صالح عوض
أمد/ هل هي صحوة ضمير انتابت اوربا الرسمية التي صنعت الرواية الصهيونية فتنادت للاعتراف بدولة فلسطين؟ اليست هي التي انهمكت قرنا من الزمان في دعمها فمسحت اسم فلسطين من الخرائط وتعاملت مع الفلسطينيين على انهم كمّ بشري زائد و بلا وطن، وتعاملت مع كلمة فلسطين باعتبارها جريمة واجبة العقاب؟ فكم لاحقت اجهزة الامن الصهيونية بالتعاون مع الاجهزة المحلية الكتّاب والسياسيين الفلسطينيين وانصارهم، قتلا وطردا وتضييقا.. ذلك لان التعريف بالقضية الفلسطينية يندرج تحت عنوان معاداة السامية، وفي عواصم اوربا الشرقي منها والغربي اتخذ القرار الدولي باقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين في القلب من بلاد العرب لاهداف استراتيجية وتاريخية جوهرية.. فهل انتهت تلك الاهداف؟ ام هي خديعة جديدة يمارسها ساسة الغرب؟ لابد من التذكير بالقضية دوما وقراءة المشهد التاريخي كما هو دونما غفلة او تجمد.
النظام الدولي وفلسطين:
للمرة المليون لابد من التذكير بأن قضية فلسطين ليست فقط قضية تحرير وطني مع اهمية ذلك، فهي نتيجة لصراع تاريخي رفعت الرايات العدوانية فيه ضد الامة، وكل انتصار حققه المستعمرون مشرقا ومغربا كان يقربهم من القدس خطوات، صحيح هم لم يستهدفوا أمتنا فقط بل استهدفوا كل اشكال وكيانات النمط التقليدي”الامبراطوريات” في العالم، الامبراطورية الروسية واليابانية والالمانية والعثمانية ذلك لان كل من هذه الامبراطوريات كانت تعيش حالة اسستقلال اقتصادي مالا ونقدا فكان تدميرها يعني بوضوح تفكيك عناصر قوتها وتمدد قوة العملة العالمية تحت هيمنة صندوق النقد الدولي بالاضافة لتحكم المنظمات الدولية الناشئة عن النظام الدولي الجديد.. وجاءت الحربان العالميتان الاولى والثانية لترسم الخريطة السياسية والاوضاع القانونية وانماط النظام الدولي الجديد على انقاض عالم الامبراطوريات .. ولكن في هذه العملية الكبيرة والمركزة كانت عقبة خطيرة تهدد المشروع العالمي الجديد متمثلة في الكتلة الثالثة ومركزها العرب، فلقد كان سهلا عليهم ان يذيبوا الامبراطوريات الاخرى في منهجهم الاقتصادي وضماناته الثقافية والاعلامية، ولكن وجدوا انفسهم وبناء على تجارب الصراع التاريخي مع الامة أن الانكسار الذي قد يلحق بالعرب والمسلمين فترة من الزمن ليس الا مرحلة مؤقتة تنهض منه الامة متى توفرت على ظرف موات.. هم ادركوا من دراساتهم لتاريخ الصراع ان هذه الامة تكتنز قوة ذاتية اخلاقية وقيمية ومنهجية كافية تماما لاستعادة دورها التاريخي في الضد من مهج النظام الدولي وهيمنته.. فهنا كان عمل دهاقنة المشروع الاستعماري او بالاصح صناع النظام الدولي بعد اسقاط السلطنة العثمانية يتم على عدة مستويات.. كان قيام الكيان الصهيوني في القلب من العرب مرفوقا بانجازات عديدة في الوطن العربي والعالم الاسلامي سلكت مناح عدة منها التغريب والعلمنة والهجوم المركز على منهج الامة الخاص وثقافتها وشريعتها واستبدال ذلك او محاولة استبداله جزئيا وتحطيم منهج التعليم الخاص وتحطيم انماط الاقتصاد الخاص وربط ذلك كله بما يتم توريده لنا بالقوة حينا وبالخديعة احيانا فاصبحت التبعية ليست فقط اقتصادية انما ثقافية ومنهجية وسياسية وفي هذا المجال لم ينج أصحاب أي ايديولوجية من التأثر بروحية المنهج الغربي شكلا أو مضمونا أو كليهما معا وهكذا استطاع المخططون الكبار انجاز خططهم بصرفنا عن انفسنا ومقدسنا وقيمنا الخاصة التي هي الكفيل بايقافنا في الضد من منهجهم المادي الاستحواذي الاستعبادي.. فأصبحت الاوضاع السائدة في الوطن العربي والعالم الاسلامي على صعيد النخب السياسية والثقافية أكبر ضامن ولو مرحليا لسلامة الكيان الغريب المقام في أرض فلسطين، ولا يقف الامر عند هذا الحد، بمعنى لم يقف هذا التخريب والاستبدال والاستعباد في القارة الاسلامية انما ساد الارض جميعا بما فيه العالم الحر لاسيما الولايات المتحدة الامريكية حيث يتم تنفيذ اخطر عملية استعباد للبشرية بثنائية الشركة والبنك وتحويل البشر الات في عجلة اقتصاد تهيمن عليه عدة عائلات في العالم.. ولكن مع هذا السرد السريع يجب التركيز انه في هذه الهجمة المنظمة والتي حققت انتصارات كبيرة في خلق عالم جديد يحتكم لقوانينها ومعاييرها وهي تبث اعلامها وثقافتها من خلال جيوش مجندة من الاعلاميين والمثقفين والكتاب ومراكز الابحاث، وكذلك بجيوشها وقنابلها.. ومع هذا فلقد وجب التركيز ان اكثر المواقع حساسية في الصراع الكوني هو فلسطين لاسباب ذكرناها فيما سبق واعادة الاشارة اليها ضروري تماما حيث ان فلسطين درة الاسلام وتاج العرب الروحي والمعنوي وان العرب والمسلمين هم الكتلة المخيفة والخطرة على هيمنة المنهج المادي الاستعبادي وسيطرته على العالم، المسألة هنا لاتتقيد بحجم الامكانات والثروات والقدرات المالية لدى العرب والمسلمين فهذه الثروات لاقيمة لها ولا مهمة انسانية ان لم يتم اخضاعها لمهج انساني تحرري كريم يواجه باقتدار الاستعباد والهيمنة الشيطانية على عباد الله وتكشف خيوط الفضيحة الكبرى والجريمة المركبة التي تستهدف الانسان في كرامته وحريته بعد ان تم تحويله الى كتلة تتحرك وفق غرائزها الدنيا وحاجاتها الاولية وحرمانها من حياة تحقق الامن الاجتماعي والاسري، وبعد ذلك تجري تلك العصابة المتحكمة تجاربها ومخططاتها لتقليص البشر بالحروب والاوبئة ولقد تجارأوا بالاعلان عن اهدافهم امام الملأ.. من هنا يستشعر الحكام الفعليون خطوة التمرد على منهجهم ويدركون الان تماما بان فلسطين هي من يحمل مشعل التثوير بما تمثله من قيم وكرامة وايمان ضد خلاصة الشر والجريمة والتوحش التي هي تقوم بالنيابة عنهم في استنزاف محاولات العرب والمسلمين، انها تداخلات المحلي بالاقليمي بالدولي كما لم تتم في أي قضية اخرى.. قد يكون احرار امريكا من شباب ومفكرين ومثقفين وسياسيين هم الاكثر انتباها لهذه المسألة عندما تكرر على لسان العديد منهم: “ان غزة تحررنا”.. ومن هنا بالضبط ندرك صعوبة المسألة بشكل استثنائي.
انهم لم ينشئوا الكيان المشوه الغريب وينصرفوا بل رافقوه طيلة العقود الثمانية، وزودوه بكل عناصر التفوق الاستراتيجي على كل المنطقة النووي وانواع الذخائر والطيران الحربي، وضمنوا له وضعا دوليا مريحا حيث زجوا بكل حلفائهم للتعاون مع هذا الكيان ولم يستثن موقع مهم اقتصادي او اكاديمي او اعلامي من هذا السياق.. الان تتداعى الدول الاوربية الى الاعتراف بدولة فلسطين فماذا يعني ذلك؟ هل انتهت المصالح الغربية في بلادنا واصبح من الطبيعي التخلي ولو جزئيا عن وظيفة الكيان الصهيوني؟ أم أن هناك أمر أخر؟.. الامر ليس جديدا وهو ليس الا صدى لما يدور في قطاع غزة وكل فلسطين من مجازر رهيبة ومن مقاومة مستمية.. كيف نفهم سياق هذا الالتفات الاوربي رسميا، والى اين يمكن وصول هذا المسار؟
الدولة الحلقة المفقودة:
في نوفمبر 1988 اعلن الفلسطينيون في مؤتمر مجلسهم الوطني بالجزائر قيام دولة فلسطين على الارض الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.. لم تكن هذه هي المحاولة الاولى فلقد سبقهم الحاج امين الحسيني باعلان حكومة عموم فلسطين بعد النكبة وكان يومها هناك ارض الضفة الغربية وقطاع غزة لم يطالهما الاحتلال بعد الا ان الدول العربية تآمرت على المجلس التشريعي وعلى حكومة عموم فلسطين واسقطوها وتم نفي الحاج امين الحسيني الاختياري الى لبنان.. وفي هذه المرة لم يصمد الفلسطينيون كثيرا حول ما اعلنوا عنه وكانت اهميته قصوى فلقد اكد لي السيد عبدالحميد مهري ان سر الاعلان عن دولة انما هو لكي يضع الفلسطينيون ارضية ثابتة للتفاوض مع العدو وانه ينبغي ان ينطلق الفلسطينيون من ذلك الا ان الخطيئة السياسية التي جلبها اتفاق اوسلو تمثلت في تجاوزها لموضوع الدولة بحيث اعترفت المنظمة بدولة اسرائيل في حين اعترفت اسرائيل بالمنظمة وهذا ما اقره وزير خارجية النرويج امس عند اعلان بلاده الاعتراف حيث قال: لو اننا اعترفنا بدولة فلسطين مع انطلاق عملية اوسلو لتجنبنا كل هذه المجازر.. وكان الجزء الاخرمن الخطئية انه لم يوضع حد للاستيطان بل اطلق العنان له حيث تضاعف عشرات المرات.. اضاع الفلسطينيون فرصة الوقوف على ارضية سياسية ثابتة بان يتفاوضوا على ارضية وجود دولة فلسطين وان يلجموا الاستيطان فكانت الاتفاقية المهزلة الفخ الذي فتح ابواب القتل والبطش امام الشعب الفلسطيني.
التصحيح التاريخي:
لقد كان 7 اكتوبر المجيد هو الفعل الحضاري التاريخي الذي صحح مسار الكفاح الفلسطيني، فبعد ان اصبحت القضية الفلسطينية في رفوف التاريخ بلا أي اهتمام دولي واقليمي وبعد ان انهارت المنطقة وهرولت لفتح الحدود كلها مع الكيان الصهيوني، وبعد ان اصبح الجهد الفلسطيني مضيعة وقت انتظارا لمفاوضات تستدعي مفاوضات بلا أي تقدم.. وقد استقر في ذهن الكيان وقادته وحلفائه ان المسألة فقط تحتاج قليلا من السنين لطرد الفلسطينيين وتحويل فلسطين الى دولة يهودية عنصرية.. جاء السابع من اكتوبر صاعقة عاصفة قدرا ليبعثر كل الاوراق والخرائط ويتجاوز الجميع.
7 اكتوبر ملحمة الشعب الفلسطيني التي اعادت القضية الفلسطينية الى وضعها الطبيعي انها قضية انسانية بامتياز.. وجاءت الاشهر السبعة بعد ذلك لتؤكد ان هذا الشعب العظيم المبدع قد صمد امام المحرقة وانه دخل النار الجنونية التي اشعلتها عصابات الصهاينة بسلاح وذخائر امريكية وغير امريكية ولكن لم يتخل عن المقاومة ولم يرفع راية الانكسار امام ما يجري من قتل بالجملة وامام الابادة الجماعية.. فكان الفعل وردات الفعل مدعاة حقيقية للجميع ان ينتبهوا الى هنا.. فهنا سلاح امريكي وهنا مشاركة من كل اصحاب المال العالميين حتى من مراكز علمية ومواقع محترمة كلهم مشتركون في الجريمة التاريخية حتى الرائب تؤخذ من جيوب العاملين المستعبدين في الولايات المتحدة لترسل قنابل تقتل الاف الاطفال والنساء.
انتفض الضمير الانساني والعقل الحر في كثير من دول العالم لاسيما امريكا ووجدت كثير من الحكومات نفسها في حرج كبير وهي ترى ان الكيان الصهيوني يتجاوز خطوط الخطر بعنجهية وعنصرية فاقعة، ويمارس استفزازا كبيرا للمنطقة كما نرى صداه المدوي في العراق ولبنان واليمن واحتمال تحركات قادمة من عواصم عربية واسلامية عديدة، كما أنه في العالم قد تقود التحركات الشعبية والطلابية الى ثورة طلابية لا تتوقف في جامعات الغرب..
لقد كان السابع من اكتوبر المجيد بداية حقيقية لاستعادة القضية الفلسطينية ألقها وكل ما سيأتي بعده سيكون لصالح الشعب الفلسطيني وستكون الدولة الفلسطينية على مرمى حجر كما ان الشعب الفلسطيني المبدع سيعرف كيف يكمل مشواره بدعم من شرفاء العرب والمسلمين واحرار العالم لاسترداد فلسطين من نهرها لبحرها وحينذاك سيكون اعلان انتصار كبير للامة ولاحرار العالم.. والله غالب على أمره.