أمد/
-الثقافة لا تحيا خارج الحرية،ولا تتحول إلى حقوق للأفراد إلا حينما تتشكل دولة القانون.هذا ما ابتغاه طيب السيرة،طيب تيزيني..( الكاتب)
-يقول الكاتب السويدي،اليوناني الأصل،ثيودور كاليفاتيدس: مأساة المهاجر أنه يحنُّ باستمرار إلى العدم. يحنُّ إلى أشخاصٍ قد تغيروا، وإلى أماكن قد تغيرت. ولكن مأساتنا، نحن السوريين، أقسى وأشد، فنحن نحنُّ إلى أماكن لم تعد موجودة، وإلى أشخاصٍ نبلاء باتوا في العالم الآخر.
عندما يبكي المفكر فذلك يعني أن المأساة قد بلغت الذروة..
عندما يبكي من بيده الشعلة،ومن ينتظر الناس كلمته فذلك يعني أننا في حال من العجز والضياع تستحق الرثاء.
ماذا يعني أنْ يذرف قامة كالمفكّر العربي السّوري طيب تيزيني الدمع،وتنحبس الكلمات في حلْقه من قبْل أنْ ينبس ولو بحرف واحد؟
ذُهلتُ وأنا أراه يُخفي بكفّيْه وجْهه ُالغارق في العبرات،كأنّي أُشاهد لحظة تراجيدية بامتياز،لا شيء حاضر في تلك اللّحظة البارقة، سوى عبثية المشهد الذي نعيشه،بشاعته،ووحشيته،فاقت تصورات هذا المفكر المسافر عبر الغيوم الذي قد يختلف الكثير معه في زاوية نظره التي تعتمد الجدلية المادية الماركسية، في مساءلته واستنطاقه للتراث والتاريخ.
بالأمس البعيد،كنت أراه،يقول بوجه غائم: ما كتبته طيلة حياتي في حاجة إلى إعادة مراجعة،أمام ما نعيشه اليوم من هوْل الفاجعة: نعيش زمن المابعديات: ما بعد الحداثة،ما بعد الأخلاق، ما بعد الإنسان..
يغرقُ تيزيني في نحيب شفيف،وهو يصف المشهد المأساوي قائلا: هذا النظام العالمي الجديد،ابتلع الطبيعة والبشر،هضمهما، لإخراجهما سلعا. هكذا، كلما ارتفعت قيمة الأشياء، هبطت قيمة الإنسان: قيَمه وإنسانيته،مقابل هيمنة المال والسلاح مع تفكك وتفقير مرعب لما يسميه بالحامل الاجتماعي ويقصد الطبقة الوسطى.
يغرق تيزيني الإنسان مرّة أخرى،في بكائيات: تسارع الواقع وبشاعته ومشهديات الدم والعنف فاقت توقعاته، وأربكت كل المسلمات..!
كنت أتفحّصُه وأرقب كل تحركاته،مرة بقلب الشاعر ومرّة بعقل الدارس والمهتم بمشاريع التحديث العربي، كنت دائما على يقين، أننا شعوب مصدومة، تأخذنا الفجيعة على حين غرّة: حملة بونابرت على مصر كانت بمثابة الصّدمة التي حرّكت السواكن،منها انطلق السؤال:
لماذا تقدّم الغرب وتأخّرنا؟
ومنذ ذلك الوقت،ونحن نراوح مكاننا،ولا إجابة قاطعة،الصّدمات تلو الصدمات..!
ليس أكثرها قتامة،هذا التبشير بزمن وحشية الإنسان الذي نعيشه الآن..
كنتُ ذاهبا،وفي رأسي قرْقعة،كنتُ مصرّا لرمْيها في وجهه دفعة واحدة، يُجيبني،أنا المُطّلع على فكْره،وفكْر مرُوّه-1-، والجابري-2-، قارئ جيّد لروّاد الإصلاح: الطهطاوي، الكواكبي، خير الدين التونسي وغيرهم:
ماذا بعد؟ وأيّ وجاهة لطرح مسألة التراث اليوم والوقوف على تأويل النص الديني في واقع متسارع،يصنع تأويله الاجتهادي لحظة قطْعه للرؤوس..؟!
إلا أني تراجعت أمام ذهوله الذي فاق ذهولي من الواقع.
اقتربت منه وحدثته عن الشعر وشفافيته فأبتسم وجهه من وراء غيمة بكاء،سارعتُ لالتقاطها في صورة!
يا قلبي الحزينُ..خفّف من روْعكَ قليلا..!
بالأمس(2019) ترجل أحد أهم مفكري سوريا والعالم العربي ليلحق بركب زملائه الذين جمعتهم دمشق يوماً،وفي لحظة هاربة من زمن منفلت من العقال،وغادروا الحياة تباعاً صادق جلال العظم وجورج طرابيشي..
لقد كان المفكر السوري الراحل أنموذجا للمثقف الطليعي،المشدود إلى القضايا العربية والوطنية،الثابت على الالمبادئ ،القوّال للحق، يوظف كل ما أوتي من عمق فكري،وثقافة تاريخية،وتجربة ناضجة في الدفاع عن القضية الفلسطينية التي كان يؤمن إيمانا عميقا بعدالتها،كما آمن فيما بعد بثورات”الربيع العربي”وتعاطف معها، ورأى فيها بريق الأمل، مع التزامه بمساحة الواقعية وحدود التحرك في هذا المجال.
فرحمة الله على فارس الفكر العربي،وأحد القامات العلمية الباسقة، والهامات الأكاديمية العربية المنيفة،المتوج إلى الأبد بنياشين منجزه المعرفي.وإذا كان جسده قد أوسد التراب يوم 17 من شهر ماي 2019،فإن فكره سيظل يقظا،معبئا،وحاضرا في كافة دروب المعرفة.
وداعا أيها الطيب..طيب تيزيني.
هوامش:
*الدكتور طيب تيزيني (10 أوت/آب 1934 – 18 ماي/أيار 2019) هو مفكر سوري من مواليد مدينة حمص، من أنصار الفكر القومي الماركسي،يعتمد على الجدلية التاريخية في مشروعه..
1-الدكتور حسين مروّة (1910 – 17 فيفري/شباط 1987) هو مفكر وفيلسوف وباحث،وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني سابقا قيادي شيوعي بارز في لبنان والعالم..
لقد كرست حياة الطيب تيزيني إنساناً فاعلاً ونشطاً محباً لبلده وأهله، خدم بإخلاص كأستاذ جامعي، واهتم كمفكر بمستقبل السوريين والعرب عبر البحث فيه، لكنه اهتم أكثر بواقع ما صار إليه السوريون في العقد الأخير من السنوات، ساعياً إلى وقف الدم، والوصول إلى حل سياسي، يخرج السوريين وبلدهم من الكارثة التي صاروا إليها.
تعرفت على الراحل كعاشق لكتبه التي كانت ولا تزال يشار إليها بالبنان
2-محمد عابد الجابري (27 ديسمبر/كانون الأول 1935 بفكيك، الجهة الشرقية – 3 مايو/أيار 2010 في الدار البيضاء) مفكر وفيلسوف مغربي، له أكثر من 30 مؤلفا في قضايا الفكر المعاصر، أبرزها “نقد العقل العربي” الذي تمت ترجمته إلى عدة لغات أوروبية وشرقية، كرّمته اليونسكو لكونه “أحد أكبر المتخصصين في ابن رشد،إضافة إلى تميّزه بطريقة خاصة في الحوار”.