أمد/
يا صديقي الباقي!
لقد شهدنا لعبةَ المجزرة، ولمسنا التعاقدَ المسعورَ بين ولاياتِ الموت وكيانِ المذابح، وكان الحقُّ مزحةً وحشيّة ، ولم نحظَ بعُزلةٍ مجيدةٍ تُضيءُ زراعتَنا الروحيّة ، لأنّ الهواءَ الملغومَ فخّخته قوىً دموية وفاحشة.
وحُرِمنا من الفرح، الذي يرتفع مثل السهام، فكانت بهجتُنا تسقطُ في عقولِ الجثث .. لكنَّ قلوبَنا لم تشعر بالملل .. لأنها تغذّت على النار! فَقُمنا بتخصيبِ مشهَدِنا بِجَمالٍ مُقاوِمٍ جديد ، ليبدأ عهدُ الضوءِ السماويّ ..
وهيّأنا لصغارِنا نومَهم النقيَّ ، وأحَطْناهم بالأغاني المُشرقة ، وكان لا بدّ لهذه المظلمةَ إلا أن تنتهيَ مثلَ الدخان.
ومَن لا يريد أن يرتعش عليه أن يخطو.
كان المطرُ عرقَنا ، ودمُنا هو القوة ، وألقينا أيدينا من السماءِ إلى الجحيم ، وحاربنا سَحرةَ النومِ ، والفنَّ المُضادَ ، وقلوبَ الموتى، ووقفنا أمامَ الذين يُؤدّون الحِيَلَ ويستمرؤن الشبهَة ، وأولئك الذين يتمتعون بجوّدةِ القسوة .
كانت أفكارُنا تهربُ من وراءِ القضبان ، وقلوبُنا ساخنةً مثل غيمةٍ ملتهبة ، وتجاوزنا مرايا الغموض ، التي لا يتألّق فيها أحد ، وتجاوزنا الهاويةَ الداكنة.
لم نكن نريدُ أن نسحبَ أحداً إلى نهرِنا، غير أنَّنا كنّا في حربٍ مع التاريخِ ، ومع جميع السلطاتِ التي تُقيمُ في أشكالٍ فاشيّةٍ ومخيفة، ومع ما يُقيّدُنا مع مخاوفِنا الخبيثة .. وأردنا لصورتِنا أن تكونَ ضدَ السماء الساكنة ، لأن هدفَنا الأغلى والأعلى ، كان وما زال ،هو قوّةُ الحقيقية ، مثلما أردنا أن ننامَ ، فقط ، لنُسَلِّمَ أنفسَنا للحالمين .. كما رغبنا أن نلتقي غزالةً نعصرُ خصرَها مثل الأكورديون .. تحت زيتونةٍ تتربّعُ على عَرْشِها الأبديّ .
باختصار ؛ كانت لدينا قصتُنا القاسيةَ الرائعة ، ويكفي أننا انتصرنا على مَن كان ينظر إلينا كأنه ينظرُ إلى خطيئته.. ذاك أنّ عينيه مليئتان بالسُّمِ والهجران، واستطعنا أن نتخلّص من النهايةِ الخائبةِ بعسلِ التَجذُّرِ والرِباطِ الشريف ، وأن نُعلي صورتَنا النجميّةَ في كرنفالِ الانتفاضةِ الصوفيّة الفذّة ، التي استطاعت أن تجمع البدرَ ليكتمل ويصلحَ للطقوسِ الأخيرة .. لكنهم اعترضوا الأغنيةَ التي صدحت في قلوبنا، وأرادوا من التاريخ أن يسجّل أسماءَهم على صفحاتٍ لم يمهورها بوقودِ أولادِهم أو بخيالِهم غيرِ المتوازن ، لهذا كلِّه كانت هذه الدادائية .
لم يأتِ أحدٌ ليجدَ أرضنا صِفراً، بل لديها إرثٌ باذخٌ ، لم يتخثّر نُعمانُه ، كصحنِ الجَمْر وبراعمِ الدمِ وسخونةِ البرق .. لم نكن قطيعاً أو هائمين على السّراب ، بل كانت لدينا حضارة تتجلّى فيها النجوم ويتصادى فيها الإبداع الخلّاق الشامل ، فكان الساحل منارة للأُمم ، مثلما كانت جبالنا أعراساً للطيور .
وأنت يا سميح من ساهمَ في تأصيلِ الغضب ، ليصبحَ سبيكةً قادرةً على المواجهةِ ، وحفظِ الذاكرة في المدارِك ، وطردِ المجانية واللاشيء.
وكان أنْ شربوا من ينابيع أخرى غير التي انفلقت من الحجارة ، فأصبحوا منكفئين ووثنيين وخارجين ومتعثّرين في الظلام . وظلّوا حفنةً منعوفةً في الأمصار ، لم يجدوا السعادة ولم ينصهروا في السوق الكبيرة ، ولم يتماهوا في أعراس الأمم المبهجة ، بل ظلّوا في تيههم ، يعيدون إنتاج السواطير والقيود على غيرهم من الضحايا ، وما زالت عبوات الدم مرصوفةً في مطابخهم ، يشربون منها صباح مساء ! من فيلون الغنوصيّ ، وصولاً إلى سرمد المدافع عن الشيطان ، وحتى آخر قاتلٍ مهووس .
ولعلي أستنيم لقول البسطاميّ فيهم : ما هؤلاء؟ هَبْهم لي ، أيُّ شئٍ هؤلاء حتى تعذّبهم ؟ إنهم واقفون في الماء عطاشى .
وإنهم لعنة التاريخ ومصاصو دماء الأرض ، والمرابون مثل نارٍ نهمة .
***
و..كلُّ الشعوب التي هتكوها أراها تُغنّي على شفتيكْ!
ونارُ الحريق المخيف المُدوّي يحاول ماءً جرى في يديكْ..
بسيطاً تجيءُ مع البسطاء ونعلُ التشاوُفِ في قدميكْ.
وتبكي كطفلٍ أضاعَ الجهاتِ إذا نَهْنَه الطفلُ في مسمعيكْ.
ونجلسُ في حضرة الليل جَمْعاً فتحنو الأبوّةُ في راحتيكْ.
وتحكي فتمطر غاباتُ حيفا دماً يستفيقُ على وجنتيكْ.
وتضحك فيكَ رعودُ الربيع فيصحو الصباحُ.. ويأتي إليك.
***
وليَفْرُموا برتقالي الحزينَ بسكِّينةِ المذبحِ الفاجِرة
وأن يخلعوا الأرضَ من جذرها ويلقوا بيافا إلى الهاجرة..
ولكنَّهم خسروا ما أرادوا وظلَّت لنا القدسُ والناصرة
وغزةُ تصعدُ حدَّ البلوغِ إلى كشْفِ سِدْرَتِها الساحرة!
وما احتشد القلبُ يوماً وناءَ وثارت مراجِلهُ الساخرة
إلى أن رأيتُ الخرابَ العميمَ بغزّةَ والشامِ والساهرة
ويكفيك أنّكَ لم تتحوَل ولم تتبدّل.. وأبقيتَ في بيتك الرّاحلة..
وما قتلوكَ وما صلبوكَ وتبقى المواليد والقابلة..