مؤيد عفانة
أمد/ أناط المشرّع الفلسطيني بالهيئات المحلية مجموعة كبيرة من الوظائف والمهام ذات العلاقة المباشرة بالخدمات الحيوية للمواطنين، تبعاً لنص المادة رقم (15) من قانون الهيئات المحلية رقم (1) لعام 1997، وبالتالي فإنّ الهيئات المحلية هي الأكثر تماساً مع المواطن، ومع الخدمات الحيوية اليومية، حيث تعتبر الهيئات المحلية وحدات الحكم المحلي في نطاق جغرافي وإداري معين.
ورغم الأهمية الكبيرة للهيئات المحلية، إلّا أنّ جزءً كبيراًّ منها يعاني من التعثر المالي، ظهرت تجليّاته بشكل كبير في السنوات الأخيرة، رغم محاولات الحكومة، وزارة الحكم المحلي المتعددة بخلق استدامة مالية لها، حيث تضمنت خطة التنمية الوطنية في السياسة الوطنية السابعة جملة تدخلات لتطوير عمل الهيئات المحلية، وتعزيز استدامتها المالية من خلال إعادة هيكلة الهيئات المحلية، وتوسيع صلاحياتها في جباية الضرائب وإدارة الموارد المحلية، أمّا استراتيجية وزارة الحكم المحلي، فقد نصّت في الهدف الاستراتيجي الثاني على تمكين الهيئات المحلية لتكون أكثر استدامة واستقراراً من الناحية المالية. كما نصت أجندة الإصلاح الحكومي على اصلاح وتنظيم قطاع الحكم المحلي وعلى تعزيز التنمية الاقتصادية المحلية والشراكة مع القطاع الخاص والأهلي.
وقد رافق تلك الخطط والسياسات إجراءات على الأرض تجاه تعزيز الاستدامة المالية الهيئات المحلية، حيث تم تأسيس وحدة حكومية خاصة لصافي الإقراض، كما تم منح مجموعة من الهيئات المحلية صلاحية جباية ضريبة الأملاك، تبعاً لقرار مجلس الوزراء الصادر في جلسته رقم (168) بتاريخ 25/7/2022، والقرارات اللاحقة، كما تم إقرار نظام الشراكة بين الهيئات المحلية والقطاع الخاص رقم (27) لسنة 2022م، لتعزيز التنمية الاقتصادية، إضافة إلى دعم الهيئات المحلية فنياً، كذلك فإن للاتحاد الفلسطيني للهيئات المحلية دور داعم لها، من خلال مساندة ودعم الهيئات المحلية والدفاع عن مصالحها وحقوقها من أجل تطويرها وتحقيق استقلاليتها بما يتوافق مع السياسات الوطنية وبما يتماشى مع مبادئ الحكم الرشيد ويساهم بتحقيق مستوى أكبر من العدالة والشمول والاستدامة، إضافة الى دور صندوق تطوير واقراض الهيئات المحلية في دعم عملية التطوير والاصلاح للهيئات المحلية.
ورغم كل تلك الخطط والسياسات والإجراءات، إلا أنّ مخاطر التعثر المالي ما زالت محدقة بالهيئات المحلية، وتوجد هيئات محلية متعثرة مالياً بشكل فعلي، وهذا ما أشارت اليه تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية، وأيضا ارتفاع بند صافي الإقراض، وهو المصطلح المتداول للمبالغ المخصومة من إيرادات المقاصّة؛ لتسوية ديون مستحقة للشركات الإسرائيلية المزودة للكهرباء، والمياه، وخدمات الصرف الصحي للهيئات المحليّة، ولشركات التوزيع الفلسطينية، وغيرها من البنود، حيث بلغت قيمة صافي الإقراض في العام 2023 (1.34) مليار شيكل، في حين بلغ صافي الإقراض في الربع الأول من العام 2024 (432.1) مليون شيكل، بمتوسط شهري (144) مليون شيكل، في حين كان المتوسط الشهري في العام 2018 (80) مليون شيكل، ممل يدلل على الارتفاع الكبير على هذا البند، والمكوّن الرئيس لصافي الإقراض هو أثمان الكهرباء والمياه للشركات الإسرائيلية المزودة للخدمات.
وهنا يبرز السؤال الرئيس، في ظل الخطط والسياسات والإجراءات الحكومية لدعم الهيئات المحلية، وتوفر أجسام مهنية داعمة فنياً ومالياً، لماذا التعثّر المالي للهيئات المحلية؟ الإجابة المباشرة هي ضعف “الحوكمة” في الهيئات المحلية، وحتى لا أقع في فخ التعميم، فانه توجد “بعض” الهيئات المحلية على درجة جيدة من الحوكمة، ولكن السواد الأعظم منها يعاني من ضعفها، أو انفاذ مبادئها، وما زالت تتعامل بعض مجالسها بسياقات “المخترة”، أو إدارة الهيئات المحلية بشكل ارتجالي، أو ضمن الإدارة الظرفية الموقفية، وليس ضمن خطة استراتيجية بعيدة الأمد، ورؤية ذكية، تعمل على استثمار الموارد المتاحة بطريقة كفؤة، وخلق تنمية مستدامة، وتوفير التمويل والدعم لأعمالها ومشاريعها التطويرية، بعيداً عن الاتكاء على جيوب المواطنين، كبديل عن فشل قدراتها على تجنيد الأموال، أو خلق مشاريع مُدرة للدخل، أو تفعيل التنمية الاقتصادية، لذا فإنّ أولى الحلول لمعالجة تعثّر الهيئات المحلية المالي الالتزام بمبادئ الحوكمة والتي تشمل: الالتزام بالتشريعات، النزاهة، الشفافية، المساءلة، الكفاءة والفاعلية، المشاركة، العدالة، مكافحة الفساد، ومنع تضارب المصالح، والحد من الاستثناءات التي تعتبر مدخل للفساد.
إضافة إلى ضرورة توظيف الهيئات المحلية للتوجهات الإدارية الحديثة في عملها، كالقيادة التشاركية والتحويلية في مواجهة البيروقراطية، واعتماد الرشاقة التنظيمية في مواجهة الترهل الإداري، و”الهندرة” في مواجهة ضعف الأداء وتدنى مستوى الفاعلية والكفاءة، والنزاهة والشفافية في مواجهة الفساد، وتفعيل المساءلة المجتمعية لأشراك المواطنين في أعمال الهيئات المحلية، والتي تُعَدّ الإطار الحاكم للعقد الاجتماعي ما بين الهيئة والمواطنين، وتُوفّر مساحة تسمح للمجتمع المدني بالمشاركة في عملية التنمية، وتعزز دورهم في إدارة الهيئة المحلية، وختاماً لا بُدّ للهيئات المحلية تشكيل مجالس استشارية من الكفاءات وأصحاب الخبرات والاكاديميين والباحثين، للاستفادة من خبراتهم في تحسين أدائها، وتجنبيها مخاطر التعثّر المالي.