د.عقل صلاح
أمد/ إن الفرص السياسية ليست ثابتة، وإنما تختلف من دولة إلى أخرى، ومن حزب إلى آخر، إضافة إلى أنها لا تمتلك نفس الأهمية للدول أو الأحزاب، وإنما تختلف وفقًا لخصائص تلك الدول أو الأحزاب، وقد تختلف من وقت لآخر حتى للدولة والحزب نفسه. إلا أن الفرصة السياسية لا ترتبط بخصائص الدولة فقط، وإنما ترتبط بالإطار الدولي والسياق البيئي المحيط بها، والتحالفات الدولية، وتحيز الدولة لدولة معينة، ومدى انفتاح النظام السياسي أو انغلاقه.
إن حركة حماس معرضة للتغيير في أساليبها من وقت لآخر، نتيجة للتغير في العملية السياسية، فقد استخدمت طريق طوفان الأقصى، كرد فعل على تغير فرصها السياسية. وبالتالي يمكن اعتبار حركة حماس حركة تأثير وتأثر في نفس الوقت، فهي إما أن تقوم بالتأثير وتغيير هيكل الفرص لصالحها أو أن تتأثر بالتغيير، وتتغير بناءً عليه.
وبناء عليه، لم يكن أمام حركة حماس كما قيل فرصة سياسية لكي تنتهزها، فالحصار الإسرائيلي المطبق على القطاع وانغلاق الفرص السياسية أمام حركة حماس وضعها أمام خيار السابع من أكتوبر، المتمثل في الطوفان، فهي الفرصة الوحيدة التي كانت متاحة حينها أمام القائد الثوري يحي السنوار، وهي التي أبدع في استغلالها وغير عبرها الموقف الدولي لصالح القضية الفلسطينية. فالفرص السياسية أمام القضية الفلسطينية مازالت تتسع خلال الحرب المستمرة على القطاع، في الوقت الذي مازالت تضيق فيه أمام إسرائيل. وفي النهاية الفرصة التي تحدث عنها البعض بأن السنوار برفضه التعاطي مع الحل السياسي والموافقة على ما يسمى بشروط الرباعية الدولية، لم تكن فرصة حقيقية للفلسطينيين بإنهاء الممارسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني وفك الحصار عن القطاع وإطلاق سراح أكثر من 500 أسير محكوم مدى الحياة “الأسرى المؤبدات”، وإنما كانت في الحقيقة فرصة ثمينة لإسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، وبالتحديد على القطاع المحاصر منذ عقدين تقريبًا. فهذه النافذة أغلقها القائد السنوار وبالتالي أغلق الفرصة أمام إسرائيل، وفتح الفرصة لعودة العمل المقاوم للواجهة من جديد، وأكد أنه يمكن هزيمة إسرائيل وأن فلسطين لا يمكن تهميشها ولا يمكن تصفية القضية الفلسطينية، وأثبت أن الحل هو رحيل الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، ووجه ضربة قوية لأمريكا التي كانت تنوي تصفية القضية الفلسطينية من خلال التطبيع العربي الإسرائيلي قبل تنفيذ حل عادل للقضية الفلسطينية، وفضح الكذب الأمريكي المتواصل الذي يدعي وقوفه مع إقامة الدولة الفلسطينية، وانفضحت الوعود الأمريكية منذ أوسلو وحتى اليوم بالحل السياسي والاعتراف بالدولة الفلسطينية، فكانت أمريكا صادقة فقط في الاستمرار باستخدام الفيتو أربع مرات منذ السابع من أكتوبر وآخرها ضد العضوية الكاملة لفلسطين في مجلس الأمن وغيرها من الأحداث والمواقف التي أحبطتها الولايات المتحدة من خلال الفيتو الأمريكي المتواصل ضد فلسطين.
فهيكل الفرص السياسية لطوفان الأقصى منح القضية الفلسطينية الفرصة السياسية التاريخية ولأول مرة من خلال قرار إسبانيا والنرويج وأيرلندا الاعتراف رسميًا بالدولة الفلسطينية، الذي سيدخل حيز التنفيذ في 28 أيار/مايو الجاري، وستحذو العديد من الدول نفس الطريق بعد وصولهم لقناعة أن الحرب الدائرة أثبتت أن الحل الوحيد بإقامة الدولة الفلسطينية وتطبيق القانون الدولي تجاه القضية الفلسطينية وهذا يؤكد أنه هناك تغيير في المواقف الدولية تجاه القضية الفلسطينية؛ وهذا لا يرضي إسرائيل وأمريكا التي تعترض على كل ما يمنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة ويكشف أن كل المفاوضات السابقة كانت مضيعة للوقت.
على الرغم من الخسائر البشرية والجغرافية الفادحة التي تكبدها الشعب الفلسطيني وبالتحديد في قطاع غزة؛ إلا أن حركة حماس من خلال طوفان الأقصى استطاعت أن توسع نافذة الفرص السياسية للقضية الفلسطينية لأول مرة بالتاريخ على المستوى الدولي، حيث حظيت القضية الفلسطينية بتأييد منقطع النظير، ولأول مرة إسرائيل منذ تأسيسها تقف أمام المحاكم الدولية، حيث قدمت جنوب أفريقيا دعوى قضائيّة ضد إسرائيل يُطلق عليها رسميًا تطبيق اتفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعيّة والمعاقبة عليها في غزة، وأبدعت جنوب أفريقيا خلال المرافعات الموضوعية والقوية بإدانة إسرائيل، وتتالت الهزائم الدبلوماسية لإسرائيل من خلال المحكمة الجنائية الدولية ولأول مرة في تاريخ هذه الدولة التي تعتبر نفسها فوق القانون، حيث تم إصدار مذكرات اعتقال من المحكمة بحق مسؤولين كبار في إسرائيل بسبب الحرب على غزة، وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قبل رئيس الهرم السياسي الإسرائيلي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ورئيس الهرم العسكري وزير الحرب يوآف غالانت، وهذا سيمنعهم من السفر إلى 123 دولة موقعة على إعلان روما المؤسس للمحكمة، ولا العبور فوق أجوائها. وتوالت الصفعات لإسرائيل فقد أصدرت محكمة العدل الدولية في 24أيار/مايو 2024، قرارًا يلزم إسرائيل بوقف اجتياح رفح، وفتح كل المعابر البرية للقطاع.
فالسابع من أكتوبر فتح نافذة الفرص السياسية أمام القضية الفلسطينية لتحقيق ما عجزت عنه جميع مراحل المفاوضات التي استمرت لأكثر من ثلاثة عقود مثل الاعتراف من قبل بعض الدول المهمة في الدولة الفلسطينية، كما استطاع طوفان الأقصى إغلاق نافذة الفرص أمام كل من إسرائيل والولايات المتحدة اللتان أغلقتا نوافذ الفرص السياسية أمام الاعتراف الدولي في الدولة الفلسطينية، فقد حقق الطوفان الانتصار للقضية الفلسطينية وكل ما فعلته إسرائيل من قتل وإبادة وهدم وتجويع عاد عليها في الإدانة العالمية لها ولحليفتها الولايات المتحدة، حيث كشف الطوفان المواقف وفضح صورة أمريكا وإسرائيل وزاد من الضغط الدولي من أجل إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. فقد أعلنت صحيفة يديعوت أحرونوت في 22أيار/مايو 2024، أن إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة الأمريكية الضغط على عدد من الدول لعدم الاعتراف في الدولة الفلسطينية، وهذا يؤكد أن الإدارة الأمريكية أداة بيد إسرائيل. بالإضافة للقيام بشراء الوقت لضم الضفة من خلال الاستيطان الجنوني، ولعل قرار عودة المستوطنات الأربع في شمال الضفة الغربية في 22أيار/مايو 2024، التي تم تفكيكها عام 2005، ضمن خطة فك الارتباط الأحادية الإسرائيلية من قبل رئيس الوزراء الأسبق أرئيل شارون، وقرار وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بطلب المصادقة على عشرات الآلاف من الوحدات الاستيطانية وتشريع البؤر الاستيطانية يؤكد أن إسرائيل لا تريد الحلول السياسية والسلمية بسبب الدعم الأمريكي الدائم لها.
وبعد فشل الراعي الأمريكي منذ مؤتمر مدريد مرورًا في اتفاقية أوسلو وصولًا لقمة كامب ديفيد وانتهائها بالتطبيع العربي الإسرائيلي بخلق الفرصة السياسية التي تمنتها إسرائيل، قام بفرض محددات وعقوبات وحصار للقطاع وتهويد للقدس وضم للضفة الغربية من خلال زيادة حدة الاستيطان، وبعد حوالي ثلاثة عقود على اتفاقية أوسلو قامت الإدارة الأمريكية ممثلة بالرئيس دونالد بترامب ومن ثم إدارة الرئيس جو بايدن الذي استطاع تهميش القضية الفلسطينية دوليًا والمضي في سياسة ترامب بتطبيق ما عجزت عنه إسرائيل في كل الاتفاقيات السابقة دون الأخذ بعين الاعتبار الموقف الفلسطيني. وهذا ما يؤكد ويثبت صحة الموقف الذي اتخذه السنوار، فالفرصة السياسية كانت متاحة لإسرائيل فقط قبل السابع من أكتوبر في حال لم يقدم السنوار على السابع من أكتوبر لأنهت إسرائيل القضية الفلسطينية.
وفي العودة لدعاة مقولة أن السنوار أضاع ما يسمونه بالفرصة السياسية في السلام ومنهم من يتغول في كيل الاتهام للقائد الثوري السنوار بأنه دمر القطاع والقضية الفلسطينية، فصفقة القرن في نظرهم فرصة سياسية للفلسطينيين، وبقاء القطاع محاصر لعقدين وضم الضفة والتعايش مع الاحتلال والسلام الاقتصادي هو في نظرهم فرصة سياسية، ورفضها من قبل السنوار يعني إضاعة فرصة سياسية أخرى. فهل يعني التنازل عن الحقوق والثوابت الوطنية وحرية الأسرى الذين مضى على اعتقالهم أكثر من ثلاثة عقود، واستشهاد أكثر من 250 أسير منذ سنة 1967 في السجون الإسرائيلية وتهويد القدس فرصة للفلسطينيين أم هي فرصة حقيقية لإسرائيل وأمريكا في تصفية القضية الفلسطينية، وخلاصة القول، أنه منذ أوسلو وحتى اليوم لم يكن أمام الفلسطينيين في المفاوضات أي فرص سياسية متاحة لكي يقتنصوها.
فهيكل الفرص السياسية للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والبعض العربي يوضح بجلاء أن الفرص السياسية التي كانت متاحة في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون وباراك أوباما ودونالد ترامب المتمثلة في “الحل السياسي” هي نفسها الفرص السياسية المتاحة في عهد الرئيس الحالي بايدن ونتياهو “الوعود الكاذبة” والتي تهدف إلى تصفية قضايا الحل النهائي التي تم تأجيلها في مباحثات أوسلو.
ولا يفوتنا أن ننوه بهذا الخصوص إلى ما يؤكده تصريح للراحل الدكتور صائب عريقات في 20كانون أول/ديسمبر2018، لخص فيه المشروع الإسرائيلي حيث قال “أن نتنياهو لا يريد دولة فلسطينية، ويريد سلطة بدون سلطة واحتلالا بدون كلفة، وفصل القطاع عن الضفة”. وهذا ما صرح به قبل شهر نتنياهو بقوله إنه هو من منع إقامة دولة فلسطينية وسيمنع إقامتها وهو الوحيد القادر على ذلك، حيث قال لن نسمح لهم بإقامة دولة، وفي 22أيار/مايو 2024 قال نتنياهو في بيان ردًا على القرار الثلاثي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية “هذه ستكون دولة إرهابية وهذه مكافأة للإرهاب، وهذا لن نوافق عليه”، هذا يثبت أن جميع المفاوضات والاتفاقيات لم تكن فرصة للفلسطينيين وإنما كانت فرصة سياسية ذهبية لإسرائيل في إنهاء ملف القضايا الجوهرية والمتمثلة في القدس واللاجئين والحدود والمياه وغيرها من القضايا التي تم ترحيلها إبان التوقيع على اتفاقية أوسلو. كل ذلك يؤكد أن جميع نوافذ الفرص السياسية تم إغلاقها أمام الفلسطينيين، مما دفع بالسنوار وقيادة المقاومة في الإبداع بفتح النوافذ السياسية من خلال إعادة القضية الفلسطينية إلى نقطة الصفر، وكل ذلك من خلال القتال الأسطوري المتواصل منذ ثمانية أشهر الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى الطاولة الدولية، وفضح السياسة الأمريكية التي تدعم القتل والاحتلال؛ فهذه الشهور الثمانية من الصمود والقتال تعادل الثمانية عقود التي مرت على القضية الفلسطينية من حيث السياسة والعمل الفدائي.
وفي النهاية، تؤكد الأحداث والمعطيات والمواقف منذ اتفاقية أوسلو وحتى الإعلان الأمريكي بالدعم المطلق والأعمى لإسرائيل في حربها الإرهابية على غزة والقضية الفلسطينية على الوعود الأمريكية الكاذبة بإقامة الدولة الفلسطينية التي تم تحديدها بعام 2005 لإقامة الدولة، وأن التنصل الأمريكي واستخدام الفيتو يؤكد أن كل تصريحات القادة الأمريكيين هي التفاف على الصمود وعلى التضحيات الفلسطينية لكي يقطفوا لإسرائيل ما لم تستطع قطفه في الحرب من خلال السياسة، وهذا يؤكد بأنه لم يكن هناك فرصة سياسية لكي تقتنصها قيادة المقاومة الفلسطينية ممثلة بالسنوار، الذي ادعى البعض بأنها فرص سياسية.