مصطفى النبيه
أمد/ أحلم أن نعيش بسلام، أن ننام بدون خوف أن نشرب ماء نظيف وطعام غير ملوث، أن نخرج من مملكة المعلبات أن نتحرر من ثقافة الموت ونعيش بسلام أنا وعائلتي الصغيرة .
كرهنا أن نحيا في مزرعة الأجساد وأن نكون قرابين. منذ بداية الحرب يراودني مليون سؤال، أيعقل أننا خلقنا لنموت ؟
إلى متى ستبقى أجسادنا مصعداً ؟
هل كتب علينا أن نكون مجرد وقود للمحرقة؟
أشعر بالغبن والقهر وأنا عاجز عن حماية أسرتي وعدم توفير الحماية لهم والنار تأكل الأخضر واليابس في جحيم غزة.. أقف مكسورًا وأنا أراقب خروج الآلاف من المواطنين أصحاب النفوذ وكأنهم في نزهة ونحن أبناء الطبقةً المتوسطة والفقيرة ننتظر موتًا مؤجلًا أعد لنا سلفًا .. أكره هذا الشعور المرعب المخيف.
اسمي مصطفى النبيه، كاتبًا ومخرجًا ، كنت أعيش في مدينة غزة حي النصر كان بيتي كبيرًا جميلًا به كل وسائل الراحة وكان الحي الذي أسكن به حي حيوي مليء بالمحلات ووسائل الترفيه .. ثم أتت الحرب عاصفة قوية اقتلعتنا من بيتنا وحينا ومدينتنا لتلقي بنا من نزوح إلى نزوح ثم نزوح آخر حتى وصلنا أخيرا إلى حدود رفح وعشت الكابوس الأعظم، أنا الآن يا سادة أعيش بخيمة غرب مدينة رفح ، أمامي الحدود المصرية أنظر إليها وأتشوق للحرية فهي بالنسبة لنا طوق النجاة. خلفي وحولي المقابر التي تحمل الوجع ..
في الليل تكسر العتمة الأضواء القادمة من الجانب المصري وفي الصباح نشعر بالحسرة والغربة ونحن نسمع النواح و الصراخ ونصغي لبكاء أهالي الضحايا الأبرياء القادمة من المقابر.
تغيرت ثقافتنا واختلطت مع تفاصيل الموت، تناسوا أولادي الأربعة ثقافتهم وطبيعة حياتهم مرغمين ،سرقتهم الحرب ،فمسحت من رؤوسهم معنى الحياة و أنهم كانوا يعيشون بسلام وأمان ، أصبحوا حفاة كأنهم بالعصور الوسطى يصارعون من أجل البقاء ..
ابني محمد الفتى المتفوق بدراسته .. الثالث على قطاع غزة …الملقب بالعبقري كانت أحلامه كبيرة ، حلم أن ينهي الثانوية العامة ويلتحق بجامعة خارج سجن قطاع غزة و أنا وأمه الروائية ديانا الشناوي شعرنا بالفرح واجتهدنا لنوفر له كل وسائل الراحة حتى يتفوق ويلتحق بأفضل الجامعات
لكن يا خسارة ضاعت السنة الدراسية مثلما ضاعت حياتنا، رغم أنني اجتهدت كي أخرجه من غزة ليواصل تعليمه وبحثت عن أكثر من طريقة ليدرس في مصر وللأسف فشلت.
ابني محمد الآن مريض محبط ،أصابته ضربة شمس ويعاني ارتفاع بدرجة الحرارة لأنه لم يستطع تحمل شمس الصحراء والسوافي الرملية البعيدة عن أي عمار والآن هو طريح الفراش وابني الكبير أحمد مصاب بمرض الكبد الوبائي ويتألم ويعاني وابني محمود نسى نفسه وانشغل بالبحث عن الحطب والماء ليساهم بمساندة العائلة وابني الصغير يوسف هوايته الرسم مازال يرسم رسومات تدعو للمحبة ، عبارة عن صواريخ من الورود تنفجر وتنتشر ويكتب أسفلها للعالم، نحن نحبكم فاغيثونا. أما زوجتي فهي لا زالت تصحو كل يوم وتتسائل هل ما يحدث حقيقة أم أننا نعيش كابوس طويل وتلح كي نجد طريقة ما للخروج من هذا المستنقع
ماذا أقول ؟ غرقنا بوحل الأمراض ونجتهد كي لا نغرق في حالة الإكتئاب التي تطاردنا بجنون.. حياتي أصبحت غريبة لا تشبهني … أعيش في خيمة حارة في النهار وكأنها جهنم وفي الليل باردة ترتعش أجسادنا التي تحاول استيعاب هذا الجو الغريب
أخرج كل يوم من خيمتي قبل شروق الشمس وأقف على بابها أتأمل المشهد أنظر أمامي وأقوم برفع القمامة التي ألقاها بعض المستهترين وأدفنها في حفرة حتى نحمي أنفسنا من الأمراض .. كما أقف ناطور لساعات لأراقب الناس الذين يلقون القمامة وأحاول توجيههم لآلية التخلص منها .. كي لا تحاصرنا الأمراض و تخنقنا الزبالة والروائح الكريهة المنتشرة بكثافة.
حياتنا تمر بمنحدرات صعبة، تجرنا للموت إن لم نمت من الحرب، فمن المؤكد أننا سنموت من الحر ومن الذباب والزواحف والبعوض ومن تلوث الطعام والمياه ، نموت من الحسرة لشعورنا بالعجز لعدم قدرتنا على حماية أولادنا بعد أن تحولوا لمتسولين أمام عربة المياه الملوثة والطعام الذي يغذي الجسم بالأمراض ،نجتهد لنغتسل بقليل من الماء “إن توفر”حتى نحمي أنفسنا من كوابيس الجرب والأمراض الجلدية. نحن نعيش خارج سياق الحياة
أصعب شيء في الكون عندما يصبح أقصى طموحك النوم بأمان، أستمع للأخبار كل يوم على أمل سماع خبر انتهاء الحرب ولكنها تطول وتطول ونغرق في وحل الاكتئاب وتغير الحال … في عقلي سؤال يتردد كل دقيقة متى سينتهي هذا الكابوس وأعود للعيش أنا وأسرتي حياة طبيعية بعد أن فقدت الأمان والبيت . نزحنا من غزة إلى النصيرات إلى خانيونس تحت وقع الانفجارات والصواريخ وقنابل الفسفور .. البيوت حولنا تحولت لركام الشوارع بلا ملامح … الجثث تملأ الطرقات… وصلنا إلى الحدود المصرية حتى نحمي أسرتنا ونوفر لها الأمان، وصلت عاريًا منتهك خارجيًا وداخليًا… واليوم أحلم أن تغمض عيني وأستيقظ على واقع آخر يحترم إنسانيتي ،ونتحرر من ثقافة الموت ومن ثقافة أسياد وعبيد
ماذا أقول ؟ غرقنا بوحل الأمراض الاجتماعية والنفسية ونجتهد لنبقى على قيد الحياة
الموت يحيط بنا ونحن الآن ننتظر حربا جديدة على آخر منفذ لنا وهي الحدود المصرية فإلى أين نتجه؟ نهرب من موت إلى موت ونحن ضحايا ما يحدث
حاولت أن أترجم هذا الوجع والنزيف الذي لا يندمل من خلال فيلم ” قرابين” الذي يوثق كافة تفاصيل المعاناة ويحمل رسالة على لسان الروائية ديانا الشناوي وهي ترفض أن نكون قرابين الإله وترفض أن نكون مجرد أرقام وتصرخ بالعالم وتقول نحن بشر لنا حكايتنا وذكرياتنا لنا أحلامنا وما نحب وما نكره ، نحن أحرارًا لسنا عبيدًا ولا أرقاماً.. تنهض من الوجع رغم أنها فقدت أعزاء على قلبها وتقول:
الجميلات قرابين الاله ونحن قرابين العصر الجديد ثم تصرخ بأعلى صوتها وهي تقول:
أخرجنا يا الله من مزرعة الأجساد، نريد أن نعيش بسلام .
ونحن جميعًا نقول نريد أن نخرج من مزرعة الأجساد لنحيا بسل