عمر شعبان
أمد/ ما يزال العدوان الإسرائيلي على غزة مستعرًا منذ ما يزيد على سبعة أشهر، وما من بوادر لنهايته. ولا شك في أن للإبادة الجماعية تداعيات عالمية – مثل تعبئة الحوثيين في البحر الأحمر وزيادة التوتر بين إسرائيل وإيران، والتعبئة الطلابية الجماهيرية في الولايات المتحدة وأوروبا. غير أنَّ تزايدَ الاهتمام العالمي بفلسطين مقارنةً بالأجيال الماضية لم يأت إلا بثمن باهظ. وحتى الأعداد الكبيرة من الشهداء (الذي يُقدَّرُ عددهم الآن بأكثر من 35,000 شخص) والنازحين والمنازل المدمرة لا يمكن أن تنصفَ حجم الدمار الذي يتعرَّضُ له قطاع غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023.
غير أنّ من الضرورة بمكان أن يتصدَّرَ الفلسطينيون الحوارَ حول ما سيلي الإبادة الجماعية التي ترتكبتها إسرائيل، لأنّ الانسحابَ من هذه المناقشات يعني وضعَ مستقبلنا الجمعي في أيدي أولئك الذين يسعون منذ عقود إلى محونا. وفي هذا الصدد، يطرح هذا التعقيب مدخلًا للحوار الفلسطيني بشأن ما قد يلي وقف إطلاق النار، حيث يتناول في البداية خطاب “اليوم التالي” من غير الفلسطينيين، ثم يصف كيف تختلف عملية إعادة الإعمار اليوم عن العمليات التي سبقتها، ويعرض في الختام مقاربةً ممكنة للبدء في إعادة إعمار القطاع.
إقصاء الفلسطينيين في خطاب “اليوم التالي”
منذ بدأت إسرائيل إبادتها الجماعية في غزة، طَرحَ عددٌ هائل من المناقشات والإحاطات والمقالات الفكرية مقترحاتٍ مختلفةً حول ما قد يبدو عليه اليوم التالي للعدوان. وفي أحسن الأحوال، عَرضَت الغالبية العظمى من هذه المناقشات شيئًا من المشاركة الفلسطينية الرمزية. غير أن أكثرها جرى دون إشراك الفلسطينيين على الإطلاق.
وعلى سبيل المثال، دعا ليون هادار في مقالة رأي نشرها معهدُ أبحاث السياسة الخارجية الولاياتَ المتحدةَ إلى إعادة النظر في إقامة الدولة الفلسطينية كهدف بعيد الأجل وليس مقترحًا سياساتيًا فوريًا، واقترحَ في المقابل بأنَّ نشرَ قوات حلف شمال الأطلسي في قطاع غزة أو مواصلة الاحتلال العسكري الإسرائيلي يظل خيارًا منطقيًا في الأجل القريب. وفي حالة أخرى، دعا مشروعٌ مشترك بين المعهد اليهودي للأمن القومي الأمريكي وائتلاف فاندنبرج إلى إنشاء الصندوق الدولي لإغاثة غزة وإعادة إعمارها. ووصفت لجنة المشروع ذات الثمانية أعضاء في مقترحها الصندوقَ بأنه “منظمة غير حكومية كبرى” تديرها المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة. وأصدر تشاتام هاوس أيضًا مقالة بعنوان “اليوم التالي”، كتبها سانلام فاكيل ونيل كويليام، وناشدا فيها دول الخليج بالمبادرةِ بدورٍ أكبر في التخطيط لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار ودعم جهود إقامة الدولة الفلسطينية.
يأتي هذا الكم الوفير من تحليلات ‘اليوم التالي’ في وقت يتبين فيه كل يوم أن النظام الإسرائيلي ما شنَّ عدوانَه على غزة إلا للقضاء على حماس ودون أن تكون لديه أي خطة لِما سيلي ذلك Click To Tweet
الأدهى من ذلك أن أيًا من هذه المقترحات لم يركز على الأصوات الفلسطينية، لا بصفتهم كُتابًا ولا مصادر خبرة. إن هذا التحليل الإقصائي الذي يُفضِّل الرؤى غير الفلسطينية على الخبرات والتجربة المعاشة الفلسطينية ليس بالأمر الغريب، بل هو جزءٌ من توجُّه قديم للحيلولة دون تحقق الحكم الذاتي وتقرير المصير الفلسطيني في سياق تخطيط السياسات.
يأتي هذا الكم الوفير من تحليلات “اليوم التالي” في وقتٍ يتبين فيه كل يوم أن النظام الإسرائيلي ما شنَّ عدوانَه على غزة إلا للقضاء على حماس ودون أن تكون لديه أي خطة لِما سيلي ذلك. ويتبين من الأشهر القليلة الماضية، على وجه الخصوص، بأنه حتى هذا الهدف في حالة تغير مستمر بالنسبة لإسرائيل، حيث يواصل جيشها ارتكاب المجازر العشوائية والتدمير على نطاق واسع في قطاع غزة.
في حين يستبعد نتنياهو إمكانية اضطلاع السلطة الفلسطينية بحكم غزة حال التوصل إلى وقف إطلاق النار، فإن بايدن يدعو إلى هذا الخيار بالذات. وفي خطوة لاستعادة بعض الشرعية لدى الشركاء العالميين، أقدمَ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مؤخرًا على تشكيل حكومة تكنوقراط جديدة. غير أنه من غير المعلوم كيف سيستقبل واضعو السياسات الإسرائيليون السلطةَ الفلسطينية “المُجدَّدة”، أو كيف سيرحب بها الشعب الفلسطيني الذي لم يتجه إلى صناديق الاقتراع منذ انتخابات عام 2006.
معوقات إعادة الإعمار
مرَّ قطاع غزة بالفعل في مشروع إعادة الإعمار الأليم في مناسبات عدة، ومُنيت جوانبُ كثيرةٌ من المبادرات السابقة بفشلٍ ذريع. غير أن السياق الحالي يطرح تحديات أكبر من ذي قبل. وفيما يلي بضعٌ من الاعتبارات الكثيرة التي يجب مراعاتها عند الحديث عمّا سوف تتطلبه إعادة إعمار غزة:
في أعقاب الهجوم الإسرائيلي عام 2014، تضرَّر أو تدمر نحو 96,000 مسكن، وكانت تكلفة إعادة الإعمار المتوقعة ما بين 4 و6 مليارات دولار على مدار 20 عامًا. في المقابل، دمَّرت إسرائيل ما يزيد على 335 ألف وحدة سكنية، أي أكثر من 60% من جميع المساكن في غزة، تدميرًا كليًا أو جزيئًا في الفترة ما بين تشرين الأول/أكتوبر 2023 وكانون الثاني/يناير 2024. ولغاية شباط/فبراير 2024، بلغت تقديرات تكلفة إعادة الإعمار حوالي 20 مليار دولار.
في عام 2014، لجأ قرابة 600,000 فلسطيني إلى مدارس الأونروا. وتمكَّن معظمهم من العودة إلى منازلهم في غضون أسابيع عقب وقف إطلاق النار، وتأخَّرت المسيرة التعليمية لشهر أو شهرين. أمّا اليوم، فإن الضرر أكبر بكثير، حيث لم يعد لأكثر من نصف الفلسطينيين في غزة منازل يعودون إليها، وتدمَّر ما يزيد على 300 مدرسة، ومن المرجح أن يتأخرَ غالبيةُ الأطفال عن الدراسة لمدة عام على الأقل.
استغرقت إزالةُ الجزء الأكبر من الأنقاض المقدَّرة بمليوني طن من غزة 18 شهرًا في أعقاب عدوان عام 2014. ووفقًا لبير لودهامر، الرئيس السابق لدائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام في العراق، فإن الإبادة الجماعية الحالية خلَّفت ما يزيد على 37 مليون طن من الركام والأنقاض. فكم من الوقت ستستغرق إزالة هذا الكم من الدمار؟ يقدر لودهامر المدة المطلوبة بـ 14 عامًا باستخدام 100 شاحنة. ومَن سيوفر الموارد والمعدات اللازمة للقيام بذلك؟ ولِمَن ستعطى؟ وماذا عن الأسلحة غير المنفجرة المدفونة بداخلها؟ وهذه ليست سوى أسئلة قليلة من أسئلة كثيرة ينبغي الإجابة عنها إجابةً عاجلة لأن الفلسطينيين لا يستطيعون العودة بأمان إلى أراضيهم حتى تُزال المخلفات.
تدمّر ما يزيد على 70% من مستشفيات غزة بالكامل؛ بينما تعمل المستشفيات العشرة المتبقية جزئيًا فقط. تُعدُّ إعادةُ بناء المرافق الطبية في غزة وإعادة تجهيزها من الاحتياجات الأكثر إلحاحًا. هذا بالإضافة إلى إعادة بناء شبكات المياه والصرف الصحي والطرق الأساسية – وكلها أمور لا غنى عنها لضمان قدرة الناس على العودة.
ختامًا، لا ننسى القطاع الزراعي، فقد تدمَّرَ جزءٌ كبير من الأراضي التي كانت تستخدم لإنتاج الغذاء أو أُعيد تخصيصها لإيواء النازحين من مناطق أخرى في قطاع غزة، كما حدث في قرية المواصي وقرى أخرى في محافظة خان يونس. ووفقا لتقرير أصدرته منظمة الأغذية والزراعة في فبراير/شباط 2024، فقد تضرَّر زهاءُ نصف الأراضي الزراعية في غزة. ونتيجةً لذلك، يُرجَّحُ أن يظلَّ انعدامُ الأمنِ الغذائي مشكلةً مؤثرةً جدًا في السنوات المقبلة.
تتمثل إحدى مقاربات إعادة الإعمار في التركيز على مجموعة واحدة من الأحياء في كل مرة. فإذا تمكنّا من جلب الموارد اللازمة لإعادة بناء عشرة أحياء، مثلًا، فسيكون ممكنًا تحقيق تقدمٍ كبير في العمل عليها في غضون بضعة أشهر. ويمكن أن تنطوي هذه المقاربة على تحديد حَيَّين في كل محافظة من المحافظات الخمس – مدينة واحدة ومخيم واحد للاجئين في كل منها – للتركيز عليهما في البداية. ويمكن تخصيص 10-20 شاحنة وغيرها من المعدات اللازمة لكل حي من هذه الأحياء لإزالة الأنقاض والبدء في إعادة الإعمار.
مرَّ قطاع غزة في مشروع إعادة الإعمار الأليم في عدة مناسبات، ومُنيت جوانبُ كثيرةٌ من المبادرات السابقة بفشلٍ ذريع. غير أن السياق الحالي يطرح تحديات أكبر من ذي قبل Click To Tweet
بالإضافة إلى تأمين أهم متطلبات كسب العيش في هذه الأحياء – مثل البنية التحتية والصحة والغذاء – يجب إيلاء الأولوية أيضًا لقطاعي الإنتاج والتعليم. فإعادة بناء قطاع الإنتاج في غزة، مثل القدرات الزراعية والتصديرية، سوف يضمن خروج غزة من دائرة الاعتماد على المساعدات الإنسانية في أسرع وقت ممكن. فضلًا على أن الاستثمار السريع في إعادة بناء المدارس والجامعات له أهمية بالغة في إحياء المجتمع المدني الفلسطيني والحفاظ على المعارف والذاكرة الفلسطينية.
من الضرورة بمكان أن يشارك سكان هذه المجتمعات في جميع مراحل هذه العملية – سواء في صنع القرار أو في التنفيذ، حيث إن القيام بذلك سيساعد في ترسيخ الملكية الفلسطينية، وضمان فرص العمل للأكثر تضررًا من الإبادة الجماعية. وسوف تساعد مساحات المشاركة الهادفة – سواء من خلال القيادة الاستراتيجية أو التوظيف أو العمل التطوعي – في ترسيخ صفة الفاعل لدى الفلسطينيين في غزة.
سوف يرى الفلسطينيون، عند اتباع هذه المقاربة، مثالًا لما سيبدو عليه المستقبل بالنسبة لسائر قطاع غزة – وبوسع ذلك أن يغرس بعض الأمل في المجتمع، فللأملِ في هذه الأوقات قيمةٌ لا يُستهان بها، بعد أن فقدَ فلسطينيون كثيرون كلَّ شيء. ومن خلال استراتيجية إعادة بناء الأحياء المجموعة تلو الأخرى، يستطيع سكان غزة أن يتصوروا مستقبلًا ممكنًا لقطاع غزة بأكمله. أمّا محاولة استعادة الاحتياجات الأساسية لقطاع غزة بأكمله في آن واحد، فستحتاج وقتًا طويلًا حتى يتمكن الغزيون من استعادة بعض مظاهر الحياة الطبيعية، وقد يبدو ذلك الهدف بعيد المنال لدرجة قد تتسبب في تلاشي الأمل الجماعي بسهولة.
إنّ غرس الشعور بالأمل سيساعد أيضًا في تسريع عودة الفارين من غزة، حيث غادرها عشرات آلاف الفلسطينيين منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، ولا يزال الكثيرون منهم في مصر. وفي حين قد يختار البعض البقاء خارج غزة، إلا أن العديدين منهم يتوقون للعودة إلى وطنهم في أقرب وقت ممكن. ولكي يتمكنوا من العودة – ومن أجل ثني الآخرين عن الهجرة الجماعية – لا بد من البدء في تنفيذ إمكانيات المستقبل المستدام.
إذن من سيقود هذه العملية؟ أحد الحلول هو تشكيل لجنة وطنية فلسطينية لإعادة الإعمار تضم خبراء من القطاع الخاص والمجتمع المدني، وممثلين من الطيف السياسي. فمن الأسباب الرئيسية التي أسهمت في فشل آلية إعادة إعمار قطاع غزة السابقة، التي وُضعت بعد عدوان عام 2014، افتقارها إلى الملكية الفلسطينية وإعطاؤها الأولوية لمصالح الجهات الفاعلة من الدول الثالثة بالإضافة إلى إسرائيل. لذا لا بد من وجود لجنة توجيهية فلسطينية مستقلة كشرطٍ أساسي لتفادي تكرار أخطاء الماضي.
لا شك في أن قطاع غزة سيظل محتاجًا لدعم المجتمع الدولي من أجل إعادة الإعمار بغض النظر عن المقاربة المتبعة. ولكن الأهم من ذلك هو أن تكون الملكية في عملية إعادة الإعمار بيد الفلسطينيين. فالدعم الدولي ليس كالسيطرة الدولية. يتمتع الفلسطينيون بالمهارات والخبرة اللازمة؛ وما نفتقر إليه في هذه اللحظة هو الأموال والمعدات وإمكانية الوصول والحماية اللازمة للشروع في هذه العملية. ينبغي أن يشاركَ الفلسطينيون في الشتات أيضًا في هذه العملية، إذ يمتلك العديد منهم المعرفة التقنية الأساسية والموارد اللازمة للتعبئة والاستثمار في مستقبل غزة.
وبطبيعة الحال يبقى السؤال: من سيموِّل إعادة الإعمار؟ تجدر الإشارة إلى أن العديد من التعهدات بتمويل آلية إعادة إعمار غزة المعلنة في مؤتمر القاهرة عام 2014 لم تُنفق إلى الآن. وحتى بعد مرور أكثر من عامين على العدوان الوحشي الإسرائيلي، كان المتعهدون لا يزالون متخلفين عن دفع قرابة نصف الأموال التي تعهدوا بها. والغالبية العظمى من التعهدات – زهاء 90% – التي لم يُوفَ بها هي تعهدات من منطقة الخليج. ونتيجةً لذلك، لم تتم إعادة بناء البنية التحتية الحيوية قط. علاوةً على ذلك، أخذ تشاؤم المجتمع الدولي يتزايد إزاء منفعة استثماراتهم حين يتكرر تدمير الكثير من المشاريع التي يمولونها بسبب القصف الإسرائيلي. وهذا لا يعفي بأي حال الدولَ الثالثة من التزامها بدعم إعادة الإعمار في غزة، وإنما يُبرزُ الحاجة إلى أن تقترن هذه العملية بجهود منسقة للتوصل إلى حل سياسي يحترم عودة الفلسطينيين وحقهم في تقرير المصير ويحميهم من احتمال الإبادة الجماعية في المستقبل.
علاوةً على إعادة الإعمار المادي في غزة، لا بد أيضًا من بذل جهود جديدة لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني. ورغم أن سكان غزة لا يستطيعون المشاركة في العملية السياسية في هذه اللحظة الراهنة، إلا أن هناك حاجة إلى وضع خريطة طريق توضح التوجهات السياسية المستقبلية، وتنص على خطوات لإنهاء الانقسام السياسي، بدءًا بالوعد بإجراء انتخابات فلسطينية في غضون فترة زمنية محددة. من الواضح للفلسطينيين في غزة أن الانقسام السياسي بين حركتي فتح وحماس منذ عام 2007 أضرَّ كثيرًا بالنضال الأوسع من أجل التحرير. ولا بد من إنجاز المصالحة السياسية لتحقيق مستقبل دائم للفلسطينيين، وإحلال الاستقرار الإقليمي الأوسع. وفي حين أن السلطة الفلسطينية في حاجة ماسة لإعادة بناء نفسها، إلا أنَّ الانقسام السياسي الراهن لا يمكن أن يستمر، ولا بدَّ لسكان غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، من الاتحاد تحت قيادة واحدة.