مؤيد عفانة
أمد/ تعاني السلطة الوطنية الفلسطينية من أزمة مالية عميقة، هي الأشدّ منذ تأسيسها قبل ثلاثين عاماً، والأكثر تعقيداً، ولم تَعُد تُجدي نفعاً الحلول الفنية من أجل تدارك أو احتواء الأزمة، خاصّة مع انزلاق الأزمة المالية سياسياً، إن كان على مستوى مسبباتها، أو على مستوى الحلول المأمولة.
وصحيح أنّ الأزمة الماليّة ليست وليدة اللحظة، ولا طارئة، وهي قائمة من سنوات طويلة بسبب الخلل البنيويّ الهيكليّ في مبنى الموازنة العامة، وتحديداً الفجوة بين جانبي الإيرادات والنفقات، إلّا أنها، وبعد حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، أضحت عصيّة على الحلول الفنية، واستنفذت إمكانيات العلاجات المؤقتة، مما أدخل السلطة الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني ككل، في أزمة مالية، ارتدت بشكل عنيف على المشهد الاقتصادي والاجتماعي في فلسطين.
وهذا ما ورد في أحدث تقرير للبنك الدولي (أيّار 2024) حيث أشار إلى أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الثلاثة الماضية، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وقد نَضَبَت تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المُقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي، حيث فقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألف من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلي.
والجديد في الازمة المالية الحاليّة أن لا أفق لحلها أو التخفيف من أثارها، إلّا عبر الأفق السياسي، خاصّة وأن السبب الرئيس لتعمق الأزمة إجراءات دراماتيكية من قبل وزير المالية الإسرائيلي المتطرف “بتسلئيل سموتريتش”، تمثلت في حجز إسرائيل لكافّة إيرادات المقاصة عن شهر نيسان المنصرم، وليس فقط الأموال التي تكافئ مخصصات أسر الاسرى والشهداء، أو نفقات السلطة الفلسطينية على قطاع غزة، بل تم حجز كافّة الإيرادات المستحقة، حتى دون قرار من الكنيسيت الإسرائيلي أو مجلس الوزراء المصغر كما تم في الحجوزات السابقة، وفي ظل صمت عالمي عن هذه القرصنة الفجّة، ولا تبدو شهية ثلاثي الحكم المتطرف في إسرائيل (نتنياهو – سموتريتش- بن غفير) توقفت عند هذا الحد، بل توجد توجهات معلنة بإجهاض فكرة الدولة الفلسطينية، ومنع قيامها بشتى الطرق، ومن ضمنها الحصار المالي والاقتصادي، وتم انفاذ جزء من تلك التوجهات عبر حجز كامل لإيرادات المقاصّة، والتي تعتبر العمود الفقري للموازنة العامة في فلسطين، وتشكّل (68%) من اجمالي الإيرادات، وبالتالي فإن حجزها يعني انهيار للماليّة العامة، فالإيرادات المحلية لا تشكّل سوى (32%) من اجمالي الإيرادات العامة في أحسن أحوالها، وتراجعت بشكل حاد بسبب انكماش الدورة الاقتصادية، كما أن الدعم الخارجي للموازنة العامة في أدنى مستوياته، فشبكة الأمان العربية لم تقدم دولاراً واحدا للخزينة العامة منذ بدء الحرب، ومنذ سنوات طويلة أيضا، كما أن الدعم الخارجي من خلال الآلية الاوربية الفلسطينية المشتركة لتنسيق المساعدات “بيغاس”، أو البنك الدولي، وهو دعم مخصص، وله مسارات محددة، مثل عم مستشفيات القدس، أو قطاعات الصحة والتعليم، أو لرواتب التقاعدين، أو استكمال لمشاريع قائمة، ولا يوجد دعم أجنبي للخزينة العامة بشكل حر.
وبالتالي لا مناصّ أمام الحكومة الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، إلّا العمل بكل المسارات والاصعدة على جعل الملف الاقتصادي “ملف اشتباك” مع إسرائيل، إن كان على الصعيد الدبلوماسي الدولي، أو على صعيد دعوى قانونية عالمية على إسرائيل، أو على مستوى التحركات السياسية، واستخدام أدوات عمل وتأثير متعددة، وحشد الدعم الدولي والعربي من أجل وقف القرصنة الإسرائيلية للإيرادات الفلسطينية، والتفكير بمنحى “ثوري” في مواجهة قرصنة إسرائيل، من خلال العمل على التخلص من أغلال وقيود بروتكول باريس الاقتصادي، وعبر فض الغلاف الجمركي الموحد مع إسرائيل، والتوجه لأليات عمل جديدة بمساعدة دول عربية أو أجنبية.
كما توجد ضرورة الآن لزيادة الضغط على المجتمع الدولي في مؤتمر المانحين المنعقد هذه الايام في العاصمة البلجيكية بروكسيل، من أجل تقديم دعم مالي فوري للسلطة الفلسطينية، للوفاء بالحد الأدنى من التزاماتها، خاصة مع حالة الاحتقان الكبيرة في الشارع الفلسطيني، والذي يأنّ تحت ضغط الأزمة الماليّة غير المسبوقة.
أما على الصعيد الداخلي، فتوجد ضرورة أن يتقاسم عبء الأزمة الماليّة الكل الفلسطيني، وليس الموظف الحكومي أو العامل وحدهم، وتوجد ضرورة أن يبادر القطاع الخاص، والجامعات الفلسطينية والهيئات المحلية، وموردي الخدمات المختلفين، إلى التخفيف عن كاهل المواطنين، خاصّة الفئات الأكثر تضرراً، وأن تعمل الحكومة ضمن أولويات في إدارة المال العام، بما يضمن تقديم الخدمات الأساسية للفئات الفقيرة والمهمشة، كإجراءات داخلية، لحين احداث اختراق للمشهد السياسي والاقتصادي العام.