جميل السلحوت
أمد/ “القومية العربية أو العروبة في مفهومها المعاصر هي الإيمان بأنّ الشّعب العربيّ شعب واحد تجمعه اللّغة والثّقافة والتّاريخ والجغرافيا، والمصالح، وبأنّ دولة عربيّة واحدة ستقوم؛ لتجمع العرب ضمن حدودها من المحيط إلى الخليج”.
ويرى البعض أنّ: “القوميّة تعني القوم المنحدرين نسَبًا من صُلب جدٍّ واحد، ومع التّطوّر التّاريخيّ انسلخ مصطلح القوميّة عن جذوره الّلغويّة، فأصبح معناه قريبا من معنى الأمّة”.
أمّا العروبة فهي:” انتساب إلى العرب، وتعني فقط الانتساب المجرّد عن المعنى السّياسيّ، فمن الممكن للإسلاميّ أن يكون عروبيّا وللماركسيّ أن يكون عروبيّا، لأنّ العروبة مجرّدة من المعنى السّياسيّ فهي شعور بالانتماء لا أكثر”.
وبعيدا عن المصطلحات والتّنظير، فإنّنا سنركّز هنا على ما يُعرف بالوطن العربيّ حسب الفهم المعاصر، وهو تلك الأقطار الّتي تتشارك فيما يُعرف بالجامعة العربيّة، والتّي تمتدّ من المحيط إلى الخليج. وكي لا ننسلخ عن الماضي القريب فإنّه يجدر التّذكير، بأنّ ما يُعرف بالدّول العربيّة، لم يكن معروفا قبل الحرب الكونيّة الأولى، فجميع هذه البلدان كانت تحت حُكم الخلافة العثمانيّة، التّي شارك بعض العرب في هدمها، على أمل التّحرّر، إلّا أنّ الدّول الإستعماريّة وتحديدا بريطانيا وفرنسا تقاسمتها – حسب اتّفاقيّة سايكس- بيكو – 1916، وما تبعها من وعد بلفور- نوفمبر 1917، لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين قبل أن تضع الحرب أوزارها.
وهنا لا بدّ من التّنويه أنّ الرّابطة الّتي كانت تجمع الشّعوب التي كانت تحت الحكم العثماني -ومنهم العرب-، هي الرّابطة الإسلاميّة، والذي يقرأ خطابات ومراسلات شريف مكّة “الحسين بن علي” سيجد أنّ الفهم الإسلامي يطغى عليها، في حين أنّ خطابات ابنه الملك “فيصل الأوّل”، الذي تخرّج من كليّة “سانت هيرست” العسكريّة في بريطانيا وتأثّر بالفكر القوميّ في أوروبّا، كانت خطاباته قوميّة يبدأها بـ “أيها الأخوة العرب” ويتكلّم فيها عن أمجاد العرب، في حين كانت خطابات والده تبدأ بـ “أيّها الأخوة المسلمون” وتتكلّم عن أمجاد المسلمين.
وبغضّ النّظر عن تفاوت الآراء حول الخروج على العثمانيّين أو الولاء لهم، إلّا أنّ نتائج الحرب الكونيّة الأولى كانت خضوع المنطقة العربيّة للاستعمار الأوروبي، واستعر هذا الاستعمار بشكل جليّ بعد اكتشاف البترول، وعندما اشتعلت ثورات الشّعوب للتّحرّر، ولم يعد المستعمرون قادرين على إحكام سيطرتهم، بعد أن رسّخوا الإقليميّة، اضطرّوا تحت وقع الثورات إلى إنهاء احتلالاتهم المباشرة إلى احتلالات غير مباشرة للحفاظ على مصالحهم في المنطقة العربية. وهنا لا بدّ من التّذكير بأنّه لم تكن هناك حدود بين الأراضي العربيّة قبل نشوء “دول الأقاليم”، وقد سمعت من الشّاعر الشعبيّ المرحوم “أبو سعود الأسديّ” المولود في قرية “دير الأسد” في الجليل الفلسطينيّ قوله: “والله يا عمّي كنّا نفطر في دمشق، ونتغدّى في بيروت، ونتعشى في حيفا في اليوم نفسه”. ومن سخريات المرحلة الحاليّة أنّ العربيّ حامل جواز سفر أجنبيّ يُحترم عند دخوله دولة عربيّة أكثر من المواطن حامل جنسيّة هذا البلد، أو جنسيّة دولة عربيّة أخرى.
وبما أنّ الحديث عن القوميّة العربيّة، فلا بدّ هنا من التّذكير بأنّ “الوطن العربي” فيه مواطنون أصليّون من غير العرب.. وقد امتزجوا مع العرب من باب “الأخوة في الدّين”. كما يوجد مواطنون أصليّون من أتباع الدّيانة المسيحيّة، ويجمعهم مع إخوانهم المسلمين الانتماء القومي.
وتشتيت العالم العربي إلى دول كان كارثة بكلّ المقاييس على الأمّتين العربيّة والإسلاميّة. ولو قامت دولة عربيّة واحدة موحّدة لغيّرت وجه التّاريخ المعاصر، ومن الغريب أنّ كثيرًا من الأنظمة العربيّة الحاكمة تحتمي بمستعمريها بدلا من شعوبها، وتحرص على خدمة المستعمرين أكثر من خدمتها لأوطانها وشعوبها.
عندما استلم زعيم الأمّة العربيّة “جمال عبد النّاصر” الحكم في مصر، تبنّى الفكر القومي، واستقطب الشّعوب العربيّة من المحيط الذي كان هادرا إلى الخليج الذي ما عاد ثائرًا، وعندما توفّي في سبتمبر 1970م مات معه العرب و “العروبة”، وتكرّست الإقليميّة بشكل واسع وعميق، ممّا رسّخ النّفوذ الإمبرياليّ بشكل واسع، وبعد حرب أكتوبر 1973م وما تبعها من اتّفاقات “كامب ديفيد”، تفسّخ العالم العربيّ بشكل ملحوظ، ورغم مؤتمرات القمّة العربيّة والبيانات الرّنّانة التي تصدر عنها، واتّفاقات “الدّفاع المشترك بينها”، والتي ثبت أنّها مجرّد كلام بلا جدوى.
وفي مرحلة الموات هذه، والتي جرى الإعداد لها بعناية منذ سبعينات القرن الفارط، والّتي طرح فيها “بريجنسكي” مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق قضيّة “إعادة تثقيف شعوب المنطقة”، واشتغلت عليها طاحونة إعلام هائلة، لسلخ الشّعوب عن قضاياها المصيريّة، وترسيخ الإقليميّة بشكل واسع.
يشكّل المثقّفون والشّعراء والأدباء طليعة شعوبهم.. والثّقافة العربيّة لا تزال بخير، فالأنقياء يعبّرون عن قضاياهم وهموم شعوبهم قدر استطاعتهم، وعلى سبيل المثال فإنّ الشّاعر الكونيّ الرّاحل “محمود درويش” خدم بشعره وقلمه القضيّة الفلسطينيّة أكثر من الدّبلوماسيّة العربيّة، والأدب والثّقافة العربيّة ليست حكرًا على العرب فقط، فهناك مثقّفون وشعراء من غير العرب كتبوا باللغة العربيّة شعرًا وأدبًا ملتزما بالقضايا العربيّة، وهذا ليس جديدًا بل هو قديم.