أسامة خليفة
أمد/ يحدث على أرض فلسطين حرب إسرائيلية شعواء على الصحافة الحرة ووكالات الأنباء، بالتصفية الجسدية للعاملين في الصحافة وبتدمير مقراتهم، ومصادرة أدواتهم، وإغلاق مكاتب الوكالات الإعلامية ومنعها من العمل والبث، وشرعنة إجراءات قمعية بقوانين جائرة غير ديمقراطية بحق حرية الصحافة.
وفق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة قتلت إسرائيل حتى منتصف فبراير/شباط الماضي 140 صحفياً في غزة لوحدها، أكد موقع ميديا بارت الفرنسي أنه «لم يحدث قط أن قُتل هذا العدد الكبير من الصحفيين في مثل هذا الوقت القصير، لا في الحربين العالميتين، ولا أثناء الحروب في فيتنام والبوسنة والعراق وأفغانستان، ولا حتى في أوكرانيا».
أثارت تغطية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ تشرين الأول / أكتوبر2023 مشكلات حقيقية للاحتلال الذي يحاول التغطية على جرائمه، واستهدافه المتعمد للمدنيين الفلسطينيين، فالتغطية الاعلامية فضحت الازدواجية الغربية المؤيدة لإسرائيل، وكشفت كذب الرواية الإسرائيلية على ما يجري في غزة، فقد درجت إسرائيل دائماً على محاولة طمس الحقائق، واختلاق سردية منافية للواقع، كتلك التي تزعم ذبح أطفال إسرائيليين واغتصاب نساء اسرائيليات في هجوم طوفان الأقصى على غلاف غزة، لتبرير ما تقترفه من جرائم غير مسبوقة في حربها على غزة، أكاذيب سادت ثم سرعان ما بادت بفضل الإعلام الحر والمهني الذي نجح في اثبات الحقائق على الأرض.
أقر وزراء الحكومة الإسرائيلية، الاثنين 12 شباط 2023، ما يعرف بـ«قانون الجزيرة» الذي يمنع بث أي جهة إعلام أجنبية إذا كان يضر بأمن إسرائيل، تشريع أقره الكنيست للتضييق على القنوات الأجنبية، وحتى قبل تمرير «قانون الجزيرة»، وقبل الحرب الحالية على غزة، مورست إجراءات قمعية وارتكبت عمليات اغتيال لإعلاميين في محاولة للحد من عمل وكالات الأنباء في تغطيتها جرائم الحرب الاسرائيلية في الضفة الغربية وغزة.
وقبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 كانت لجنة الحريات في نقابة الصحفيين الفلسطينيين قد وثقت مئات الاعتداءات ضد الصحفيين في الضفة الغربية بالضرب والسحل والاستهداف بالرصاص الحي والمطاطي، ووثقت اعتقال نحو 29 صحفياً فلسطينياً، من ضمن عمليات القتل بحق الإعلاميين والعاملين في مجال الصحافة يبرز استهداف مراسلة قناة الجزيرة الشهيدة شيرين أبو عاقلة من قبل قوات الاحتلال في 11 أيار / مايو 2022 أثناء تغطيتها اقتحام مخيم جنين، وصفت منظمات حقوقية دولية قتل الشهيدة شيرين أبو عاقلة بأنه «عملية اغتيال مدبرة». وكان قنّاصة جيش الاحتلال قد اغتالوا بشكل متعمَّد الصحفي الفلسطيني ياسر مرتجى أثناء تغطيته لاحتجاجات يوم الأرض في 6 نيسان/أبريل 2018، وقائمة استهدافات الإعلاميين تطول.
اغتيال إسرائيل الصحفيين والمراسلين والمصورين في قطاع غزة والضفة الغربية هو استهداف متعمد، ارتفعت وتيرته خلال عملية طوفان الأقصى، مما يجعل من فلسطين أحد أخطر بلدان العالم على سلامة الإعلاميين وحياتهم، منذ اليوم الأول للطوفان، تصاعدت عمليات استهداف الصحفيين والمصورين والمراسلين خلال تغطية الأحداث، أو في مكاتبهم ومقراتهم، لا بل لاحقتهم إلى أماكن سكناهم، وعمدت إلى استهداف أسرهم وأطفالهم، وقد دمرت طائرات الاحتلال الحربية الأبراج التي تضم مكاتب لوسائل إعلام، وشمل هذا الإجرام مختلف وكالات الأنباء دون استثناء في غزة، دمرت طائرات الاحتلال الحربية برج حجي، استشهد خلال هذه الغارة الجويّة الإسرائيلية عدد من الصحفيين. واستهدفت غارة جوية إسرائيلية مكاتب شبكة الجزيرة ووكالة «أسوشييتد برس» في غزة لإسكات صوت الحقيقة.
ومن ضمن هذه السياسة الإسرائيلية نحو وسائل الإعلام الاختفاء القسري، مثلما حصل للمصورين الصحفيَين اللذين مازالا مفقودَين في غزة، هيثم عبد الواحد «عين ميديا» ونضال الوحيدي من «وكالة نيوز برس الإخبارية».
«قانون الجزيرة» أو «قانون منع المس بأمن الدولة من قبل هيئة بث أجنبية»، قانون أقره الكنيست الإسرائيلي في القراءة الثالثة بأغلبية 70 صوتاً مقابل 10، في الأول من أبريل/نيسان 2024، هذا القانون يمنح رئيس الوزراء ووزير الاتصالات إمكانية حظر بث قناة، وإغلاق مكاتبها في إسرائيل، ومصادرة معداتها، منع بث تقارير القناة وإزالتها من شركات البث، وتقييد الوصول إلى موقعها الإلكتروني، بذريعة الإضرار بـ«أمن إسرائيل». وسيبقى القرار سارياً حتى 31 يوليو/تموز 2024 أو حتى نهاية العمليات العسكرية للاحتلال ضمن عدوانه «السيوف الحديدية» على قطاع غزة، وينص القانون على أن هذه الأوامر صالحة لـ«45» يوماً يمكن تجديدها لفترات أخرى، مدة كل منها «45» يوماً.
وعقب تصديق الكنيست على القانون كتب نتنياهو في حسابه الشخصي على منصة إكس «قناة الجزيرة لن تبث من إسرائيل بعد اليوم، وحان الوقت لطردها». لم يكتفِ نتنياهو بوقف نشاط قناة الجزيرة وفقاً للقانون الجديد، بل اتهمها بأنها «بوق لحماس» شاركت فعلياً في هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. استنكرت شبكة الجزيرة تصريحات نتنياهو، ووصفتها بأنها «كذبة خطيرة ومثيرة للسخرية». وأكدت أن الافتراءات والاتهامات لن تثنيها عن مواصلة التغطية بكل جرأة ومهنية، وحمّلت الشبكة نتنياهو مسؤولية سلامة أطقمها ومنشآتها حول العالم.
استخدم رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو هذا القانون ليصعد حملته ضد وسائل الإعلام الحرة ليس فقط في كونها تعرض «أمن إسرائيل» للخطر، بل بكونها تشارك فعلياً في هجوم السابع من تشرين الأول /أكتوبر، واتهمها أنها حرضت على قتل الجنود الإسرائيليين، بهذا الشكل يصبح الصحفيون متهمين بالإرهاب، وتصبح مساعيهم لنقل الخبر من أرض الحدث أفعالاً إرهابية يحق لجيش الاحتلال استهدافهم بالقصف والقتل.
تعرض القانون لانتقادات شديدة، اعتبرت نقابة الصحفيين الفلسطينيين أن قانون الجزيرة يأتي في سياق سياسة رسمية ممنهجة تستهدف الإعلام الفلسطيني والعربي والدولي، ويتزامن مع الاستهداف الممنهج لقتل الصحفيين وتدمير مؤسساتهم الإعلامية.
رئيس الجبهة الديمقراطية والعربية للتغيير أحمد الطيبي حدد هدفين من وراء هذا القانون «الأول شعبوي الغاية منه إرضاء اليمين المتطرف الذي عمل على شيطنة قناة الجزيرة، والآخر عملي حيث لا يريدون من الجزيرة وغيرها أن تقوم بعملها كي لا تنقل فظائعهم».
حتى وسائل إعلام إسرائيلية، انتقدت القانون، وأوردت صحيفة هآرتس أن «قانون الجزيرة» غرضه الحقيقي سياسي وليس أمنياً، وقيل إنه قانون عديم الفائدة، قانون لن يستطيع اسكات الجزيرة، وحظرها في إسرائيل لن يمنع جمهورها من متابعتها، وبالإمكان اللجوء إلى طرق متعددة للحصول على المادة الإعلامية من الأخبار المصورة والفيديوهات، تستطيع القناة استخدم خدمات البث التي تقدمها وكالة «أسوشيتد برس» لآلاف العملاء والمؤسسات الإخبارية الذين يتلقون بث فيديو مباشر ومن بينها القناة الفضائية القطرية الجزيرة (المحظورة اسرائيلياً).
هذه الخدمات التي تقدمها وكالة الإخبارية «أسوشيتد برس» أدت إلى منع عملها في غلاف غزة، وعرّضها لمصادرة معداتها الصحفية، ومنعها من البث من منطقة غلاف غزة، بتهمة انتهاك الحظر الجديد الذي فُرض على قناة الجزيرة، بالإضافة إلى عدم التزامها بقواعد الرقابة العسكرية الإسرائيلية، التي تحظر بث تفاصيل عن تحركات القوات التي يمكن أن تعرّض الجنود للخطر. مصادرة معدات صحفية للوكالة جاءت في أعقاب أمر شفهي، بوقف البث المباشر، والذي رفضت الوكالة تنفيذه لأنها كانت تصوّر مشهداً عاماً للقصف الإسرائيلي على غزة لا يشكل خطراً على تحركات الجنود.»
انتقدت خطوة مصادرة معدات وكالة «أسوشيتد برس»، ووصفت بأنها عمل جنوني، باعتبارها وكالة أمريكية، ومن أكبر وكالات الأنباء في العالم. وسمح لها بالعمل من جديد مما يدل على أن الحل ليس في إسكات وسائل الإعلام، بل الحل في وقف الحرب والجرائم الإسرائيلية.
العالم المنافق المسمى حر مثل الولايات المتحدة وألمانيا اكتفوا بالشعور بالقلق على حرية الصحافة، باعتبارها جوهر الديمقراطية الليبرالية، فالولايات المتحدة قد سبق لها أن استاءت من التغطية الإعلامية لجرائم حربها على أفغانستان 2001 ولغزوها العراق 2003، ومن بين ما استهدفته نيران قواتها مكتب الجزيرة ببغداد بصاروخين، وقتل حينذاك مراسل الجزيرة طارق أيوب وجرح المصور زهير العراقي. الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لم يبذلوا الجهود اللازمة للضغط على إسرائيل من أجل وقف المجزرة في غزة، بما فيها حماية الصحافة الفلسطينية، وكانت منظمة مراسلون بلا حدود قد تقدمت بشكوى بشأن جرائم حرب ارتكبت ضد صحفيين فلسطينيين في غزة. واعتبرت أن حجم الجرائم التي تستهدف الصحفيين وخطورتها وطبيعتها المتكررة تندرج في نطاق جرائم الحرب، وتستدعي إجراء تحقيق من قبل مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، لا سيما وأن إسرائيل قد منعت الصحفيين من الدخول إلى غزة.
وعادت منظمة مراسلون بلا حدود يوم الاثنين 27 أيار/ مايو تقديم شكوى جديدة أمام المحكمة الجنائية الدولية حول جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل في حق فلسطينيين، دعت فيها إلى التحقيق في جرائم ارتكبت في حق ما لا يقل عن 9 مراسلين فلسطينيين بين 15 كانون الأول/ ديسمبر 2023 و20 أيار/ مايو 2024.