أمد/
يصنف لوكاش الواقعية التي يعتمدها الروائي من الواقع المعاش إلى صنفين: الأول واقعية عمادها مشاعر وأحاسيس وأحلام وأخيلة، نسترجعها في حياتنا على شكل تيار شعور لا ضابط له، وهي أشبه بأحلام اليقظة التي لا مفرّ من العيش بها ومعها. ويرى لوكاش أنّ مثل هذه الواقعية التي نقرأها بحالة السكون والجمود والتجريد تتمثّل في الرواية المعاصرة “رواية العقود الأولى من القرن العشرين” مثل رواية يوليسيز وروايات فيرجينيا وولف وفوكنز وغيرهم من أولئك الروائيين الذين أسّسوا ما أصبح يعرف بالرواية التجريبية بديلاً للرواية التقليدية التي اعتمدت السرد التقليدي للأحداث الخارجية من خلال تسلسل زمني يقع في وحدات مستقيمة متساوية.
أما الصنف الثاني:
هي الرواية الواقعية التي يتبناها فهي الواقعية الاشتراكية التي تحمل منظورا يرقى بالواقع المعاش ولا يقبل بواقع التشرذم الذي اكتفت الواقعية السيكولوجية بمحاكاته والوقوف عند هيمنته.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح في هذا السياق هو: إذا كان د. عمار حسن في روايته “باب رزق” في توجيه السرد الروائي يستهدف تجاوز ما طرحه لوكاش، كما يستهدف تجاوز آليات القراءة التقليدية المسكونة بأحادية الدلالة من أجل تجديد الخطاب السرد. ووصله بهذه الكشوفات الجديدة للتشريحية. فهل استطاع أجرأة بعض المفاهيم الاجتماعية لتفعيل رهاناته الفكرية؟ وهل جاءت هذه المفاهيم في اشتغالها وممارستها التحليلية متساوقة مع الخلفية السياسية الاجتماعية التي تناولها الناظمة لمرجعياته المعرفية الاجتماعية؟
وتحديدا تجاه التشريحية الذي أعلن بشكل صريح عن تبنيه لإبداله التأويلي السردي لشخصياته في تحليل المنجز القيمي لشخصياته.
يبقى السؤال كيف نتعامل مع الواقع المتردي؟ يشير وليمز في خاتمة دراسته عن الموضوع إلى أنّ دور الفنان، روائياً كان أو غير ذلك، إزاء التردي في الواقع المعيش، هو خلق واقع جديد من خلال رؤية تتخطّى التردّي وتفعل المنظور الجمعي الاستكشافي الذي يوجزه وليمز بعبارته التي تنصّ على أنّ الحياة أو الواقع المعاش هو استكشاف لا استرجاع. وهذا ما فعله الروائي د. عمار حسن في روايته ” باب رزق”، ليس من باب التقليد أو التناص على صعيد الفكرة، بل رسم خريطة للمجتمع العربي المصري، ضمن منظور نقدي يلائم واقعنا بعيدا عن أيّ إسقاط جبري على سرديته، “وجدتني أعود إلى منتصف الطريق، ليست البداية المفعمة بالأمل، وليست اللحظة الآنية التي توهّمت فيها أنّني قد برئت من كلّ الأمراض التي أصابني بها الرجل العجوز الذي يتأرجح على أزيز “كنبة” بين الحياة والموت، ولا يمتلك شيئًا سوى الذكريات الغاربة ص171″.
استقصى د. عمار حسن مقولته الروائية من خلال قراءة تأويلة، تشكِّل مفاتيح فلسفته الاجتماعية، “ليس للجائع أنْ يختار، لهذا عدت في الليلة التالية إلى مسجد “الحامدية الشاذلية” لكن بمهمّة جديدة، إنهّا المهمة التي يقوم بها “حسونة” هناك أمام مسجد “عمر مكرم” ص171″.
لا شك فيه أن الباحث المتمعِّن في النّص الروائي الذي قام به د. عمار حسن لاستراتيجيات التفكيك، يمكنه الإقرار بنجاعته فعلا في تدبيج صورة روائية قائمة لمنجزه الاجتماعي النقدي، تبعده عن دائرة التيه والعدمية، “هنا يرى الصغار آباءهم فوق أمهاتهم، ويسمعون أصوات تهاريشهم، ويطارد الأولاد البنات تحت ظلام الحيطان، ويرى الكلُّ الكلَّ من فتحات دورات المياه القذرة التي تشارك فيها عائلات.. هنا لا حرمة لأحد، منّا المسطول بالبانجو، والمنهمك بالفشل الكلوي وتليف الكبد.. أنت جديد ولا تعرف كلّ شيء عنّا ص238”.
وأكثر ما يميِّز رواية “باب رزق” إنّها لم تنحَزْ للصور المؤدلجة الزائفة الصارخة، ورفضها استجلاب كشوفات لأفكار أيديولوجية، بدعوى أنّ الأيدلوجيا نتاج حراك ثقافي وفلسفي وتاريخي. وهو الذي أفرز البنيوية والتفكيك، وجعل مفاهيمهما ومقولاتها محكمة بخصوصية هذا الحراك التاريخي بخلفياته الدينية والمجتمعية والثقافية، لكن حين يتعلّق الأمر بالنقد الروائي لا بد من القول إنّ رواية “باب رزق” انجذبت للحوارية الموضوعية، ولم تتغوّل على الموضوع المطروح من الشخصيات الروائية، بل جاءت ضمن سياق نصي مرجعيته الحدث، “صعدت السلم المتآكل على مهل، ببطء كأنّي ذاهب إلى المشنقة. نعم لم أكُن أكره “سميرة” لكنّي كرهت كلّ ما جرى من أجل أنْ يربطوها بي ويربطوني بها، بحبل غليظ لم أجد له “أنا”. ولم أجد عزائي إلاّ في كلمات قديمة محفورة في رأسي عن القسمة والنصيب ص276″.
والمتمعّن في رواية “باب رزق” يكتشف ثنائية كلام / كتابة متواشجة مع أفكار سياسية لا تقترب كثيرا من هذه الأفكار بشكل مباشر، لكن على الحواف، المتوارية وراء مفهوم الاختلاف، “كان أول الخارجين كعادة رجال المال أو المنشغلين به، على عجلة من أمرهم دومًا، فجربت نحوه وقلت له:
جهودكم يا أفندم في سبيل تنمية اقتصاد بلدنا تملأ عين الشمس، ما تفعلونه يجعل لكم دينًا في عنق كلّ مصري أنْ يشكركم من كلّ أعماقه، ويدعو لكم بموفور الصحّة، وطول العمر والرفعة ص256″.
يُقرأ د. عمار حسن في تجربته الروائية الحديثة، وفي سعيه إلى تحديث الرواية العربية والإعلاء من شأنها، ولكنه يُقرأ أولاً في “رسالته المصرية” التي أملت عليه “رواية مختلفة”، تتقاطع مع الرواية، في عناصرها المعترف بها، وتنزاح عنها إلى كتابة تستلهم النهايات الموجعة، التي تحمل في طياتها قراءة لحاضرنا.