أمد/ في الجامعات الامريكية اعلن الطلبة يوم اجتياح رفح :”يوم الغضب من اجل رفح”.. فيما عواصم العرب وقلاعهم تنتظر نعي رفح بالم وقهر وبعجز منقطع النظير.. فلطالما استهلكتنا الحيرة والشك بما تناهي الى علمنا بما كان عليه العرب من هوان وذل في مواجهة اجتياح التتار لقلاعنا وعواصمنا؟ يومها لم يسلم من باع مفاتيح بغداد ولم ينج الاذلاء الذين تخلو عن واجب النصرة والمقاومة، فلقد احرق التتار عليهم بيوتهم ومكتباتهم وجثامينهم.. فهل اصاب العرب اليوم ما اصابهم يوم التتار الفظيع وهل هي نبوءة الرسول فيهم انهم غثاء كغثاء السيل.. هل هذا ما يعنيه اقتحام رفح؟ يبدو المشهد هكذا للكثيرين ولكنها لحظة فاصلة تستجمع اليقين كله في شعب فلسطين واحرار الامة والانسانية لتوجه الضربة الحاسمة للنظام الدولي الظالم.
من الصعب أن ينسحب أحدنا من همومه الخاصة والعامة ليحرك عقله ببرود وهدوء فيرى المشهد كله كما هو، ولكن الأمر يحتاج حقا أن نمسح الدموع ونطامن الروع ونتدبر الوقائع كلها هنا وهناك وهنالك فنرى ما ينبغي ان نراه لكي نكون الصورة المتكاملة، ونبدأ القراءة والرؤية مع تلك التلة المؤمنة المرابطة التي تسكن باطن الارض ولا تخرج الا لعمليات نوعية توقع الهلع والهزيمة في جنود العدو، نبدا الرؤية مع هؤلاء الشباب الممتلئين ايمانا بنصر الله وهم ينصبون الكمائن وينقضون على اليات العدو تفجيرا واحراقا، نبدأه مع ذلك القناص الذي يخرج من تحت الانقاض يتصيد فريسته المتوحشة والدبابات الاسطورة فيرديها رمادا وتفحما.. ومع ذلك وقبله نتأمل شعب يرابط ويصمد ويواجه الموت متيقنا بأنه في معية الله ومتيقنا بنصره وان ما يقوم به انما هو فداء لفلسطين وللمقاومة وانه لن يرحل من بيوته، فهل يمكن تخيل أن يبقى أكثر من نصف سكان شمال غزة في بيوتهم تحت القصف المستمر والموت المحقق رافضين المغادرة ليواجهوا فيما بعد حرب التجويع التي طالت ابناءهم ومرضاهم ولم يتغير منهم الموقف..
ثم هل يمكن المرور على جهاد الشعب اليمني الفقير المظلوم وهو يلاحق المدمرات الغربية ويمنع اي سفينة تتجه الى موانيء فلسطين المحتلة؟ هل يمكن المرور عن هذا العطاء والكفاح منقطع النظير مرورا دون تدبر وتأمل؟ هل استطعنا احصاء ما يلحق بالعدو وحلفائه من خسائر معنوية ومادية؟ هل استطعنا ان نستشعر قيمة الفعل اليومي ببيانات رسمية تعلن الحرب على اعداء فلسطين وحلفائهم، ثم هل يمكن أن ندرك قيمة هذه الروح الحرة والقرار السيد الذي امتلكه اهل اليمن في الاعلان عن اصطفافهم بجانب أهل فلسطين وغزة؟ ان ما يقوم به اليمنيون بمثابة صنع القدوة لشباب العرب اينما كانوا وان الزمن لن يطول كثيرا حتى يجد أفواج من الشباب العربي سبيله للمشاركة في هذه الملحمة الوجودية والحضارية.. وما يقال عن اليمن ينسحب على المقاومة اللبنانية التي تواصل استنزاف العدو ومشاغلته منذ 8 أكتوبر الماضي تقدم الشهداء والضحايا دون كلل وتضرب في العدو مفاصله الامنية والاستراتيجية وترغم نصف مليون مستوطن على الرحيل من شمال فلسطين..
ومجددا لا يمكن النظر الى ما يحصل في أمريكا وأوروبا على أنه عمل موسمي مرتبط فقط بيوميات المجزرة في غزة.. ان استمرار العدوان المزود بالاسلحة الامريكية الفتاكة باهضة الثمن حرك الشارع الامريكي لاسيما نخبة الطلبة في أكثر من 50 جامعة وكلية لالتقاط بداية الخيط وفهم المعادلة الكبيرة التي تقف وراء العملية الشريرة غير المفهومة على صعيد القيم والمباديء.. هنا تم اكتشاف أعداء الانسانية الحقيقيين هؤلاء الذين يتلذذون بالمجازر لصنف من البشر وينهبون الجزء الاخر مواصلين مهنة الاستغلال والجشع التي تركزت في النظام الدولي ومسيريه العالميين الذين يقفون خلف النظام الدولي المعلن والذي يسير في نهاياته المنطقية.. هنا المعركة الكبرى التي سيكون من نتائجها تغيير خرائط وأوضاع قد بشر بها كبار الفلاسفة الغربيية والامريكان بأن الامبراطورية الامريكية والغربية الى زوال.. هنا يجب الانتباه ان عصابة المال الكبرى في العالم تفقد ثقتها شيئا فشيئا في النظام الدولي المعلن حيث انقلبت كثير من مؤسساته على نفسها واصبحت تغرد خارج سربه كما هو حال جمعية الامم المتحدة ومنظمة العدل الدولية واليونسكو وسواها من المنظمات الدولية، ولعلنا لا ننسى أن كل هذه المؤسسات تم تشيكلها بعد الحروب العالمية التي حقق الغرب بزعامة امريكا نصره فيها فتم على ضوء ذلك خطوات حاسمة لتشكيل النظام الدولي بمؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية لاحكام السيطرة على العالم وترتيب عملية نهبه.. ورغم كل محاولات التأقلم مع التغيرات المتطورة في تلك المؤسسات الا ان الانهيار الذي بدأ منذ عشرات السنين يتعمق الان ويندفع بقوة.. فمن مجلس الامن الذي فقدت الدول الامبريالية الى حد كبير السيطرة عليه الى المؤسسات الاخرى التي فلتت من سطوة العصابة.. ويمكن ملاحظة ان الانهيار لا يقف عند هذا الحد بل انه يزحف بقوة نحو صندوق النقد الدولي- احدى اهم مؤسسات الهيمنة الامبريالية- وان سعي مجموعة كبيرة من دول العالم لخلق أفق اقتصادي مختلف لا يحتكم لصندوق النقد الدولي ولا يعتمد الدولار مرجعا لعملياته الاقتصادية انما هو ايذان حقيقي بانهيار العصابة المالية في امريكا كما يجب عدم اغفال تطور الاقتصاد الصيني وتمدد قوة روسيا وعجز الغرب كله من التصدي لها في اوكرانيا.. كل ذلك يعني ان الضربات المتتالية التي ويجهها الطلبة الامريكان ومعهم سياسيون ومثقفون احرار في امريكا تجد تجاوبا متصاعدا في تفسيخ هيمنة العصابة على الدولة الامريكية المحكومة من قبل تلك العصابة.. صحيح أننا نحتاج لمعركة قاسية وطويلة لكي يصحو الضمير الانساني والاحساس بالمصلحة الحقيقية للشعوب في التصدي لعصابة المال المهيمنة على العالم لكن ليس هناك بديل عن هذا الطريق الدامي المؤلم.
وهنا ينبغي الاشارة بوضوح الى أن الموقف الرسمي الامريكي الهزيل يعمق الاحساس بفشل النظام الدولي في اقناع العالم بجدواه فلقد كان عجز الادارة الامريكية في التعامل مع الجنون الصهيوني والتوحش والجرائم المشاهدة انما هو اساءة جديدة للنظام الدولي وضربة في الصميم، فلقد كان الخطاب الامريكي المنافق والمرتبك والمتناقض سببا في تغول العصابات الصهيونية وكذلك سببا من جهة اخرى بكشف طبيعة النظام الدولي وبتوجيه ضربات متلاحقة لصميمه في امريكا حيث لن تتوقف التظاهرات الطلابية والاحتجاجات الشبابية داخل الاحزاب وخارجها ذلك اذا توقف عملية الابادة الصهيونية لغزة.. فان الضرر العميق الذي يلحق بالمجتمع الامريكي جراء هيمنة عصابة المال يبلغ مداه فمن الواضح ان الادارات الامريكية المتلاحقة انما هو اداة تلك العصابة في تحريك الحروب والاشتباكات وصناعة الموالين والعملاء وذلك كله بانفاق مباشر من قبل الدولة الامريكية يؤخذ من جيوب المواطنين الامريكان.. فلكم ان تتخيلوا ان مجمع الصناعات الحربي قد باع بما يعادل 2.3 تريليون دولار خلال سنة واحدة.. ان تلك العصابة لا تجد سبيلا لنماء ثرواتها الا بمزيد من الحروب المعقدة التي تستهلك طاقة الشعوب فلقد بلغت ديون دولة الولايات المتحدة 30 تريليون دولار وهذا يعني بوضوح ان البشرية كلها تقع في دائرة العبث المالي الجنوني.
لم تعد قضية فلسطين قضية وطنية فقط بل هي قضية بكل ابعادها الانسانية تفرض وقائع في شتى انحاء العالم وان تصويت الامم المتحدة الاخير لصالح دولة فلسطين يحبط المخطط الصهيوامريكي القاضي بشطب فلسطين ويفرض حالة تعاطي سياسية مختلفة عما سبق، فالان دولة فلسطين معترف بها من غالبية دول العالم بقرار أممي لم يتخلف عنه الا الكيان الصهيوني والادارة الامريكية وحلفائها الامر الذي يكشف من جهة اخرى زيف الموقف الامريكي من مسألة حل الدولتين.. الان كما هو واضح تقف المؤسسات الدولية جميعها مع الحق الفلسطيني وتصدر قرارات واضحة وقوية وتواصل حملتها المنظمة نصرة لفلسطين وادانة للجرائم الصهيونية ولعلنا نشير بوضوح الى مسألة الانروا المنشغلة باللاجئين الفلسطينيين حيث انتصر الفلسطينيين بتثبيت المنظمة الدولية لاغاثة اللاجئين الفلسطينيين على اعتبار انها الشاهد القوى على نكبة الشعب الفلسطيني في 1948 وتهجيره من بلداته وبيوته.. وهكذا يمكن وضع النشاط الاممي في المنظمات المتعددة في سياق واحد نصرة لفلسطين وشعبها.
هكذا اذن يبدو المشهد كما لم يتوقعه مؤسسو الكيان الصهيوني ولم تتوقعه الادارات الغربية يوما بل وصناع القرار الدولي.. فلقد ارادوا من الكيان ان يتربع على قمة الانتصار والتأييد العالمي الشعبي والرسمي فلقد بذلوا من أجل ذلك اموالا ومعدات وابرموا اتفاقيات وصنعوا رؤساء وملوكا واحزابا ونخب ومناهج تعليم واعلاما.. ولكن ذلك كله يذهب هباء في لهيب المجزرة المرتكبة في غزة..
المقتلة قاسية ومؤلمة وعميقة.. يكفي ان نعرف ان الملايين الثلاثة في غزة لا تعرف مستقرا فهي تتنقل من بيت الى اخر من موقع الى اخر تحت الخيام المهددة بكل انواع الفتك القصف والجوع والخوف.. ولكن لعل الله سبحانه ينظر الى اهل فلسطين عامة واهل غزة خاصة فيؤتيهم فرجا قريبا ويجعل دماءهم الزكية الطاهرة دربا لاسقاط النظام الدولي ليجر معه الكيان الغاصب والخونة والعملاء وعبيد الغرب.. والله غالب على أمره.