أمد/
التطهير العرقيّ (Ethnic Cleansing) مصطلح يُطلق على عمليّة الطرد والإخلاء التي تقوم بها مجموعة عرقيّة معيّنة بحقّ سكّان غير مرغوب فيهم يسكنون هذه المنطقة، وذلك على خلفيّة تمييز دينيّ، عرقيّ، سياسيّ أو استراتيجيّ أو لاعتبارات أيديولوجيّة، بهدف خلق حيّز جغرافيّ متجانس عرقيًّا، حيث يتمّ ذلك باستخدام القوّة أو القتل أو الإبادة أو التهجير، وترافقها مجازر تُرتَكب ضدّ الأقلّيّة المستهدفة، وقد درج تناول هذا المصطلح بعد عام 1990 خلال عمليّات التطهير العرقيّ في يوغوسلافيا ومذابح رواندا.
قرأنا كتاب “التطهير العرقيّ في فلسطين” للمؤرّخ الإسرائيليّ إيلان بابه، والذي صدر بالإنجليزيّة عام 2006، ثمّ تُرجم إلى العربيّة عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة (تأسّست المؤسّسة عام 1963، غايتها البحث العلميّ حول مختلف جوانب القضيّة الفلسطينيّة والصراع العربيّ-الصهيونيّ. وليس للمؤسّسة أيّ ارتباط حكوميّ أو تنظيميّ، وهي هيئة لا تتوخّى الربح التجاريّ). يحتوي الكتاب على 374 صفحة، صورة الغلاف هي صورة لعائلة منكوبَة مشرّدة أثناء النكبة.
إيلان بابه مؤرّخ إسرائيليّ ومحاضر في العلوم السياسيّة، ألّف عدّة كتب، منها: “تاريخ فلسطين الحديثة”، “الشرق الأوسط الجديد”، “قضيّة إسرائيل/ فلسطين”. أمّا آخر كتبه فكان “10 أساطير حول إسرائيل” الصادر عام 2017.
يقول في مقدّمة الكتاب إنّه كتبه وقبل كلّ شيء من أجل الفلسطينيّين، ضحايا التطهير العرقيّ عام 1948، وإنّ معاناة الفلسطينيّين ترافقه منذ النكبة، وبعد عودتهم فقط سيشعر بأنّ هذا الفصل من النكبة قد بلغ نهايته. كما يرى أنّ من أهمّ الأعمال التي صدرت في هذا المجال هو كتاب “كي لا ننسى” للدكتور وليد الخالدي. ثمّ يسلّط الضوء على المجازر وعمليّات التهجير التي ارتُكِبت بحقّ الفلسطينيّين عام 1948، حيث تمّ تدمير 531 قرية وطرد 800 ألف فلسطينيّ. ويصل إلى النتيجة الحتميّة التي تقول: إنّ ما حصل هو تطهير عرقيّ، وليس مجرّد حرب، كما يسمّيها الإسرائيليّون، محاولًا ذكر جميع السياسيّين والجنرالات الذين أمروا أو أشرفوا على عمليّات التطهير العرقيّ بحقّ الفلسطينيّين، ليس من أجل محاكمتهم بعد موتهم، وإنّما لتأكيد استحضار مرتكبي الجرائم بصفتهم بشرًا، وذلك كي يدحض أقوال المؤرّخين بأنّ ما حصل هو نتيجة ظروف سياسيّة وتاريخيّة حتّمت وقوع الحرب، وكشف الحقيقة عمّا حصل دون مواربة، فيقول:
“إنّها القصّة البسيطة والمرعبة لتطهير فلسطين من سكّانها الأصليّين، وهي جريمة ضدّ الإنسانيّة أرادت إسرائيل إنكارها وجعل العالم ينساها. إنّ استردادها من النسيان واجب علينا، ليس فقط من أجل كتابة تاريخ صحيح كان يجب أن يُكتب منذ فترة طويلة، أو بدافع مهنيّ. إنّ ذلك، كما أراه، قرار أخلاقيّ، وخاصّة الخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها إذا أردنا أن نعطي المصالحة فرصة، وأن نتيح للسلام أن يحلّ ويتجذّر في فلسطين وإسرائيل”.
يبدأ الحديث عن “البيت الأحمر” في تل أبيب، وهو المقرّ الرئيسيّ لمجلس العمّال، حيث وضعت مجموعة مكوّنة من أحد عشر رجلًا-من قادة صهاينة قدامى وضبّاط عسكريّين– اللمسات الأخيرة على خطّة التطهير العرقيّ عصر يوم 10 آذار 1948. في مساء ذلك اليوم أُرسلت الأوامر إلى الوحدات بالاستعداد للقيام بطرد منهجيّ للفلسطينيّين من مناطق واسعة من البلاد وأُرفقت الأوامر بوصف مفصّل للأساليب التي من الممكن استخدامها: إثارة رعب واسع النطاق، ومحاصرة وقصف القرى والمراكز السكنيّة، وحرق المنازل والأملاك والبضائع، وزرع ألغام وسط الأنقاض لمنع السكّان من العودة لمنازلهم. كما تمّ تزويد كلّ وحدة بقائمة تتضمّن أسماء القرى والأحياء المحدّدة كأهداف لهذه الخطّة الكبرى المرسومة.
كان الاسم الرمزيّ للخطّة “دالت” (حرف “دال” بالعبريّة)؛ خطّة جرى التحضير لها منذ سنين عديدة. استغرق تنفيذ الخطّة ستّة شهور تمّ فيها اقتلاع 250,000 فلسطينيّ من منازلهم، رافق ذلك مجازر عديدة، أبرزها مجزرة دير ياسين. ثمّ يتناول تسلسل الأحداث الرئيسيّة بين شباط 1947 وأيّار 1948؛ ففي شباط 1948 اتّخذت الحكومة البريطانيّة قرارًا بالانسحاب من فلسطين الانتدابيّة، وتركها للأمم المتّحدة كي تجد حلًّا لمسألة مستقبلها. لقد بدأ التطهير العرقيّ في فلسطين أوائل كانون الأوّل 1947 بسلسلة من الهجمات اليهوديّة على قرى عربيّة وأحياء في المدن، ردًّا على أعمال تخريب لحافلات ركّاب ومراكز تجاريّة رافقت الاحتجاجات الفلسطينيّة على قرار الأمم المتّحدة خلال الأيّام القليلة الأولى لتبنّيه. كما تمّ تلويث مياه الشرب في القناة التي تنقل المياه إلى عكّا بجرثومة “التيفوئيد”، إلّا أنّ المصريّين نجحوا في إحباط محاولة مماثلة لتسميم مصادر مياه غزّة، وألقي القبض على يهوديّين في أيّار 1948: دافيد حورن ودافيد مزراحي وهما يحاولان تلويث آبار المياه بجراثيم “التيفوئيد” و”الديزنطاريا”، لتقوم السلطات المصريّة بإعدامهما، حيث أخطر الجنرال يادين بن غوريون بذلك.
كشف الكاتب عن العديد من أحداث الإرهاب وجرائم القتل التي ارتكبها الجنود اليهود في العديد من المدن والقرى العربيّة، مثل قريتي دير أيّوب وبيت عفّا القريبتين من مدينة الرملة، وقرية الخصّاص في الجليل الأعلى الشرقيّ، والأحياء العربيّة لمدينة حيفا، وقرية بلد الشيخ وغيرها. تطرّق أيضًا إلى دخول القوّات اليهوديّة إلى دير ياسين الواقعة غربي القدس في 9 نيسان 1948، فقتلوا العشرات من سكّانها، ومن ثمّ جمعوا بقيّة القرويّين في مكان واحد وقتلوهم بدم بارد، في حين اغتُصب عدد من النساء ثمّ قُتِلن. كما قاموا بعدها بمهاجمة المدن الفلسطينيّة المختلفة وشرّدوا قسمًا كبيرًا من سكّانها وقتلوا أعدادًا كبيرة، فكانت طبريّا أولى المدن التي تمّ تفريغ سكّانها العرب بعد مجزرة دير ياسين. بعد ذلك جاء دور حيفا، صفد، عكّا، بيسان ويافا. وعليه، فإنّه بين 30 آذار و15 أيّار احتُلّت 200 قرية وطُرد سكّانها منها. هذه الحقيقة تفنّد الخرافة الإسرائيليّة بأنّ السكّان هربوا عندما بدأ الغزو العربيّ.
كانت الطنطورة إحدى أكبر القرى الساحليّة، سكنها في حينه قرابة 1,500 نسمة، اعتمدوا في معيشتهم على الزراعة وصيد الأسماك. في 22 أيّار عام 1948 هوجمت القرية ليلًا، أُجبر السكّان تحت تهديد السلاح على التجمّع على الشاطئ، لتطرد النساء والأطفال إلى قرية الفريديس المجاورة، في حين يقتل العديد من الرجال. واستنادًا إلى رواية أحد الناجين فإنّه تمّ قتل 110 رجال بدم بارد، ناهيك عن الإذلال والضرب المُبرّح قبل الإعدام. ثمّ كشف عن عمليات التطهير التي جرت بين شهري حزيران وأيلول من عام 1948، فيذكر العديد من القرى في لواء غزّة، والتي أبيدت عن بِكرة أبيها بعد قتل وتشريد سكّانها. هذا
إضافة إلى الاستيلاء على قسم كبير من قرى الجليل وطرد سكّانها منها، وقتل أعداد كبيرة من المواطنين العُزّل. كما يتحدّث عن عمليّة القتل والطرد التي حصلت في منطقة السهل الساحليّ، جنوب حيفا تحديدًا، خاصّة في قرية طيرة الكرمل التي سكنها 5,000 مواطن قبل اجتياح القوّات اليهوديّة، والتي كانت تُسمّى أيضًا “طيرة اللوز” لكثرة أشجار اللوز فيها، وقريتي كفر لام وعين حوض. ثمّ يكشف عمّا وقع في قرية سعسع في شباط 1948، نجم عنها مقتل خمسة عشر قرويًّا، بينهم خمسة أطفال، ثمّ مجزرة الدوايمة، وربما تكون هي الأسوأ من بين المجازر التي وقعت خلال عمليّات التطهير العرقيّ، فبعد انتهاء المجزرة تمّ إحصاء 455 شخصًا كانوا مفقودين، بينهم نحو 170 طفلًا وامرأة.
يشير الكاتب إلى قرار التقسيم للأمم المتّحدة رقم (181)، إذ يراه كارثة حقيقيّة بالنسبة للفلسطينّيين لأنّه لا يحمي حقوقهم، فإنّ التطهير العرقيّ الذي حصل في فلسطين هو جريمة إنسانيّة، ومرتكبوها معروفون للجميع، وفي مقدّمتهم دافيد بن غوريون، المهندس الرئيس للعمليّة، ومجموعة من مستشاريه، حيث نوقشت في بيته الخاصّ وحُبكت نهائيًّا الفصول الأولى والأخيرة في قصّة التطهير العرقيّ. يستعرض الكاتب أسماء القادة الذين ساهموا في عمليّة التطهير ضدّ الشعب الفلسطينيّ: يغئال يادين، موشيه دايان، يغئال ألون، يتسحاق ساديه، موشيه كالمان، موشيه كرمل، يتسحاق رابين وغيرهم، مؤكّدًا أنّ المسألة لم تكن طارئة، أو وليدة الأحداث التي جرت عام 1948، وإنّما هي فكرة مبيّتة نشأت وتبلورت منذ إقامة الحركة الصهيونيّة، فما حصل هو تطهير عرقيّ بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى لأنّ الحديث هو عن طرد نصف سكّان فلسطين إلى خارج وطنهم، وتدمير نصف قراهم ومدنهم، رغم محاولات التهميش لما حدث، أو حتّى الإنكار الكلّيّ للموضوع… فالنكبة مستمرّة.
لذا لم يتوان الكاتب عن الكشف عن استمرار المضايقات، وانتهاج السياسة العنصريّة ضدّ المواطنين العرب الذين بقوا في وطنهم بعد انتهاء أعمال التطهير العرقيّ. إذ يقول إنّه بعد تطهير فلسطين عرقيًّا أمضى نحو 8,000 شخص سنة 1949 في المعتقلات، وعانى آخرون جرّاء الاعتداء عليهم؛ مضايقتهم، نهب بيوتهم، مصادرة حقولهم وأراضيهم، تدنيس أماكنهم المقدّسة، وغيرها من الممارسات في إطار المساواة أمام القانون. كما يكشف عن محاولات السلطة لمحو المعالم الفلسطينيّة من خلال طمس معالم القرى المهدّمة، إنشاء مبانٍ حديثة على أنقاضها، حدائق عامّة، وتحريش الجبال حتّى تغطّي ما تبقّى من أطلال القرى المهجّرة. ثمّ معاناة العرب من نظام الحكم العسكريّ الذي ضيّق الخناق على تنقّلات العرب وتحرّكاتهم، وفرض الإقامة الجبريّة على العديد من الناس، وإخضاع أماكن عديدة لحظر التجوّل، وغيرها من المضايقات والمعاملات العنصريّة.
يقدّم الكاتب معلومات تاريخيّة عن تبلور الفكر الصهيونيّ ويستعرض المراحل التي مرّت بها الحركة الصهيونيّة في فلسطين. ففي بدايات القرن العشرين وحتّى احتلال بريطانيا لفلسطين عام 1918، كانت الحركة الصهيونيّة مزيجًا من أيديولوجيّات قوميّة وممارسات استعماريّة، وكان حجمها محدودًا، إذ لم يتجاوز عدد اليهود الخمسة في المئة في ذلك الوقت، وكانوا يعيشون في مستعمرات (يرى الكاتب الأمر كاستعمار استيطانيّ) دون أن يؤثّروا في السكّان المحليّين، لكنّ إمكانيّة استيلاء اليهود على البلد في المستقبل وطرد السكّان الفلسطينّيين الأصليّين منه كانت واضحة لدى بعض الزعماء الفلسطينيّين حتّى قبل الحرب العالميّة الأولى، بينما أبدى الزعماء الآخرون اهتمامًا أقلّ بالحركة. لقد كان تصريح بلفور -الذي منحت بريطانيا بموجبه الحقّ لليهود سنة 1917 في إقامة وطن قوميّ لهم في فلسطين-بمثابة قرار صدر عمّن لا يملُك لمَن لا يستحقّ، وفتح الباب لنزاع مستديم سرعان ما سيجتاح البلد وسكّانه. كما يكشف عن إنشاء “الهاغاناة” (أي الدفاع) عام 1920، والتي سُمّيَت بهذا الاسم للتمويه، وكأنّ هدفها الأساسيّ هو الدفاع عن المستعمرات اليهوديّة، لكنّها تحوّلت بسرعة إلى ذراع عسكريّة للوكالة اليهوديّة، وللهيئة الصهيونيّة المسيطرة في فلسطين، والتي رسمت وخطّطت للاستيلاء بقوّة السلاح على فلسطين بكاملها، حيث نجح زعماء الحركة الصهيونيّة حتّى أواخر ثلاثينيّات القرن الماضي في جمع معلومات وافرة حول القرى الفلسطينيّة: مواقعها، طرق الوصول إليها، مصادر المياه والدخل، تركيبتها الاجتماعيّة وغيره. إنّ هذه المعرفة الدقيقة والتفصيليّة بما كان يجري في كلّ قرية فلسطينيّة على حِدة هي التي مكّنت القيادة العسكريّة الصهيونيّة في عام 1948 من الاستنتاج بأنّ الفلسطينّيين لم يكونوا منظّمين بالشكل الصحيح.
اعتاد الفلسطينيّون وصف ما حلّ بهم بـ “النكبة”، إلّا أنّ الكاتب يرى بهذه الكلمة “تعبيرًا مراوغًا”، لأنّها-برأيه-تتحدّث عن الكارثة التي حلّت بهم أكثر ممّا تشير إلى الحديث عن مسؤوليّة مَن أوقعها ولماذا فعل ذلك. لقد جرى تبنّي مصطلح النكبة لأسباب مفهومة-حسب قوله-كمحاولة لمواجهة الثقل المعنويّ “للهولوكوست اليهوديّة”، لكنّ تجاهُل من أوقعها قد يكون ساهم إلى حدٍّ ما في استمرار العالم بإنكار حقيقة أنّ ما جرى في فلسطين عام 1948 وبعد ذلك كان تطهيرًا عرقيًّا. كما أنّ إسرائيل سعت إلى جعل العالم ينسى هذه الجريمة، ولذا يعدّ استردادها من النسيان واجبًا علينا من الناحية الأخلاقيّة؛ فإنّ ما جرى من تطهير عرقيّ هو جريمة ضدّ الإنسانيّة، تمامًا كما فعل النازيّون إبّان الحرب العالميّة الثانية، أو كما فعل الصرب بالمسلمين البوسنييّن في أوائل التسعينيّات من القرن العشرين، ثمّ مؤكّدًا أنّ هذه الجريمة تمّ محوها كلّيًّا من الذاكرة العالميّة بالرغم من أنّها الحدث الأهمّ في تاريخ فلسطين الحديث، إذ أُنكرت بصورة منهجيّة منذ وقوعها، ولا تزال حتّى اليوم غير معترف بها كحقيقة تاريخيّة، ناهيك عن عدم الاعتراف بها كجريمة يجب مواجهتها سياسيًّا وأخلاقيًّا. لقد تحدّثت الرواية الإسرائيليّة/ الصهيونيّة عن أنّ أهل البلاد غادروها طوعًا، ولكنّ حقيقة الأمر أنّ أكثر من ربع مليون عربيّ طردوا بالقوّة قبل أشهر من وصول قوّات عربيّة إلى فلسطين إثر الأعمال الوحشيّة والمجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونيّة.
يقول إيلان بابه: “في بلدي يقولون إن الأجانب لا يفهمون ولا يستطيعون أن يفهموا هذه الحكاية المعقّدة، وبالتالي لا حاجة لنا بشرحها لهم، ويجب ألّا نسمح لهم بالتدخّل في محاولات حلّ النزاع إلّا إذا قبلوا وجهة النظر الفلسطينيّة. فأقصى ما يسمح للعالم فعله هو أن يسمح للإسرائيليّين بصفتهم ممثّلين للطرف “المتحضّر” و”العقلانيّ” في النزاع بإيجاد حلّ عادل لأنفسنا وللطرف الآخر “غير المتحضّر” و”الانفعاليّ”. ومنذ أن أيّدت الولايات المتّحدة هذه المقاربة المشوّهة حصلنا على عمليّة سلام لم تؤدِّ إلى أيّة نتيجة لأنّها تتجاهل لُبّ المشكلة”. ثمّ يناقش موضوع المفاوضات، مشيرًا إلى أنّ إسرائيل قد حدّدت شروط التفاوض في ثلاث بديهيّات:
أوّلًا -إنّ الصراع الإسرائيليّ–الفلسطينيّ يرجع في أصله إلى سنة 1967.
ثانيًا-كلّ شيء في الضفّة وغزّة يمكن تقسيمه أكثر من مرّة، وذلك يشمل تقسيم الأرض والناس والموارد الطبيعيّة.
ثالثًا-لا شيء ممّا حدث قبل 1967 يمكن التفاوض عليه بما في ذلك النكبة والتطهير العرقيّ، أي أن تُشطب قضيّة اللاجئين وحقّ العودة من جدول الأعمال.
وفي الكتاب ذكرٌ للمشكلة الديموغرافيّة التي تؤرّق حكومات إسرائيّل المتعاقبة منذ أن قال بن غوريون عام 1947: “لا يمكن أن تكون هناك دولة يهوديّة مستقرّة وقويّة ما دامت الأغلبيّة اليهوديّة فيها لا تتعدّى ال 60٪”. أمّا نتانياهو فيعتبر أنّ نسبة 20٪ هي أيًضا مشكلة. حتّى في الأوساط الأكاديميّة في “البيت الأخضر” باتوا يتحدّثون عن مشكلة “الميزان الديموغرافيّ”، مثلما تحدّث “البيت الأحمر” عن التطهير العرقيّ. و”البيت الأخضر” هو نادي هيئة التدريس والإدارة في جامعة تل أبيب التي بُنيت على أنقاض “قرية الشيخ مؤنس”، حيث يصف مؤرّخو جامعة تل أبيب التطهير العرقيّ عام 1948 بأنّه حرب الاستقلال، فيمجّدون الضباط والجنود ويحطّون من قدر الضحايا. إضافة إلى التنويه بدور ناشطين إسرائيليّين في المنظمة غير الحكوميّة “زوخروت” (“تذكُّر” بالعبريّة)، الذين يصرّون على نصب لافتات بأسماء القرى الفلسطينيّة المدمّرة في الأماكن التي تقوم عليها حاليًّا مستعمرات يهوديّة، أو غابات الصندوق القوميّ اليهوديّ، فيتحدّثون في مؤتمراتهم عن التزامهم بحقّ اللاجئين بالعودة والسلام العادل. كما يعلن الكاتب عن رغبته في أن يقوم علماء الاقتصاد بتقدير قيمة الأملاك الفلسطينيّة التي فقدت عام 1948، فيضع علماء الجغرافيا خرائط تبيّن مساحة أراضي اللاجئين التي صادرتها إسرائيل، ثمّ متمنّيًا لو أنّ أساتذة الفلسفة في الجامعة يفكّرون مليًّا في المضامين الأخلاقيّة للمجازر التي فاق عددها إحدى وثلاثين مجزرة. كما يشير إلى منظّمة “بتسيليم”، وهي منظّمة حقوق الإنسان الرئيسيّة التي تتابع وتوثّق أعمال القتل الكثيرة ضدّ الفلسطينيّين. ثمّ محذّرًا من أنّ الفلسطينيّين الموجودين في مخيّمات اللاجئين ليسوا بمنأى عن خطر تطهير عرقيّ محتمل في المستقبل، مشيرًا إلى أنّ فلسطينيّي الداخل الذين-حسب رأيه-يعيشون في وهمٍ في “أنّهم آمنون”، قد يصبحون هدفًا في المستقبل. وفي الخاتمة يشير إلى أنّ مشكلة إسرائيل ليست في يهوديّتها فاليهوديّة لها أوجه كثيرة، إنّما في شخصيّتها الصهيونيّة التي لا تتوفّر فيها هوامش التعدّديّة ويحثّ الفلسطينيّين على الاستمرار في النضال السلميّ.
وعليه، يقدّم هذا الكتاب مسحًا شاملًا لما جرى من أعمال التطهير العرقيّ ضدّ الفلسطينيّين، أصحاب الأرض، عامي 1947 و1948، بأسلوب علميّ جريء، اعتمد على أرشيف الحركة الصهيونيّة والأرشيفات العسكريّة، وعلى شهادات الناجين من المجازر، إلى جانب المصادر المكتوبة والمطبوعة. كما يدرج في نهاية الكتاب قائمة بتواريخ مهمّة، وخرائط، وجداول، ومراجع، وفهرس بأسماء الشخصيّات، والمؤسّسات، والأحداث، والأماكن، وغيرها. إنّها لفتة مباركة وضروريّة تسهّل على القارئ والباحث، أثرَت الكتاب وزادته مهنيّة ورونقًا.
صدق وليد الخالدي في تظهيره للكتاب: “هذا الكتاب مدهشٌ – إنجازٌ فذّ يجمع بين كلّ من التأليف الجدير بعالِم، والوضوح الأخلاقيّ التوراتيّ، والتعاطف الإنسانيّ”.
وأخيرًا، هذا الكتاب ضروريّ لكلّ مكتبة بيتيّة فلسطينيّة وعربيّة حتّى يكون عبرة للأجيال القادمة لمنع حدوث نكبة أخرى!