مع هذا التماس والتقارب يبتعد أيّما ابتعاد عندما يعيد خلق هذا الواقع في عالم الرواية وبنائها السردي. وتظل الحكاية هي نقطة التلاقي التي تجمع بين الروائي والقارئ، فكلما كانت الحكاية الواقعية هي آلية التواصل بين مبدع النص ومتلقيه؛ يظل القارئ منغرسا في واقعه دون أن ينفلت منه حال القراءة، ومن هنا تكون الرواية وعن طريق الحكاية هي الأقرب – من حيث معالجة الواقع – إلى القارئ، وكأنّ الرواية كلما انتمت إلى واقعها كلما اقتربت من قارئها ” إنّ هذا العالم الروائي أو الواقع الروائي هو إعادة إنتاج لمعطيات الواقع الخارجي، وخبراته الجمّة المعاشة بالمنطق الخاص للخطاب الروائي. والاختلاف والتناقض بين الواقعين، المتخيل المبتدع والخارجي المعاش، هو تأكيد في ذاته لرابطة العِلِّيّة بينهما. إنّ الواقع الروائي هو عامة رفض للواقع السائد… وهو رفض يتحقق بإبداع عوالم متخيلة بديلة، أو بإعادة تشكيل معطيات العالم الخارجي تشكيلا قد يكشف جوهر نواقصه، أو جوهر صراعاته، أو جوهر حركة قواه الاجتماعية المختلفة.” فتسليط الضوء على الواقع لا يعني بالضرورة التشابه والتقارب بين الواقعين، إذ تتجلى وجهة نظر الروائي ورؤيته للعالم ومعالجته المتمايزه لقضايا الواقع – من خلال الرواية التي تمتطي ظهر الحكاية الواقعية؛ بغية انغماس روايته في واقعه
” فمن العبث وضيق الأفق أن نقول بالمطابقة بين الواقع الروائي المتخيل والواقع الخارجي المعاش، أو أن نحاسب الخطاب الروائي بمدى مشابهته للواقع الخارجي في أحداثه وشخصياته وعلاقاته، وبنية عالمه – فهذا مفهوم مآلي قاصر للعلاقة بين الخطاب الروائي والواقع… وهذا لا يعني القطيعة المطلقة بين عالم الرواية وعالم الواقع، ولا يعني هذا نفي معلولية عالم الرواية لعالم الواقع الخارجي، ولا يعني أن عالم الرواية كينونة قائمة بذاتها تصدر من لا شيء.” فهي صادرة عن واقع الروائي المعاش، إذ لولا الواقع ومعاناة الكاتب لهذا الواقع؛ لما انوجدت كل هذه الفنون الأدبية.
تعالج هذه القراءة إحدى الروايات التي تنتمي إلى الواقع، وتجعل الأخير مناط مضمونيتها، بل تجعل من الواقع موضوعا لها، وهي رواية ( سيسامنيس ” مستشار الزمالك) للكاتب والروائي أحمد عبدالله إسماعيل، إذ يسلط الكاتب الضوء على شخصية مرموقة في المجتمع المصري، وتجمع هذه الشخصية في كليتها الحياتية جميع المتناقضات، وتندرج كثير من الشخصيات – التي تميل إلى جانب الشر الإجرامي – تحت الشخصية الكبرى التي بقوة مركزها تحرك كل هذه الشخصيات إلى أقصى اليسار الإجرامي، وبالطبع ومن خلال ما أشرت إليه سابقا – فالرواية مع انتمائها إلى الواقع الذي يعايشه ويعانيه الروائي، صدّر الكاتب أحمد عبدالله إسماعيل للقارئ في بداية الرواية ومن خلال عتاباتها الأولى أنّ الرواية ” تصورية متخيلة رغم أنها واقعية أكثر من الواقع نفسه، بسبب حدوث معظم تجاربها ولحظاتها من قبل ولا زالت، وأي تطابق بينها وبين الواقع هو من وحي خيال القارئ أو للضرورة الفنية لكنه منطقي، لأن الأحداث حدثت وتحدث وستحدث في أكثر من مكان بالعالم رغم التفاصيل والمصائر المتغايرة.” وأردف أحمد عبدالله إسماعيل قائلا: ” كما أنّ جميع شخوص هذه الرواية محض خيال، ولم يسبق لي أن أسست رواياتي على شخصيات حقيقية أعرفها؛ لأنه من غير اللائق أن أستعير شخصياتي من الواقع، لما في ذلك من انتهاك لخصوصيات الآخرين، وتعدٍ على حقوق ملكيتهم لحيواتهم. ولهذا كانت هذه المقدمة النظرية التي ابتدرت بها هذه القراءة النقدية إذ ” تكشف لنا الرؤية الروائية أوجهها المجهولة. كائنات مصنوعة من المادة نفسها التي صنعنا منها ومحاطة بالشبكة نفسها من الزمان والمكان، لكنها بوساطة سلسة من القياسات والتماثلات والتغيرات، توسع فجأة مجال إنسانيتنا.” وهكذا يتداخل ويتناسج الواقعان الروائي المتصوّر والخارجي المعاش ولا يكون الواقع الروائي تقليدا للواقع المعاش بالمعنى الأفلاطوني أو الأرسطالي، ولا يكون كذلك استنساخا آليّا أو انعكاسا مرآويا، أو مجرد انعكاس جدلي للواقع، وإنما يكون معلولا إبداعيّا لهذا الواقع، وعلة فاعلة فيه كذلك.” فالرواية مهما تماهت مع الواقع فهي واقعة بين جدلية المتخيل/ المتصور والواقع المعاش.
في رواية “سيسامنيس” للروائي أحمد عبدالله إسماعيل، تتخطى أيديولوجية الخطاب الروائي العناصر المكونة للواقع من سياسة واقتصاد واجتماع وأخلاقيات وتركّز الضوء على المجتمع من خلال هذه المكونات، ولا تتوقف عند موضوع بعينه، إذ المكون الواقعي “وإيديولوجيا الخطاب الروائي لا تتمثل فحسب في الموضوع السياسي أو الاجتماعي المباشر الذي يعالجه هذا الخطاب، أو حتّى فيما يوحي إليه هذا الخطاب من دلالة سياسية أو اجتماعية مباشرة.. فالايديولوجية لا تتجلى في المواقف السياسية والاجتماعية فحسب، بل قد تبرز بشكل أو بآخر في قضية حب، وفي رؤية للطبيعة أو في حكاية أسطورية مجردة. فهي الدلالة المؤثرة للخطاب الروائي، أيا كان موضوع هذا الخطاب. ولا تتحدد سلبية أو إيجابية هذه الايديولوجية، بإيجابية أو سلبية المواقف والأحداث والشخصيات داخل الخطاب الروائي، ولا بالطبيعة الطبقية لشخصياته، وإنما بالدلالة العامة للخطاب الروائي ولوظيفته الموضوعية المؤثرة.”
ترتبط رواية ” سيسامنيس” للروائي أحمد عبدالله إسماعيل بواقعها ارتباطا وثيقا؛ ولذا تصنّف هذه الرواية رواية واقعية، إذ تنغمس الرواية بكليتها في الحياة الواقعية التي يعيشها المجتمع بشخوصه على اختلافهم الطبقي، ربما تميل ذائقة قارئ ما إلى الرواية الرمزية والتي تستغرقها عوالم الرمز بالكلية، ويميل قارئ آخر إلى تلك الروايات الواقعية التي ينشد فيها القارئ التجربة الإنسانية بمستوياتها المختلفة إذ ” أننا نقرأ الروايات تعويضا عن بعض النقص في تجربتنا الإنسانية” فالقارئ يجد في الروايات التصرفّات التي تحرّمها عليه رقابة المجتمع أو الرقابة الأخلاقية: إرضاء الرغبات الجنسية، السلطة الثروة، الوجود على هامش القوانين، وبالتالي حياة غنية بتجارب يصعب تحقيقها في الواقع. ذلك أنّ هذه الرغبات والتطلعات التي يشوبها في الغالب طعم الفاكهة المحرمة، يخالطها شعور بالذنب تحاول الرواية أن تقلله أو تمحوه، فهي ترضي هذه التطلعات بأن تضع نقابا عليها يجعلها مقبولة في نظر القارئ، لكي يكون بإمكانه الاعتراف بها أو الاستسلام لها. إن قراءة الروايات تحررنا ومن ثم فهي تكشف لنا أنفسنا بمعنى أنها تجسّد مخاوفنا ورغباتنا وتمنحها شكلا معينا.” ومن هنا، ولعل هذا هو السبب الأهم الذي يجعل القرّاء يميلون إلى قراءة الروايات وخاصة الواقعي منها ” فارتباط مفهوم الرواية بالحياة أو بالمجتمع بهذا الشكل جعلها ذات طبيعة خاصة وذات وظائف محددة، جعلها صورة خيالية مركبة من أشخاص وأفعال وأقوال وأفكار، من جنس الأحداث التي تجري في المجتمع وعلى شاكلة الأشخاص الفاعلين فيه، وتعبر تعبيرا دقيقا وصادقا عن واقع الصراع الإنساني، وتكشف عن حقيقته حسب وجهة نظر الكاتب ورؤيته الخاصة.” ولكن مع تنوع وتعدد أشكال الرواية في العصر الحديث وجنوح عالم الرواية إلى الشعرية المفرطة أو الرمزية المغرقة؛ يظل القارئ تستهويه تلك الروايات التي تباشر واقعها بصورة بسيطة غير معقدة مسلّطة الضوءعلى قضايا مجتمعها، ولا تقف عند حدود واقعها ولكنه تطرح سبل المعالجة وطرائق الخلاص ولذا “تنوّعت أساليب الروايات تنوعا كبيرا حسب الصلة التي يعقدها الروائيون بين هذه الصورة الفنية وبين الواقع المصور من ناحية، وبينها وبين فكر الكاتب من ناحية أخرى فاقتربت الرواية من الواقع حينا إلى الدرجة التي جعلتها تسجيلا حرفيا لأحداث هذا الواقع، واقتربت من فكر الكاتب حينا آخر إلى المدى الذي ضحّت فيه الرواية بالواقعية في سبيل التعبير عن هذا الفكر، ووقفت حينا ثالثا موقفا وسطا بحيث لم تهمل الرواية الواقع ولم تهمل فكر الكاتب، بل نظرت إلى الواقع من منظور خاص جعل هذا الواقع أكثر شفافية لأنها حوّلته إلى واقع أعمق من السطح التسجيلي الظاهري الذي تبدو عليه الحياة، وربطته بسند الحقيقة في توجهها الذاتي والموضوعي، كما أنها عبّرت عن دلالات أعمق من فكر الكاتب، لأنها رسمت هياكل فنيّة منفتحة دائما وقابلة للتأويل.” وهكذا كانت رواية ” سيسامنيس” للروائي أحمد عبدالله إسماعيل والذي حاول أن يقف موقفا وسطا بين المتخيل/ المتصور والواقع مع إبراز وجهة نظره في قضايا المجتمع محاولا بعدة وسائل وسبل أن تنمحي مثل هذه السلبيات من الواقع الذي يعيشه فكانت رواية ” سيسامنيس ” هي نقطة التلاقي التي تجمع في بوتقتها الواقع والمتخيل والحكاية وما وراء الحكاية وبهذا يتمايز الأدب الروائي الواقعي عن سائر الأنواع الأخرى ولا بد لنا من الإشارة هنا إلى أنّ هذا الانحياز هو، في سرديته البسيطة، وفي رقيه الفنيّ، هوية موقع، ينحاز، لقيم مضيئة، يجابه بها، وعلى المستوى الثقافي الأيديولوجي، قيما أخرى مظلمة وسائدة في مجتمعاتنا العربية، قيما تشكل في تسلطها، معاناة الإنسان العربي، وبالتالي فإنّ الانحياز هو، في معناه العميق، إقامة بنية عالم يحيل على مرجع له، واقعي ويتوجه في دلالته نحو مزيد من الوعي، أو نحو وضع الإنسان القارئ موضع المساءلة، والرؤية الكاشفة، والرواية هنا تمارس على المستوى الثقافي دورا في الصراع.” إذا نعتبر الرواية الواقعية الضمير الحيّ الذي من خلاله يوجه الكاتب القارئ وبأسلوب غير مباشر إلى التمسك بالمبادئ والقيم ” وهكذا تتمخّض العلاقة بين الموضوع الروائي وبين الحياة المعيشة من ناحية وبينه وبين فكر الكاتب من ناحية أخرى على ثلاثة أشكال : الرواية التسجيلية والرواية الوعظية والرواية الفنية.” وأظن ومن خلال المطالعة والقراءة لرواية ” سيسامنيس” للروائي المصري أحمد عبدالله إسماعيل أنها توزعت من خلال بنيتها السردية ما بين التسجيلية والوعظية والفنية، فمن يطالع رواية ” سيسامنيس” تتجلى أمامه الرواية بوصفها تسجيلا للواقع، وتقف الرواية من القارئ موقف الواعظ والمرشد، بينما يتأرجح الواقع المسجّل في الرواية والقيم الوعظية على سلم الفن الروائي الذي يتغياه كل كاتب في كتابته الأدبية، فلو كانت الرواية تسجيلا لواقعنا ووقفت موقف الواعظ وحسب سيتخلى القارئ عن ممارسة القراءة لرواية أقصى حدودها هو الوعظ، وعلى عكس هذا جاءت رواية ” سيسامنيس” حيث امتزج ما هو فني – وفق آليات الكتابة الروائية – بما هو واقعي إرشادي، ولعل الرواية بوصفها ضميرا حيا من خلاله يخاطب الروائي القارئ ميزة تتمايز بها الرواية عن سائر الأجناس الأدبية الأخرى.” وقد شهدت العقود الثلاثة الأخيرة من هذا القرن تحوّلا كبيرا خطيرا في نمط الحياة العربية في كل جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وشهدت كذلك تحوّلا مشابها في شخصية الإنسان العربي، وكان ذلك التحول ناشئاً من مجموعة متشابكة من العوامل التاريخية والثقافية والصراعات الحضارية والاقتصادية والسياسية، وكانت الرواية من أسبق الأشكال الفنية التي رصدت حركة هذا التحول، وذلك بحكم ارتباطها الشديد بالواقع وبحركة حياة الناس، وبسبب ما لديها من طاقات مكنتها من الولوج بسلام إلى مناطق محرّمة، ونتيجة لذلك تمخّضت نماذجها عن مضامين ساخنة يعبر أكثرها عن مواقف ساخطة متبرمة لا تتوافق مع الواقع، ولا ترغب في استقراره، وسلكت في سبيل ذلك مسالك متعددة من التشكيل والرمز.” وتدخل رواية ” سيسامنيس” إلى تلك المناطق لتبرز القيم والمبادئ التي تتبناها الدولة المصرية وهي أن تضرب الدولة بيد من حديد كل من يحاول مخالفة القانون مهما علا شأنه وكانت سطوته، فالدولة بكياناتها تحاول بشتى السبل أن تقف في وجه الباطل لتبزغ شمس الحقيقة على أرض هذا الوطن، وهذا ما عبرت عنه بحرفية رواية ” سيسامنيس” للروائي المصري أحمد عبدالله إسماعيل، وكأن دور البطولة الحقيقي في الرواية تمثله الدولة التي تسعى على قدم وساق أن تحقق مبدأ العدالة بأن تحاسب كل من يزرع نبتة شيطانية في أرضها، وقتها وبكل حسم تقتلع الدولة هذه النبتة الشيطانية وغارسها على حد سواء وبلا هوادة. ويتقاسم دور البطولة جانب الشر الذي يحاول أن يعطل ويعركل مسار العدالة بسطوته وجبروته، ولكن هذا البطل المزعوم ينهزم أمام جلال الدولة وسلطتها العليا ” فالتصوير الصادق للعلاقات الاجتماعية في الرواية، هو الذي يشير إلى الهدف الذي تتضمنه الرواية، بل هو إياه، لأنّ التصوير الصادق للحركة الاجتماعية هو رؤية للحركة الإنسانية في اتجاه حركتها، هو امتلاك معرفي للواقع. إنّ الامتلاك المعرفي للواقع هو المستوى الأعمق والأشمل لامتلاك الراهن، إنه جوهر الراهن ودلالته وتفسيره.” ومن هنا ” تصبح الرواية المجتمع والعالم بصورة مكثّفة، ويصبح الوجود الأكبر كوناً مصغّرا مثلما تقدم الذرة نموذجا للوجود ككل، فبناء الرواية هو بناء المجتمع.” أو نتعبر الرواية الواقعية نافذة من خلالها نطل على ثلاثة عوالم: العالم المتصور في ذهن الكاتب، والعالم الواقعي، والتمثلات السردية التي تجمع هذه العوالم كلها منسحقة تحت سلطة البناء السردي للرواية.
يعتقد كثير من النقاد أن الرواية الواقعية سهلة التناول من حيث القراءة النقدية، ولكنها في الحقيقة على العكس من هذا تماما ” فالواقع شديد التعقيد، شديد الغنى ومتشابك، أنه كل شبكة من المتناقضات المؤتلفة والتي تصنع وتنسج في صدامها وتآلفها، في تفرقها وتجمعها، سيولة الزمن وشكل المجتمع أو حالته، وبدهي أن أي تمثل أو امتلاك معرفي علمي لهذه السيولة الزمنية الاجتماعية، إنما يجب أن يكون في سعة تدفق هذه السيولة الزمنية – الاجتماعية وفي غناها، يجب أن يغوص ليلتقط الجوهر خلف المظهر، إن لم نقل يجب على هذا التمثل الممتلك للواقع أن يكون في سعة هذه السيولة – الحركة وفي غناها وتعقيدها في ائتلاف تضادها الواقعي وفي تشابكه. وهذا التدفق والسيولة وجدناها في رواية ” سيسامنيس” للكاتب أحمد عبدالله إسماعيل، حيث تدفقت أحداث الجريمة أو الجرائم المتعددة داخل الرواية في سيولة عجيبة واكبت سرعة الزمن الروائي المحتشد بكم هائل من الجرائم؛ نظرا لنوعية الشخصيات التي تمثل جانب الشر أو الجانب المظلم في الواقع الذي نعيشه، حيث ترتكب تلك الجرائم في الشوارع الخلفية للواقع في سلسلة ممتدة لا متناهية حتى تحاوطها وتسيطر عليها كيانات الدولة المحترمة ثم تضيء هذه الشوارع بمصابيح الفضيحة التي يتلاشى مع وجودها هذا الظلام المخيم على الجانب غير المرئي لهذه الشخصيات. وبحرفية متناهية بالغة تدفقت الأحداث وأصبح للزمن الروائي سيولة تواكب سيولة الزمن الواقعي.
يضع الروائي أحمد عبدالله إسماعيل القارئ في موقف المكاشفة بحيث يكون القارئ هو الحاكم على كل هذه الأحداث، ولكنه – أعني القارئ- محكوم بتلك الأيديولوجيا التي تخضع لسلطتها الرواية بوصفها مؤسسة قائمة بذاتها، ولكنها في النهاية تخضع لسلطة الأيديولوجيا الواقعية التي يتمايز فيها الخير على الشر وتنتصر فيها الدولة للعدل وتنتصف ” فعندما يطغى منظور أيديولوجي واحد يسود العمل الأدبي كله، وتكون كل القيم خاضعة لوجهة نظر واحدة، بحيث أنه إذا ظهر منظور مخالف على لسان شخصية من الشخصيات مثلا، أخضع هذا المنظور إلى إعادة تقييم من وجهة النظر السائدة تشمل تقييم الرأي ومصدره، فَتُخَطِّأ الشخصية التي جاء على لسانها وتُجْرَح.” وكما انتصفت الدولة بشخصيتها البطولية في الرواية للعدل يستطيع القارئ أن يميز هو الآخر بين جانبي الخير والشر وإلى أي الشخصيات ينتمي، ومن البدهي أن ينتصف القارئ في النهاية للدولة التي تحاول بشتى السبل أن تقتلع الشر من جذوره حتي يستقيم هذا المجتمع، ويأمن المواطنون فيه من بطش خفافيش الظلام الذين يستترون خلف أقنعة الجبروت؛ فمطالعة الرواية – كما ذكرت آنفا – هو مطالعة للواقع ولكن عبر تقنية السرد الروائي الواقعي ” فامتلاك الراهن في الرواية هو تقديم الحركة الاجتماعية روائيا، فالرواية مجتمع مصغر أو مقطع من مجتمع، لكن كما للراهن الاجتماعي – أي الحالة الاجتماعية – جوهره ودلالته وسياقه في الحركة الاجتماعية العامة، فللرواية، وللراهن في الرواية دلالته وجوهره وسياقه في مفهوم الروائي ورؤيته ككل.
في رواية ” سيسامنيس” اتبع الروائي أحمد عبدالله إسماعيل تقنية التناقض في البنية السردية للرواية، ومن خلال آلية التناقض تلك يتجلى الحق والباطل خلف أقنعة السرد المتعددة التي اختلجت هذه الرواية، فــ ” سيسامنيس” هذا القاضي الذي سُلخ جلده حيّاً وكُسي كرسي العدالة بجلده مثل في الرواية عن طريق لوحة اشتراها ” ماجد زاهر أبو المجد” ووضعها في قصره لتكون رادعا له، ولكن مع مثول ” سيسامنيس” كشخصية لها حضورها الطاغي في الرواية بداية من العنوان حتى النهاية- لم يمنع حضوره تلك الجرائم التي يقوم بها ” ماجد زاهر أبو المجد” وهنا صورة واضحة للتناقض الذي اعتمد عليه الروائي أحمد عبدالله إسماعيل في روايته ” سيسامنيس” حيث في نفس الحيّز المكاني ” القصر” وهو مكان له دوره الفعال في الرواية – حيث يجمع هذا المكان بين التاريخ بحضور ومثول ” سيسامنيس” وتجليات الراهن عبر ما يفعله ” ماجد زاهر أبو المجد” يمثل التاريخ والواقع في حيّز مكاني واحد، وكلاهما : ” سيسامنيس” و ” ماجد زاهر أبو المجد” يمثلان التاريخ بماضويته والحاضر براهنه وسياقاته، وكأنّ واقعنا يمثل فيه ” سيسامنيس” جديد عن طريق الإسقاط التاريخي الذي اتبعه الكاتب أحمد عبدالله إسماعيل كتقنية من تقنيات الكتابة السردية.
تتسع دائرة التناقضات في رواية ” سيسامنيس” لتكون تلك التناقضات هي المرتكز الأساسي للرواية في بنائها السردي، فبين امرأة صالحة وأخرى طالحة ما بين العلاقات الشرعية المحترمة، والعلاقات الأخرى التي تنبني على الغواية الشهوانية تمثل المرأة هنا وتنشطر بين زوجة صالحة ينبني على أساس وجودها البيت الصالح، وبين امرأة تمثل الغواية الشيطانية التي تنهدم من أفعالها البيوت، فعملية الهدم والبناء يمثلها وجود المرأة في رواية ” سيسامنيس” بصورتين مختلفتين: البناء والهدم، ومن خلال فعلي الهدم والبناء يتجلى الصراع في هذه الرواية، وتتسع دائرة الهدم كلما تقدم ” ماجد زاهر أبو المجد” إلى الغواية التي تمثلها ” زينة الحلو” وتضيق دائرة الهدم وتتسع دائرة البناء كلما تقدم ” ماجد زاهر أبو المجد” خطوة تجاه زوجته ” سميرة” واعتمد الروائي أحمد عبدالله إسماعيل على ثنائية الهدم والبناء كصورة من صور التناقض- ليوضح الفرق بين العلاقات التي يحكمها الإطار الشرعي والعلاقات الأخرى التي يمهر عقدها الشيطان، وتظل المرأة في رواية ” سيسامنيس” هي الفاعلة الأولى في ثنائية البناء والهدم. كما اشتغلت ثنائية البناء والهدم على البيوت بوصفها مكانا مركزيا في هذه الرواية، وتوزعت الأحداث بين بيوت تبنى على التوبة والخلاص من الماضي بصورته السوداوية كبيت “جابر” وزوجته ” حورية” حيث أراد ” جابر” أن يتخلّص من ماضيه فلجأ إلى المسجد – بوصفه بيتا من بيوت الله- يحاول من خلال وجوده في البيت/ المسجد أن يعيد بناء حاضره من جديد على أساس التوبة، ثم يحاول ” جابر” أن يؤسس حياته التي يتغياها عن طريق حورية بوصفها زوجة ينبني على وجودها البيت، وبين بيوت أخرى تتهدّم كبيت ” ماجد زاهر أبو المجد” الذي لم يلتفت إلى تلك العلامات والإشارات التي تجلت له بداية من الرواية على لسان ” العرافة ” وتلك الإشارات الروحية التي تلقفتها روحه عند دخوله المسجد لأول مرة وهو يبحث عن سائقه السابق ” جابر” ولقاؤه بالشيخ ” إسماعيل عبدالهادي” هذا الأخير الذي كان مثالا واضحا لتلك البيوت التي تبنى على أساس من التقوى والورع والخوف من الله، كما أن ” ماجد” لم يلتفت إلى المضمرات التي تخللت كلام صهره ” عبدالرحمن”. ولم يكن بيت ” ماجد” في رواية ” سيسامنيس” هو البيت الوحيد الذي تهدّم بل تهدّمت حوله بيوت شتّى يرتكز وجودها على وجود وقيام بيت ” ماجد” فقد تهدم بيت ” سعيد عبدالمنعم” وهكذا بيت العمدة ” عباس مسعود” وبيت ” زينة الحلو” وبيت ” مصطفى الخائن” تلك البيوت التي كانت ترتكز في وجودها على السلطة المزعومة لــ ” ماجد زاهر أبو المجد” وبمجرد تهاوي تلك السلطة الزائفة تهدمت من حولها هذه البيوت، وظل بيت الله هو الملاذ الآمن لكل من يريد، وظل بيت الشيخ إسماعيل عبد الهادي” وبيت ” حورية” زوجة ” ” جابر” وبيت ” عمرو” توأم ماجد الذي تنبأت ” العرافة” بظهوره. إذن فكرة التناقض وتمثلاتها في عملية البناء والهدم تمثل محور الصراع بين الخير والشر بين الدولة وثلة المجرمين، بين بيوت أسست على التقوى وبيوت أسست على الغواية، بين امرأة صالحة وأخرى طالحة، وكأن الصراع في رواية ” سيسامنيس” هو صراع البشرية كلها، ومن خلال كلية وشمولية هذا الصراع تتخطى الرواية حدود الواقع الذي يعيشه الكاتب لتشمل بين جنباتها الواقع الإنساني بصورة عامة، فالحياة كلها قائمة على هذا الصراع.
تحاول رواية ” سيسامنيس” عن طريق التحليل النفسي للشخصيات أن تكتشف عوالم النفس البشرية من خلال تحليل ما تميل إليه شخصيات الرواية، فــ ” ماجد زاهر أبو المجد” الذي كان يميل بطبعه إلى مشاهدة أفلام الكرتون التي تحكي قصة ” الفأر والقطة” هذا الفأر الذكي الذي يحاول بمهارة عالية وذكاء حاد أن يهرب من مخالب القط، وتحليلي النفسي لمشاهدة الأفلام الكرتونية من هذا النوع، يخفي جانب الضعف والهوان في شخصية ” ماجد زاهر أبو المجد” فمع هروبه وتحايله على السلطة فهو في النهاية والبداية لا يتعدى كونه ” فأر” ولهذه المفردة تأويلات نفسية متعددة ولكن الجانب النفسي المهم الذي تريد القراءة النقدية تسليط الضوء عليه، هو جانب الخوف الذي كان يحاول ” ماجد” إخفاءه” عن نفسه وعن الناس، وتمثل مخالب القط ” الدولة بكياناتها المحترمة” وفي النهاية يسقط هذا الفأر الذكي في قبضة مخالب السلطة العليا، فكل من يتجاوز حدود القانون، ويعمل على إرباك المجتمع لا يتعدى كونه ” فأر” لا محالة يقع بين مخالب العدالة والسلطة الحقيقية، لتحفظ الدولة هيبتها وهيبة القانون الذي في ظله يعيش الجميع، كانت مشاهدة ” ماجد” لأفلام الكرتون مجرد مخدر أو أفيون يوهم به نفسه أنّه أذكى وأكثر دهاء ولن يقع بين مخالب القط ذات يوم، وكأن هذه الأفلام الكرتونية علاجا يداوي به جراح الخوف والقلق التي أدمت روحه ونفسه.
إن رواية ” سيسامنيس” للروائي أحمد عبدالله إسماعيل تدخل القارئ بحرفية فنية متناهية إلى أغوار الواقع، بل تصدمك حال القراءة – وبصورة عنيفه – بالواقع وتدخلك إلى دهاليز هذا الواقع وسراديبه المخيفة، ومع هذا العنف في الكتابة والتلقي على حد سواء تتراءى الرواية في صورة بناء سردي متعال تأبى الخضوع للواقع بتمثلاته الحقيقية مع الولوج الكلي في عالم الواقع المخيف، إذ تنتصف الرواية في كليتها إلى أيديولوجيا الراهن الروائي ليبقى جلال السرد محافظا على تأنق الرواية بوصفها جنسا أدبيا ينتمي في لغته ومضمونه إلى الكتابة الفنية، وإن كانت الرواية في مجملها تقوم مقام الواعظ المعالج الذي يحاول عن طريق الكتابة الروائية أن يظهر أمراض الواقع ولم ينس أن يصف لهذه الأمراض روشتة علاج نافعة.
المصادر والمراجع:
سيزا قاسم: بناء الرواية -دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ – الهيئة المصرية للكتاب، د.ط، 2004.
عبد الرحيم محمد عبدالرحيم: دراسات في الرواية العربية، نسخة إلكترونية بي دي إف.
عبدالملك مرتاض: في نظرية الرواية، الكويت، عالم المعرفة، ع 240، 1998.
محمد كامل الخطيب: الرواية والواقع، بيروت- لبنان، دار الحداثة، ط1، 1981.
محمود أمين العالم: الرواية العربية بين الواقع والأيديولوجية، سورية، دار الحوار، ط1، 1986.