أمد/
من منا لم يتوجع لصورة طفل مذعور، يجلس على حافة حجر، من بقايا ركام منزل هدمه نازيون جدد، لا يعرف سببا لموت والديه، وفقدان شقيقه وأختيه تحت رماد البيت المدمر! من منا، ما زالت فيه صبوة لنشوة ضوء، فى ليل هذا النفق، وآثار دمعة ذرفناها على أحلام نهوض عربى، تعرض للكسر، ويحتاج إلى ترميم وإعادة احتضان. تتأمل المشهد العام، تُبقى عينيك مفتوحتين، تركز فكرك فى تفكيك الحابل عن النابل فيه، تحاول اصطياد التفاؤل، حينما تتذكر أنك قرأت ذات يوم، قصة فرنسية، عن احتلال الألمان لباريس، وقال فيها كاتبها: «إن الربيع القادم فى فرنسا، سيكون أكثر اخضرارا، لأن الدبابات النازية، عمّقت الجذور فى الأرض». يهرب التفاؤل، فتحضر صورة لمثقف فرنسى، علقها ديجول على أحد جدران (الإليزيه)، أطلق النار على رأسه، عندما شاهد أول دبابة ألمانية تطأ تراب باريس، وصورة أخرى مماثلة، للشاعر اللبنانى خليل حاوى، وهو يطلق رصاصة بندقية صيد على رأسه، حينما شاهد من شرفة بيته دبابات شارون وهى تجول شوارع أول عاصمة عربية، فى صيف عام 1982.
تتأمل حال العرب، ليس فى حال أفضل، بالتأكيد، مما كانت عليه قبل أربعة عقود، والمشهد هو نفسه، فى النظام الدولى، عالم من دون «نظام» يُحترم، صراع «فِيلَة»، يولد حروبا وفقرا وفسادا ورعبا، يسرى فى عروق البشر، كلما روّج «مجنون» لوليمة نووية. زلزال غزة، ذكّر العالم بأخطائه، حينما تجاهل أهمية «استقرار» الشرق الأوسط، وفى قلبه «القضية الفلسطينية»، وحينما فشلت أمريكا، فى صناعة الاستقرار، والتى لا تجيدها، ومثالها فى أفغانستان والعراق وسوريا، وغيرها. وكانت حصيلة سياساتها مخيبة. جولات التدمير الإسرائيلية فى غزة والضفة الغربية المحتلة لن تتوقف، حتى لو تم التوافق على هدنة، لأن إسرائيل لا تتصرف كدولة طبيعية بحدود نهائية، لا تقبل حتى تقاسم الأرض، وتتصرف فوق القانون الدولى، وتسعى لتحويل الاحتلال إلى نوع شرس من الاستحلال للدم الفلسطينى، وبدعم وببوليصة تأمين خارجية لممارسة التطهير العرقى والتسلح النووى، والتغول فى الأرض واللحم البشرى بشكل غير مسبوق، وأمام عيون الكاميرات. وما نخشاه، أن تضيف هذه الإبادة الهمجية المتواصلة والمتكررة منذ عقود، استحقاقات للمحتل القاتل، وليس للضحية، صاحب الأرض والحقوق المشروعة، وأن تستمر لعبة التغطية على الاحتلال، وإطالة أمده واستفحال شروره، مما يعرّض الجملة العصبية الجمعية للشعب الفلسطينى فى عموم فلسطين التاريخية، ولدى عرب آخرين إلى مزيد من المقاومة والعصيان.
إن خطورة استمرار هذا النوع من الاحتلال الإحلالى والاستيطانى، واستراتيجياته السوداء، فى الإبادة والتطهير العرقى، والتهجير القسرى، هو فضيحة عارية فى هذا العالم المتحضر، وخاصة أنها تتم فى أزمنة «التسويات وعمليات السلام»، ويتصرف قادة الاحتلال وقوته العسكرية، وشارعه السياسى على طريقة الثور الهائج، الذى يصيبه لون الدم عادة بالسعار، ويتجاهل حقيقة «أن القوة غير المشفوعة بالحكمة والعدالة، تأكل نفسها فى نهاية المطاف».
تتأمل الحروب المعاصرة، بين الدول المتساوية فى القوة، وما فيها من رموز وإشارات وضجيج، فلا أمريكا ولا إيران تسعيان لحرب إقليمية، ضمن هندسة محسوبة، وقواعد اشتباك مضبوطة، ردود إيرانية وإسرائيلية، لتحقيق أهداف محددة، الصمت حينا والرد أحيانا، وبعضها معروفة مواعيدها وأعداد صواريخها مقدما، وإسرائيل شغوفة بتوريط أمريكا فى ضرب إيران، والأخيرة تكسب نقاطا منذ سقوط بغداد وحتى الآن. تتأمل فى أوروبا الغربية، وهى تعيش مرحلة انكشاف استراتيجى، وبفعل تراجع اقتصادى، ورجحان انتصار روسى فى أوكرانيا، وتنامى فى قوة اليمين الشعبوى، وإحياء فى عالم الجنوب، لفكرة مواجهة المركزية الأوروبية، وصعود لأدوار وازنة، روسية وصينية وهندية وإيرانية، تتجاوز حدودها الوطنية، وفى الوقت نفسه، تبدو ظاهرة واضحة لخطى أوروبية غربية، تستعيد فيها صورا لحالات عنصرية وهمجية، سبق أن عاشتها أوروبا فى قرون خلت، صراعات وممارسات عرقية وقومية، وإسكات لحريات التعبير، وحتى لا تفتح ملفات التمييز والإقصاء الذى مورس ضد الأقليات الدينية وبخاصة تجاه الجماعات اليهودية فى القارة الأوروبية، فى قرون عديدة وحتى منتصف القرن العشرين.
تتأمل احتجاجات طلبة جامعات عريقة فى الغرب الأوروبى وأمريكا، وكيف خلقت بيئة تضامن إنسانى مع سردية مغايرة، لما هو سائد فى مجتمعاتها، ذات صلة بالصراع العربى ــ الصهيونى، وعبرت عن نداءات إنسانية بحتة، «إيقاف الحرب، وإدانة القاتل». لكن هذا التأمل، لا يغادره إدراك واع، بأن هذا الحراك الطلابى، لا يشبه الحراك الطلابى فى أواخر ستينيات القرن العشرين، المضاد للحرب الأمريكية فى فيتنام، الزمن تغير والرموز، لا بايدن يشبه جونسون، ولا الضحايا فى الحرب هم الضحايا، فى فيتنام كان هناك ستون ألف جندى أمريكى من القتلى، وكان جوهر الاعتراض الطلابى هو رفض للتجنيد فى هذه الحرب، أما ضحايا اليوم فهم من قوم آخرين، وفى زمن انتخابى أمريكى مغاير، لا يُقبل فيه الشباب على الاقتراع إلا بنسبة ضئيلة للغاية، وبالتالى، سيتلاشى تأثير هذه الاحتجاجات مع مرور الوقت… ولن يهدد العلاقات الأمريكية والأوروبية مع إسرائيل.
أمام العالم هدير فى أكثر من مكان، آسيوى وإفريقى، ورياح جيوسياسية عاتية، وتفجرات ديموغرافية. وأمام التجمع الأمريكى والأنجلوسكسونى، خيارات صعبة، تجاه رسم سياستها الشرق أوسطية، وعلى رأسها تعديل رسم هذه السياسات بعيدا عن «الحبر الإسرائيلى»، وفى إطار «تحجيم الدور الإسرائيلى»، وإزالة عقلية «الأمن المطلق لإسرائيل». إسرائيل لا تصلح، لكى يُبنى عليها حسابات جيوسياسية وأمنية، وحسابات استقرار، طالما ظلت قائمة على عقيدة عناصرها «القوة العارية، والاحتلال المستدام، وشطب عموم فلسطين، من كل ملفات الأمم المتحدة، بدءا من شطب الأونروا».
تتأمل فى آخر القول: مقولة «حل الدولتين».. ولا ترى فى مائها سوى السراب.. تبحث عن ثقافة التبشير بالعدل وبالحياة.. التى هى أبقى من ثقافة القتل والإبادة السوداء.