هاني المصري
أمد/ منذ السابع من أكتوبر، هناك سباق محموم بين سيناريوهات عدة تتنافس فيما بينها، ويمكن حصرها في ستة: السيناريو الأول إعادة الحكم العسكري الإسرائيلي لقطاع غزة أو جزء منه، والسيناريو الثاني تشكيل حكومة أو إدارة محلية من بعض الجهات والشخصيات الفلسطينية مع وجود حكم عسكري/ إداري إسرائيلي، والسيناريو الثالث إدارة خارجية عربية أو دولية أو مشتركة لقطاع غزة، والسيناريو الرابع استمرار العمل بلجنة العمل الحكومي “حكومة حركة حماس”، أو حكومة بقيادة “حماس” بالتحالف مع فصائل فلسطينية في قطاع غزة أو حكومة شخصيات مستقلة مدعومة من “حماس”، والسيناريو الخامس استلام السلطة الفلسطينية إدارة الحكم من إسرائيل، والسيناريو السادس والأخير تشكيل حكومة إنقاذ وطني بموجب اتفاق وطني.
لكل سيناريو أطراف وعوامل تدعمه وأخرى تحبطه، وكل سيناريو مرجح أو مستبعد أو محتمل، ولا بد من رؤية هذه السيناريوهات وكيفية تطورها وتأثيرها وتأثرها بما حدث ويمكن أن يحدث.
تخضع السيناريوهات لعوامل ثابتة ومتحركة ومتغيرات ومستجدات يمكن تقديرها، ومتغيرات لا يمكن تقديرها، ولكن يجب أخذها في الحسبان؛ أي يمكن أن يحدث سيناريو البطة السوداء، وهو السيناريو غير المتوقع والمستبعد، وهو قليل الاحتمال، ولكنه إذا حدث سيؤدي إلى تغييرات كبيرة، ويمكن أن تكون سلبية جدًا إذا تحقق سيناريو اللعنة، أو إيجابية جدًا إذا تحقق سيناريو المعجزة.
يقوم مركز مسارات منذ مدة بإعداد دراسة حول سيناريوهات الحرب على قطاع غزة وتداعياتها المستقبلية. وشكّل المركز فريقًا بحثيًا لإنتاج الدراسة، التي اعتمدت على منهجية توظّف أساليب وأدوات بحثية متعددة؛ منها الاستمارة التشاركية، وتقنية بناء السيناريوهات، ومصفوفة التأثير المتبادل لاستنتاج العوامل الأكثر تأثيرًا والعوامل الأكثر تأثرًا، إضافة إلى دولاب المستقبل لمعرفة التداعي الرئيسي لكل عامل والتداعيات الفرعية، وتوزين السيناريوهات، فضلًا عن عمل جلسة محاكاة لتقييم السيناريوهات وتحديد مواقف وسلوك مختلف الأطراف الفاعلة.
سيناريو التهجير التدريجي موجود
من المتوقع أن يتداخل سيناريو مع سيناريو آخر أو أكثر، أو أن يكون موجودًا بشكل أو بآخر في كل السيناريوهات، فإذا أخذنا التهجير على سبيل المثال سنجد أن المخطط الإسرائيلي لتهجير شعبنا في قطاع غزة بشكل جماعي قد فشل أو جمّد حاليًا، ويمكن تفعيله لاحقًا. ولكن، هناك شكل من أشكال التهجير الذي يسمى زورًا “التهجير الطوعي”، بدأ بأكثر من 100 ألف فلسطيني غادروا قطاع غزة، وفق أقل التقديرات، وسيرتفع العدد؛ لأن مناطق قطاع غزة في معظمها أصبحت غير صالحة للحياة، وسيمضي وقت قبل أن تعود إلى الحياة، وكذلك سيزيد التهجير إذا استمرت الحرب لأشهر عدة، وربما أكثر، أو أخذت أشكالًا جديدة على غرار ما يحدث في الضفة أو إذا تأخرت عملية البناء وإعادة الإعمار بعد وقف الحرب وجاءت بمعدلات متواضعة، خاصة أن أحد أهداف رصيف الميناء البحري تسهيل هجرة الفلسطينيين من دون وضع عراقيل ولا دفع مبالغ كبيرة؛ أي ستستمر وتتصاعد أو تتراجع معدلات الهجرة وفقًا للتطورات، وأي السيناريوهات التي يمكن أن تحدث.
تطبيع مع السعودية أم لا، بايدن أم ترامب؟
يتوقف احتمال حدوث كل سيناريو كذلك على مدى التوصل إلى عملية سياسية واعدة أو خادعة، وهل سيرافقها دمج إسرائيل في المنطقة وتطبيع علاقاتها مع المملكة العربية السعودية مقابل وقف الحرب وإطلاق مسار سياسي يؤدي إلى دولة فلسطينية، أو تتبنى السعودية سياسة متوازنة ترى بأن لا تطبيع من دون دولة فلسطينية، ولا تكتفي بوعد لا إمكانية لتحقيقه.
كما يتوقف الأمر على فوز بايدن أو ترامب، على الرغم من عدم وجود فروق نوعية. ففي حال فوز ترامب ستكون السيناريوهات الأسوأ هي الأكثر احتمالًا، وهذا الأمر يجب أن يخضع لتقديرات وحسابات دقيقة فلسطينية وعربية ودولية، فالانتخابات الرئاسية الأميركية على الأبواب، ومعروف أن نتنياهو يراوغ ويماطل حتى يحين موعد الانتخابات، وهو يراهن على فوز ترامب. وعلى القيادة الرسمية الفلسطينية أن تأخذ هذا الاحتمال في الحسبان، مع أنها تراهن على فوز بايدن الذي خيّب كل آمالها، ولا تستعد لاحتمال فوز ترامب.
وعلى المقاومة الفلسطينية أن ترى أن صفقة تبادل وتهدئة قبل الانتخابات الأميركية قد تكون أفضل من تأخيرها إلى بعدها.
ومن الأمثلة على تداخل السيناريوهات والدمج بين سيناريوهات عدة، السيناريو الثالث الذي يتضمن إدارة خارجية، والسيناريو الخامس الذي يتضمن عودة السلطة، حيث تكون هناك إدارة خارجية لفترة انتقالية يتم فيها “تجديد السلطة” بمعنى جعلها مطواعة أكثر للشروط الأميركية الإسرائيلية.
الضفة مستهدفة بالضم
عندما ندرس سيناريوهات الحرب على قطاع غزة، يجب ألا نقفز عن الحرب الأخرى التي تشنها دولة الاحتلال على الضفة الغربية، التي هي الهدف كونها تشكل قلب دولة إسرائيل. وتسعى الحكومة الإسرائيلية الحالية إلى ضمها بأسرع وقت ممكن، كما يظهر من خلال سياسات وإجراءات احتلالية تدل على أن ما يجري ليس محصورًا في حرب الإبادة التي تشن في قطاع غزة، وإنما محاولة جديدة أكثر شراسة لتصفية القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها. فهناك داخل الحكومة الإسرائيلية جناح متطرف جدًا يدعو علنًا إلى حسم الصراع وضم الضفة واحتلال دائم لقطاع غزة وإلى عودة الاستيطان وتهجير الفلسطينيين، وهناك اتجاهات أخرى متطرفة داخل الحكومة وخارجها تكتفي بالدعوة إلى السيطرة الأمنية على قطاع غزة، وحسم الصراع تدريجيًا وليس مرة واحدة، والسعي إلى إيجاد جهات فلسطينية لإدارة القطاع تحت السيطرة الإسرائيلية بصورة مشابهة لما يجري في الضفة الغربية، أو تدعو إلى ضم المعازل الآهلة في الضفة إلى الأردن، وعودة الوصاية المصرية لقطاع غزة (حزب أفيغدور ليبرمان).
حكومة إسرائيلية جديدة لن تحدث اختراقًا جوهريًا
ضمن قراءة السيناريوهات، لا بد من ملاحظة تأثير استمرار الحكومة الإسرائيلية الحالية التي من المرجح رحيلها، ولكن ليس بالضرورة أن يتم ذلك بسرعة، وما الذي سيتغير إذا أعيد تشكيلها بخروج أحزاب ودخول أحزاب أخرى، أو إذا ذهبت إسرائيل إلى انتخابات مبكرة ستحمل على الأغلب تغييرًا في الائتلاف الحاكم.
لكن، لن تكون الحكومة الجديدة مختلفة كثيرًا في موقفها من القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني والمقاومة، لا سيما إزاء الحرب الحالية وأهدافها ضد الفلسطينيين، بل ستختلف فقط في الأساليب والتكتيكات التي ستستخدمها ضدهم، وستكون مختلفة مع سابقتها إزاء قضايا داخلية إسرائيلية عديدة، وكذلك إزاء مسألة العلاقات الأميركية الإسرائيلية لتكون العلاقة أفضل مع إدارة بايدن إذا استمرّت في الحكم بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني القادم .
بناء البديل وخيار الوحدة ضروريان
عندما ندرس السيناريوهات، لا يجب أن نسقط رغباتنا على الواقع وننحاز للسيناريو المرغوب والمفضل على حساب السيناريو الأكثر احتمالًا، بل من أجل رؤية الواقع كما هو، والسعي إلى تغييره من خلال توفير المتطلبات والشروط لتغييره، لكي يتحقق ولو بعد حين السيناريو الأفضل لشعبنا وقضيته الوطنية، إن لم يكن فورًا فعلى المديين المتوسط والبعيد.
لا شك أن السيناريو المفضل للفلسطينيين هو هزيمة دولة الاحتلال، وعدم تمكينها من تحقيق أهدافها المعلنة وغير المعلنة، وتحرير القطاع ورفع الحصار عنه وإنهاء الاحتلال للضفة وإنجاز استقلال دولة فلسطين على طريق تحقيق الحقوق الوطنية كاملة، وإعادة إعمار القطاع بأسرع وقت ممكن، وهذا يتطلب وحدة وطنية فلسطينية على أساس مشروع سياسي كفاحي قابل للتحقيق، وإنجاز أقصى ما يمكن تحقيقه في هذه المرحلة، أو على الأقل إحباط أهداف الاحتلال وتقليل الخسائر والأضرار كخطوة على طريق الاستقلال.
إن الوحدة الفلسطينية على الرغم من ضرورتها الوطنية الملحة تبدو بعيدة المنال، مع أن حرب الإبادة في قطاع غزة تطال الجميع، وأن مخطط تصفية القضية الفلسطينية يشمل رفض أي تجسيد للهوية والحقوق الفلسطينية، ولو على شاكلة سلطة حكم ذاتي موحدة في الضفة والقطاع، فالمطلوب – وفق الإسرائيليين – التعامل مع الفلسطينيين بوصفهم أفرادًا وجماعات مشتتة متحاربة ضمن سقف أمني اقتصادي. لذلك، يحرصون على بقاء السلطة على الرغم من اعتدالها وتعاونها مع الاحتلال في حالة بين الموت والحياة، لا تموت، ولا تستطيع أن تقف على رجليها، حتى تبقى خاضعة للشروط الأميركية والإسرائيلية.
في هذا السياق، يجب عدم الاستسلام لواقع الانقسام، والشروع في بناء خيار الوحدة خطوة خطوة، ومدماكًا وراء مدماك، وإن لم يكن ممكنًا من أعلى إلى أسفل وعلى المستوى القيادي، فليكن من القواعد ومن أسفل إلى أعلى، ومن خلال توحيد وتقديم نماذج وحدوية سياسية وثقافية واقتصادية ونقابيّة، وعلى كل المستويات وفي كل التجمعات والمجالات، إضافة إلى الشروع في توحيد كل من يوافق على القواسم المشتركة وقواعد الشراكة والمشاركة الديمقراطية؛ لتتبلور أغلبية تكبر وتكبر وتسعى إلى فرض إرادة ومصلحة الشعب الفلسطيني على الجميع، بما فيها وأولها على مؤسسات منظمة التحرير التي بحاجة إلى إعادة بناء على أساس المشروع الوطني بصياغته الجديدة التي تحفظ الحقوق والأهداف الأساسية، وتأخذ الخبرات والحقائق الجديدة بالحسبان، وبحيث تضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي التي تؤمن بالشراكة.
وفي الختام، نحن بانتظار صدور الدراسة التي يعدّها مركز مسارات، وسيقف أمام كل سيناريو واحتمالية حدوثه، وكيفية التعامل معه، وكيفية العمل من أجل تحقيق السيناريو المفضل، وإذا لم يكن ذلك ممكنًا فالعمل على درء السيناريو السيئ والأسوأ بوصف ذلك خطوة على طريق تحقيق الأهداف والحقوق الفلسطينية.
على سبيل المثال، يمكن أن يكون البديل من حكومة إنقاذ وطني ليس عودة حكومة “حماس”، وإنما حكومة تضم مستقلين مدعومين من “حماس” وبقية الفصائل، ويكون على رأس جدول أعمالها تمهيد الطريق لإزالة تداعيات الانقسام وآثاره، وتشكيل حكومة وفاق وطني تعمل من أجل تعزيز الصمود والتحضير لإجراء الانتخابات على كل المستويات وفي كل القطاعات.