أمد/
“الزمنُ يسيرُ منتصبَ القامة”
– شكسبير-
نِذر لحظات خشوعٍ شاغلت ومضات دهشة،تلاها تماهِ وإستغراق تأمل،أودى ببوادر حيرة سرعان ما أفضت لذهول مُباغت ومبرر،بالكاد يشفع لذائقة من يعي، من بعد طول بحث وعناء مهمات البحث كشفاً عن كنزٍ-من أي نوع كان- لا يُثمّن،أو بسَلك سُبل التحرّي عن كُنّة جواهر ثمينة يتصادف بأن تطال نواجذ وخبرة من يفيض علماً بتقدير أقيامها،وعزوّ مكانتها وأكيديّة ألق وهجها ونبل معادنها،تلك هي بإختصار سبيل ما أنتابني من سيل أحاسيس وموجات مشاعر مشفوعة بآيات إشادة وجوافل إعجاب، ساعات وأيام تفرسيّ ما بين صادح تارة أو هامس تارات من فرط فضائل وشمائل ما جادت به قرائن وخزائن حدوسات ومعارف المفكر العربي الكبير د.عبدالحسين شعبان وهو يُعيد تعبيد مسارات سِفر تجلياته وتهجياته النقديّة والتحليلية، سمواً وسعياً متقدّاً،لترتيب وتوحيد صفوف ميراث شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري،من خلال مسارب مراجعات وكشوفات من لوامع جهد شخصي فذ،مُضني وخلّاق يكاد يضاهي-إن لم يَفق- جهود وخلاصات عمل مؤسسة بحثية متخصصة،متمرّسة بكامل مِلاكاتها،عبر ما حواه مجلد ضخم، أقتفى فيه الباحث والمفكر الموسوعي أثار تقصي مأثر شاعره الأهم والأقرب لروحه،بخالص متنفساته الرصديّة وسوانده التحليلية،في فهم وهضم سيرته، وزهو الوقوف عند تخوم عبقريّة شعره، بحكم جملة ما توافر وتناوب من عوامل وتصادف مشتركات نمت وأنتجت وعمّقت من عُرى علاقة وثقى جمعت به و الجواهري الكبير أبن بيئته ومدينته “النجف”، مع واقع فرض وثيقة تأشير تؤشّر صوب فارق العمر بينهما،بما يُقارب من خمسة عقود.
التأريخ بضمان الشعر
أستجلى د.شعبان في مهام إنتقاء منحى ما أراد وشرّع بما يتناسب وينسجم مع دقة وبلاغة عنوانه الطيّع والأثير”جواهر الجواهري”الصادر بداية العام/2024 في الكويت عن دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع، حيث تجاوزت صفحاته الباذخة والأنيقة بنوعيتها وطباعتها وكافة نواحي إخراجه الفني الخمسمائة صفحة من القطع الكبير مزيّنة بدفتيّ حضن غلاف ملّون “شيك” من المُقوّى السميك توّسطته صورة فوتوغرافية للجواهري أخذت نصف مساحة غلافه الأول -تقريباً- من جود تصميم بارع مُسند بدواعي شجن موّثر وحنين من لدن الفنّان مكي حسين بما من وقع لإختياره الأمثل لقيمة الصورة وأثرها النفسي،فضلا عن بريق حجمها الآسر والمهيّمن،على فضاء الغلاف بأسره.
*****
وبحيال ما ورد،بما يخص ويداني تصميم الغلاف أرى من الأجدر الإقتراب إحتكاماً وإحتماءً بمقولة أبن رُشد التي يرى فيها الشعر أكثرحظّاً من الفلسفة،وأسمى مكانة من التأريخ،وها نحن نقف عند تُحف أبيات قالها الجواهري بحق شعبان،تآخت مع صورة تجمعهما ضمّها ظهر الغلاف الأخير من منجزه الفخم هذا -الذي نحن بصدد تناوله،هنا- كي نسوقها تأكيداً لطبيعة حجم العلاقة وتثبت دعائم ماكان يجب أن يكون،لمن يريد الدخول مملكة الجواهري وصومعته، بالشكل الأنسب والأقرب لحياة مَن هُم بثقل يوازِ قيمة وثراء ظاهرة الجواهري أبا فرات القائم بقدح ومدح شعبان أبا ياسر قائلاً فيه بنصّ ما جاءعلى الغلاف ؛
“أخي العزيز عبدالحسين شعبان
……..
أبا “ياسر” أنت نعمَ الصحيب
وقلّ الصّحابُ ونعم الخدين
لقد كنت في محضر والمغيب
ذاك الوفي وذاك الأمين
وفي ذكرياتي كنت الصميم
سمير المعنّى وسلوى الحزين”
ذائقة شيّقة
أنعشت ذائقة وذاكرة من سيتسنى له دخول محراب هذا الصرح الإبداعي المهيب كلمة ساحرة،أنيقة وعميقة للشاعرة د.سعاد الصباح صاحبة دار النشر مقرونة بأسمها وسمو صيتها محمولاً على هوادج الشعر مزهواً برفعة وسطوع تجربة متميّزة، ذات جاه معرفي وذوق رصين، حفلت بعنوان”ضوءٌ غيرُ قابلٍ للخفوت”.،كان د.شعبان قد تجاوز بمجلّده الجديد هذا ما جاد به من قبل،فيما يلامس ويخص تجربة الجواهري عبر بوّابات كتابه الأول “الجواهري في العيون من أشعاره” بـ 696 صفحة من القطع الكبير الصادر بحلّة جميلة عن دار طلاس بدمشق عام/1986، وهو ما أعجب-حينها- الجواهري كثيراً،حيث شاء أن كتب مقدمة هذه الطبعة مُوقعة بأسمه في كانون الثاني من ذات العام، ممتدحا، ومُثنيّاً بالشكر الجزيل والإمتنان العميق،مضيفاً بقوله يُكمل ما بدأه من آيات شكر وإمتنان:(أخي وصديقي الأديب والمؤلّف “الدكتور عبدالحسين شعبان” على أتعابه،وفرط عنايته، وجهوده الحميدة،سواء بما تقابل معي في اختيار هذه”العيون”،أو فيما يختصّ بضم هذه اللّقطة المختارة إلى جانب تلك،أو تصويرها،أو الأشراف على طبعها وتصحيحها وكما قيل:
مَنْ يفعل الخير لا يعدم جوازيهُ
لا يذهب العُرفُ بين الله والناس
ص22″الجواهر”
بيت الشعر هذا يعود للحطيئة،بحسب ما يرد في هامش لتلك مقدمة الجواهري .
شيءٌ عن العيون
بعد طبعة دار طلّاس لكتاب “العيون”،صدرت عدّة طبعات أخرى خلال ربع قرن،كما يتم التنويه إليه،أما وفي خصوص مناهل ما تناول إستهلال د.شعبان كتابه الأخير”الجواهر”،يبرق لنا ضوء أشارة تتعلق بواقع كتابه الثاني”الجواهري جدل الشعر والحياة” الصادر عن دار كنوز أدبية -بيروت1997، قبل وفاة أبا فرات يوم 27 تموز/يوليو من ذات العام،وهنا تكمن قيمته كونه صدر والجواهري ما يزال حيّ يرزق،فيما أن الكثير مما صدره عنه وما نُسب إليه جاء بعد وفاته، تلت ذلك طبعة ثانية عن دار الآداب-بيروت/2008، وثالثة عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد/2010، فيما تسبقها إستناره تتلامع منذ أولى ومضات شروعه بنحت ذلك الاستهلال الدّسم والثمين والرامي إلى ترسيم وتوثيق نبل دواعي سعيه إصدار كتابه الثالث “الجواهر” الناحي والمشغول بعناية فائقة وسمة حرص شديد الصلة بالأعمار ونصوع النوايا ووثوق التطلعات،من هنا نراه يشير،من بعد الإشارة إلى كيف أستعاد الجواهري فكرة أصدر مختارات من شعره من خلال تلك الحوارات المطوّلة التي كان قد أجراها معه د.شعبان في دمشق عام/1986، وضرورة الإلتزام بما صار يشّدُ من أزر التمُسك بما كان يرددّه الجواهري على هذا المسرى والمنوال:(أن الشباب العربي “الصاعد” يتعذّر عليه الحصول على المجموعات الكاملة من دواوينه،خصوصاً من ذوي الكفاف)،مُعللاً لفكرة التفكير بإصدار “مختارات تضم أهم قصائده وأجمل ما فيها من أبيات “الجواهر”ص11،ثم بعدها يعرّج حول سوانح تولّيه -شخصياًّ- القيام بهذا التلكيف أثر حصوله على موافقة الجواهري،ثمة أمرٌ،صادق وخاص دعاه تأجيل مشروعه الحواري الذي طالما راوده مراراً، ورغم إنجازه تسجيل عشر ساعات كاملة منه،آملا بإصدارها بين دفتيّ كتاب،شاء إن جرت رياح صديقه حسن العلويّ بما لا تشتهي سَفائن شعبان، جرّاء إقدام الإستاذ العلوي الكاتب والإعلامي اللامع بالتحضير لمشروع كتابه”الجواهري ،،ديوان العصر”الذي صدر في دمشق عام/1986،كان د.شعبان قد أعارهُ تلك التسجيلات،تعاوناً وكرماً إبداعيّا نبيلاً، فيما ظلّ العلوي يذكر ذلك إعتزازاً،توّثيقاً وفخراً كلمّا حان الحديث عن كتابه الذي دوّن فيه العديد من الاشارات والتلمحيات التي وردت معلوماتها بتلك التساجيل التوّثيقيّة النادرة.
قِدم الشغف بالشعر
لم يكن شغف د.شعبان بالشعر، مرد رغبة عادية،عابرة أو طارئة،أو حتى -إلى حدّ ما- تكملة لمهام شخصيته المعرفية، بل كان متنفساً وغرساً أصيلاً في ثنايا ونسيج روحه التائقة لإساء أسس السلام والعدل وبث قيم التسامح ومحافل الجمال، لذا يجب معرفة جذور كيفيّة إنصرافه منذ ذلك الحين بالإعداد لمختاراته وبإشراف مباشر وحيّ من قِبل الجواهري نفسه، وما مدى الإحساس العالي بذلك عبر وصفاء ونقاء ذائقة شعرية مفتوحة على الحياة وشغوفة منذ طلائع وعيها ويفاعتها في “النجف” حيث ما تزال ترويه على حدّ قوله أشعار محمد سعيد الحبوبي/جعفر الحلي/ محمد رضا الشبيبي/علي الشرقي وأحمد الصافي النجفي وآخرون غيرهم بالمئات،فكيف بتقابلاته مع مرايا وعيون عظمة وثراءات شاعر العرب الأكبر الذي كان تصادف وأن رآه لاول مرّة وجهاً لوجه عام/1959 في ساحة الكشافة ببغداد بمناسبة وثبة كانون،ثم بعد ذلك لقائه مباشر حال عودة الجواهري إلى بغداد نهاية عام/1968،فيما توّثقت علاقته به -أكثر- في براغ عندما ذهاب شعبان للدراسة في العام/1970،وأخذت مساراً أبعد وأعمق في فترات وجودهما في دمشق ثمانينيات القرن الماضي،لتمتد عرى تلك الصداقة والعلاقة نحو ثلاثة عقود تمخّض عنها كتب وفصول ومخطوطات،”الجواهر”ص14.
جديد الجواهر
أورد الباحث سلسلة ذكريات وأحداث عن سِير إقدامه تبني إعداد طبع مختارات من شعر الجواهري،من بعد كتابيّه “العيون”و”جدل الشعر والحياة،وهو يستذكر موضوعة أغلاق دار طلّاس بدمشق التي تبنت طبع كتابه وما راقفها من تغيير وتحويلها إلى جهة أخرى،الأمر الذي وضعه أمام مسؤولية في مواجهة أسئلة ملحاحة حول تكاثر الطلب المتزايد عن الكتاب بعد نفاده،حيث لم يكن لديه سوى نسخة واحدة،أما وأمام جديد وجدّة عنوانه الأثير”جواهر الجواهري”،تبرز ضرورات لإجراء تعديلات وتحسينات و تدقيقات وإضافات عليها،بغية استكمال ما فات القارئ والمتطلّع،إلى جنب رغبته وذائقته المتشربة في مياه وينابيع شعر الجواهري، بل حتى نثره الذي يشير إليه ويدعو لدراسته -كما ويلفت عناية المُتابع- المهتم أن جديد إصداره هذا يُعد أكثر شمولا وأتساعاً وإنتقاءً، فضلاً عن اختياره للقصائد سواء أكانت كاملة أم على شكل مقطوعات،جرى من قبل الاتفاق والتعاون المباشر مع الجواهري في حياته،والذي كان يبدي ملاحظاته مرات ومرات فيما يلامس ويخص بعض النصوص،بحسب مزاجه المعروف بتقلباته،وكان د.شعبان في الوقت الذي يناقشه -أحياناً- غالباً ما يستجيب له أمام إصراره،ويعطي الباحث مثالاً كيف هاتفه الجواهري من براغ طالباً منه رفع قصيدة “جيش العراق” وهي كما يفصح- بمثابة تحية لثورة 14 تموز/يوليوم-تموز/1958 يقول مطلعها ؛
جيش العراق ولم أزل بك مؤمنا
وبأنك الأمل المرجّى والمنى
إلى أن يقول؛
عبدالكريم وفي العراق خصاصة
ليدٍ وقد كنت الكريم المحسنا
“الجواهر”ص12
الإنتقاء الامثل
لعل من أبرز ما ميّز مختارات “الجواهر” عنوانها غير المطروق
-أصلاً- وبرقة وموسيقية تعبيره اللفظي إلى جنب قصائد مضافة، وإضافات وتنقيحات وشروح جديدة غير ما حصل في كتبه السابقة، وغيرها من دواعي وتنويرات وتسهيلات في محاولات فهم أكثر وأعمق ممّا سبق قبل، ثم إعتماد تقسيم الاعمال الشعرية على منوال عقد يبدأ بالعشرينات ثم ما تلاها من عقود وصولا للستينات ثم السبعينات وأخيراً الثمانينيات، ماسحاً وماراً ومُعرضاً لجميع ما صدر للشاعر من مجموعات و دواوين من “حلبة الأدب” وهي معارضات لشعراء مشهورين نُشر عام/1927، مروراً بأجزاء دواوينه الصادرة في كل من بغداد /دمشق /القاهرة/وبيروت وصولاً لطبع ديوان الجواهري(ستة أجزاء)عام/2021 عن وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية، بل حتى وتلك الطبعات التي أسماها د.شعبان غير الشرعية من الديوان.
*****
كثيرة وأثيرة هي الإستمالات والإستشرافات وعُرى التعزيزات التي ثبّتها د.عبدالحسين شعبان في ركائز سِفر تحدّيه وتجلّيه بتنقية وغربلة ما وجده يصب بصالح الإبقاء على هيبة وثراء تجربة الجواهري الكبير،وقد لمسنا الكثير والوفير من الوفاء الشعباني والفهم العالي لقيمة الفهم والتوقير لشخص شاعره المُلهم وملكات هضم مزاجيته التي عُرف بها، داعياً القبول به، بكل ما له وبكل ما عليه، متصفاً ببراعة وصدقية ما تلخصه عنفوان إنثيالاته الساميّة والأصيلة متمثلةً بشذرات هذه الكلمات التي يقول فيها د.شعبان :” نحن لم نكن أمام شاعر وحسب، بل حالة من الشعر، لأن كلّ ما فيه ينبض بالشعر، وكان ذلك خياره الأول والاخير، وهو خيار فاض على العراق كلّه، وقد عملت على إبقاء كل ما يرضي الجواهري في هذه الطبعة أيضاً وكأنه ما يزال بيننا، حرصاً على الأمانة وتوخياً للدقة، وحين أضفت القصائد الجديدة كان في بالي دائماً سؤال؛ لوكان الجواهري حيّاً هل كان يثبّتها؟ .