أمد/
أهداني الصديق الكاتب مصطفى عبد الفتاح (ابن قرية كوكب أبو الهيجا الجليليّة؛ يعمل أميناً عاماً في مكتبة القرية، يكتب المقالة السياسيّة والأدبيّة، ناشط ثقافي فعّال، أصدر رواية “عودة ستّي مدلّلة”، ورواية “جدار في بيت القطارات”، ومجموعة قصصيّة “رقصة الشحرور”، وكتاب “يهودي وخمس يهوديات”، ويكتب أدب الأطفال) ومجموعته القصصيّة “طرقٌ على جدار الذاكرة”. تعذّرت مشاركتي بندوة لمناقشتها في شفاعمرو بسبب انشغالي بندوة دوليّة في يوم الأسير الفلسطيني.
تشمل المجموعة القصصيّة 22 قصّة في 184 صفحة، صادرة عن: دار الهدى لصاحبها عبد زحالقة، تدقيق لغوي: محمود مرعي، تصميم الغلاف: شادي شليوط. وتشكّل مدماكًا آخر في مشروعه الكتابيّ الوطنيّ.
تناولت في حينه مجموعته القصصيّة “رقصة الشحرور” وكتبت “أومن بأنّه لا يوجد كاتبًا ملتزمًا كما جاء في التظهير، بل هناك أدب ملتزم؛ ومصطفى عبد الفتاح يحمل النكبة والهمّ الفلسطيني، حاول الخروج من عباءة من سبقوه من الكتّاب، بطله “يُلملم ذكرياته على عَجل، يضعها في بقجته، يحني ظهره، وهو ينوء بحمله” متشبّثًا بتراب الوطن، “إن لم تمت هنا كريمًا فستقتلك الغربة هناك”. وبدوري أقول له: آن الأوان يا مصطفى لتتحرّر من تلك القيود، لتتحدّث (من الحداثة)، لتتحدّى كونك الضحيّة لأنّك فلسطيني بقي في أرضه وتنطلق بأدبك إلى قمم أعلى وآفاق أبعد”.
تناول الكاتب النكبة والبقاء في العديد من قصص المجموعة؛ وعلى سبيل المثال قصّة “ليل القبض على الديك” وقرية عين الرمانة، وقصّة “تينة أبي ليست حمقاء”، وقصّة “نبش في الذاكرة”.
ولبس قبّعة المُريد والواعظ التوعويّ في بعضها الآخر؛ وعلى سبيل المثال قصّة “عقلة الإصبع بين طيرول والغول”، وقصّة “حلاوة الروح”، وقصة “هذا أحبّه وهذا أريده”.
وتناول قضايا مجتمعيّة حارقة يعاني منها شعبنا في الداخل الفلسطيني؛ وعلى سبيل المثال عصابات الإجرام في قصّة “موت جديد” وقصّة “نرجس” وفكرة القصّتين واحدة، وأوضاع البلد في قصّة “متسلّق”.
والبعض الآخر يحمل الحس الوطني والثقة والعزيمة والنديّة والإباء والحثّ على الصمود؛ وعلى سبيل المثال قصّة “انتصرت على الوزيرة”، وقصّة “ورقة سيجارة”، وقصّة “المال عند تزاحم الأقدام”. وهناك القصص المباشرة والشعاراتيّة بامتياز، وعلى سبيل المثال “الأحرار والعبيد”. ويصل إلى قناعة أنّ الدنيا بعدها بخير كما نجدها في قصّة “طرق على جدار الذاكرة” التي تحمل المجموعة عنوانها.
ترافقت ومصطفى يوم 20.01.2022 إلى القدس ضمن مشروع التواصل الثقافي للكلّ الفلسطيني الذي قام به الاتحاد العام للكتّاب الفلسطينيين- الكرمل 48 وكانت قعدتي بجانب مصطفى، فأخبرته أنّ بحوزتي نسخاً من كتاب “العزيمة تربّي الأمل” للأسيرة أماني حشيم (تحرّرت بصفقة التبادل الأخيرة) لأسلّمها لعائلتها وأعطيته نسخة منه ومن وحي المشوار والحديث الذي دار بيننا كتب قصّة “عيد ميلاد”؛ وكتب “إنها تبحث عن حُلمها الذي لا يتركها، عيد ميلاد أحمد يقترب، وهي تستعدُّ لذاك اليوم الَّذي تغيّر فيه وجه العالم، فقد أصبحت أماً، وأيّ شيء في العيد تهديه لمُهجة روحها وهي خلف القضبان، وهل يوجد هنا غير عتمة السّجن وظُلم السّجان، ويطلّ أحمد من بين قضبان السجن بوجهه الملائكي، بروحه البريئة، ويخاطب أمَّه ببراءة الأطفال: لا أحبّ القيود في معصميك”. (ص. 43)
عملت على إصدار ديوان “أنا سيد المعنى” للأسير ناصر الشاويش وتم إشهاره تزامنًا مع ذكرى النكبة وعلى أراضي قنّير المهجّرة، بدعوة من أهالي قنّير والاتحاد العام للكتّاب الفلسطينيين-الكرمل 48 يوم 15.05.2022، وقبيل الحفل زوّدت مصطفى بنسخة، وأرفقت بها رسالة بعثها لي ناصر، ومن وحيها كتب قصّة بعنوان: “خمس دقائق هزَّت كياني”: “خمس دقائق غيَّرت كيانه وهزَّت وجدانه، خرج من قيوده، نهض من مقعده كالمارد، وقف إلى جانب حسن، ركض معه نحو أشتال الزَّعتر، شاهد زوجته وابنتيه ديمة وشادن، يتقافزن على الصُّخور الكرمليَّة، يقطفن الزَّعتر ويركضن خلف الفراشات، كانت السَّعادة تغمر الجميع، كان ناصر يضحك وهو يركض في البرِّيَّة يفتح ذراعيه للرّيح يحتضن كلّ فلسطين، ويعدُّ السفن الرّاسية في الميناء، ويكتب في الهواء قصيدته الجديدة: أسأله هل ما زال الزّعتر يا حسن فلسطينياً؟!”.(ص. 89).
شبّكت بين الكاتب والأسير كميل أبو حنيش ومن وحي إحدى المحادثات كتب قصّة “صفحة وطن” (ص. 105) وبطلها قندول الجبل.
صدرت رواية “يس” لصديقي الروائي أحمد أبو سليم ورتّبت حفل إشهار وندوة حواريّة لمناقشتها على أراضي دير ياسين يوم 04.06.2021، تزامناً مع ذكرى المجزرة، ورافقني الكاتب وكانت له مداخلة رئيسة، ومن وحي الرواية والجولة على أراضيها كتب قصّة “البيت اليتيم” وأنهاها: “أراد أن يقاوم، أراد أن يمنع استمرار المجزرة، شعر بضربة على رأسه، فتح عينيه على رجل غريب الأطوار، تتدلَّى من جانب أذنيه جديلة طويلة، يصرخ في وجهه “اخرج من هنا، هذا بيتي”، وشرطي يضع القيود في يديه ويقوده إلى السجن لأنّه اعتدى عل أملاك الآخرين”. (ص. 133)
برع الكاتب في الوصف حين صوّر طقوس لفّ السيجارة “انتزع من الدّفتر ورقة ناعمة بيضاء كالحرير، وضعها بين الإبهام والسبابة على شكل قوس، بيده اليسرى تناول كميَّة من التبغ فردها على سطح الورقة، ثمّ عالجها بحذر شديد، حيث أدارها إلى الأمام وإلى الخلف، حتّى أصبحت متناسقة، ومرَّ على طرف الورقة البيضاء بطرف لسانه الرطب ثًمّ ألصقها بشكل دائريٍّ ناعم، ثُمّ أزال التبغ العالق من كلا طرفي السيجارة، وهو يبصق ما علق من بقايا الورقة البيضاء على طرف لسانه باتِّجاه أليكس، لتتكوّن أمامه سيجارة ملفوفة جاهزة للتَّدخين”. (ص.66).
وكذلك تصويره لقندول الجبل الأصفر “لونها الأصفر الذي يُخبِّئ تحت جناحيه اشواكًا كالإبر… وردة صفراء، تسكن الجبال والوديان، تضيء عتمة الليل، تلذع بأشواكها الحادَّة كلَّ مُعتَد على حُرمتها… تذرف دمعها، وتتموج على خدها النسمات العليلة، فترسم كلمات العشق، وتغفو في الليل في حضن القمر ونجوم السماء، ورقصة القندول الليلية، ورائحة العطر تدعو القلب الى عناق الحرية.
سرُّها يكمن في جمالها، يا صديقي، إنّه سرُّ الوطن، فهي تنشر عطرها فواحًا في جميع الأرجاء، تستقطِب كلّ مَن يحميها فتضمه إلى حضنها، انظر إلى فرح الفراشات، وشدو العصافير، تُمتّع الناظر بجمال الطبيعة، وهي بأبهى وأجمل حلّة يعرفها الإنسان، وعلى أطرافها أشواك حادّة، سلاح تدافع فيه عن وجودها وتمنع عنها الغدر والعدوان. وفي عتمة الليل تُضيء بدل الشمس ظلام الليل فيبدو ساحرًا، يفتن الألباب، إنها الوطن يا صاحبي”. (ص.109).
وجدت الكاتب موفّقاً في اختياره لعناوين قصص المجموعة، فجاءت ملائمة لموضوعها ولغته انسيابية سلسة بعيدة عن المجمّلات اللفظية وشدّ العضلات، مباشرة وقريبة من الواقع المعاشيّ، “محليّة” بموضوعاتها، شخوصها ومكانها ولم ينجح أن يحلّق لأزمنة وأمكنة أخرى بعيدًا عن فلسطين، رغم مشواره وشطحته الطيروليّة وزيارته لبيت شكسبير وبلاد الإنجليز.
نعم، صدق محمود حين صرخ في وجه مُشغّله أليكس، القادم من روسيا قبل سنوات، “يلعن أبوها لقمة الخبز المغمّسة بالذلّ”