مهدي مبارك عبد الله
أمد/ عندما قرَر نتنياهو إطلاق حربه الاجرامية المسعورة على غزة كان هدفه الاول بحسب زعمه المشكوك فيه لدى معظم القادة الاسرائيليين هو القضاءَ على حركة حماس وتفكيك قدراتها العسكرية والحكومية وايحاد بديل ” فلسطيني ” يحل محلها نظامها كسلطة حاكمة في القطاع رغم الفشل المأساوي لكل المحاولات السابقة التي جرت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وخلال أكثر من ثمانية أشهر من الحرب الدائرة في القطاع لفرض نموذج حكم كالذي تسعى اسرائيل إليه الآن عبر تمكين بعض الهيئات المدنية والكيانات العشائرية أو القادة المحليين المعروفين لدى جهاز الشاباك الإسرائيلي او من خلال أطراف ومؤسسات عربية ودولية متعاونة مع اسرائيل تمكنها من تحقيق اهدافها المنشودة ولا يزال نتنياهو يربط موافقته على خطة بايدن البائسة لوقف اطلاق النار بتوفير بديل محلي يلغي سلطة حماس في غزة
الخطة المبدئية للاحتلال تقوم على تقسيم القطاع إلى محافظات كبرى وأخرى فرعية تتولى العشائر والعائلات الكبيرة إدارتها مدنياً خلال الفترة الانتقالية وتقوم بتوزيع المساعدات الإنسانية فيها بعد الحرب لكن وعي ووطنية تجمع عائلات وعشائر غزة قطع الطريق أمام السيناريو الإسرائيلي المبيت مؤكدا أن اقتراحاً كهذا وضيع ومثير للسخرية وهو محاولة اسرائيلية لزرع الفتنة بين ابناء القطاع حيث دعت كافة العشائر الغزاوية التي تمثل نسيجاً مجتمعياً ووطنيا يمتد من بيت حانون شمالاً حتى رفح جنوباً الى التكاتف والتماسك والالتفاف حول المقاومة كقيادة شرعية موحدة والسعي الحثيث لإنهاء الانقسام الفلسطيني والدعوة الى تشكيل حكومة وحدة وطنية ورفض التعاطي مع أي محاولات اسرائيلية خبيثة لتقديمها بديلاً عن أي نظام سياسي في القطاع كما اعلنت داعمها المطلق لكافة فصائل لمقاومة وحماية الجبهة الداخلية في مواجهة عدوان وغطرسة الاحتلال وقد بينت ايضا حرمة التعامل مع العدو الصهيوني باي شكل واسلوب لإعادة تدوير نظام روابط القرى العميل أو إنشاء صحوات عشائرية تخدم سياسة المحتل الغاصب واعتبروا أن كل من يشارك في ذلك سيعامل معاملة الاحتلال الصهيوني بالعزلة والازدراء و الانتقام
الحقيقة الثابتة للجميع حتى اليوم انه لا يوجد أي اشخاص او رموز محليين فاعلين لديهم الجرأة الكافية ليطرحوا أنفسهم بديلا لحركة حماس لإدارة القطاع لعلمهم المسبق بان ذلك سيكون اشبه بمهمة انتحارية لأي قائد محلي لان الفلسطينيون جميعا سيعتبرونهم عملاء ومتعاونين مع العدو ولا زلنا نتذكر محاولات اسرائيل في عام 1978 انشاء روابط وجمعيات قروية في الضفة الغربية كبديل للقيادة الوطنية الفلسطينية في مختلف المناطق آنذاك
الخيارات المتاحة امام إسرائيل جميعها بالنتيجة خاسرة ومحبطة لكن الاسوأ في هذه الحالة ان تضطر اسرائيل لإبقاء وجود امني وعسكري واداري دائم في غزة لحماية هذه الديكورات والقوى العميلة البديلة التي تحاول تشكيلها لتحل محل حركة حماس والتي ستكون بالغة الهشاشة والضعف لتعطي الفرصة لعناصر حركة حماس بإعادة السيطرة على قطاع غزة وبما يثبت حينها أنّها لم تنهار او تسقط بعد والغريب في الامر هنا انه حتى ساسة وجنرالات إسرائيل الكبار يرفضون بالمطلق فرض أي حكومة عسكرية إسرائيلية تدير القطاع ( انظر بتأمل كيف لا تزال المشاكل نفسها تحكم عقلية القيادات في اسرائيل الشيء الوحيد الذي تغيّر هو قوة الاجرام والعنف والدمار والقتل في غزة )
لا يداخلنا الشك بان حركة حماس قد تعرضت لأضرار جسيمة خلال الأشهر الثمانية الماضية من العدوان الهمجي على غزة الا انها وبحقائق الواقع المرئي لا تزال تشكل تهديد بالغ ومتعاظم لإسرائيل وان تأثيرها القيادي والمعنوي لا يزال قوي بين أهالي قطاع غزة ولا زلتا نتذكر جيدا في شهر آذار الماضي كيف رفض وجهاء عائلات غزة عرضا من إسرائيل للتعاون معها حيث صرح وقتها أبو سلمان المغني أحد الوجهاء البارزين في القطاع بأن العشائر الغزاوية الاصيلة لا يمكن أن تقبل أن تكون بديلا عن حكومة حماس وعمن اختارهم الشعب وفي ذات السياق تحدث قبل ايام قليلة وزير الأمن يوآف غالانت خلال نقاش في المجلس الوزاري المصغّر للشؤون السياسية والأمنية حيث اكد على بأن إسرائيل عازمة على تفكيك حركة حماس وإيجاد بديل لحكمها في قطاع غزة وقدم أربعة بدائل لليوم التالي للحرب لم تحظى بأجماع العديد من الحاضرين
مرة اخرى نؤكد انه لا يوجد حتى الان أي مشروع أو استراتيجية إسرائيلية لملء الفراغ في القطاع في حال نجحت خطط نتنياهو الرامية إلى التخلص من حركة حماس والبديل سيكون الفوضى والاوضاع السوداوية التي ستخلق مزيد من المقاومة والانتقام والتطرف وبشكل أكثر وضوحاً فان تل أبيب تحاول عاجزة تكوين هيكل إداري فلسطيني موازي للإدارة المحلية التابعة لـحماس كاختبار عملي لكفاءة وقدرة العناصر المحلية العميلة على إدارة القطاع بشكل أوسع بدون وجود حركة حماس.
ما قام به اللواء في الجيش الإسرائيلي غسان عليان ( عربي درزي صهيوني ) حين اجتمع في أحد البيوت الآمنة بعدد من سكان القطاع المناوئين لحركة حماس من بين المجموعات المدنية ذات التوجهات الليبرالية اضافة الى رؤوس العائلات الكبيرة في القطاع وبعض العناصر العشائرية الموالية لبعض الانظمة العربية ( نعف عن ذكرها احلكم الله) بهدف انشاء كيان سياسي مدني يسهم في إدارة المرحلة الانتقالية بعد الحرب وإمكانية منح المسؤولين المحليين أسلحة شخصية للدفاع عن النفس وافراد أمن لحمايتهم لكن غلى ارض الواقع مخطط عليان اصطدم برفض واسع لفكرة التعاون مع إسرائيل بين معظم عائلات القطاع الوطنية الشريفة
القناعات المطلقة لدينا تشير ان الادارة الامريكية ودوائرها الدبلوماسية و الاستخباراتية تعرف جيدا بأنه لا يمكن لإسرائيل القضاء على حركة حماس واقتلاعها نهائيا ( عسكريا وحكوميا ) حتى ان كثير من الدول بمن فيها مصر ترى ضرورة دمج عناصر حماس ضمن منظمة التحرير واجهزة السلطة والدعوة لانتخابات فلسطينية بعد المرحلة الانتقالية ووقف عاجل لإطلاق النار وتبادل الرهائن
السؤال المهم الذي يطرحه الكثيرون بتهكم وسخرية هو إذا كان هجوم رفح هدفه كما ادعي نتنياهو القضاء على الكتائب العسكرية الأربع المتبقية لحركة حماس في قطاع غزة والواقع على الميداني يُخالف كل ذلك حيث لا تزال المقاومة الفلسطينية قادرةً على مواصلة القتال بقوَّة وتحدي وإلحاق الألم بالجيش الإسرائيلي والتسلل خلف خطوط قواته في عدة مناطق سبق أن أعلنت إسرائيل السيطرة عليها والقضاء على وجود المقاومة فيها الا إن حماس عمليا تعود لكل المناطق التي يخرج منها الجيش الاسرائيلي وتبدأ باستعادة سيطرتها عليها على غرار ما جرى في شمالي القطاع التي نفذت فيها قوات الاحتلال اجتياحين جديدين بمنطقتي الزيتون وجباليا بحجة وجود بعض عناصر جديدة لحماس فيها
على الارض وفي ميدان المعارك ومحاور القتال لا توجد فعليا أية علامة على أن إسرائيل قد قتلت أو اعتقلت أي من قادة حماس البارزين مثل يحيى السنوار رئيس الخركة او شقيقه محمد او القائد العام محمد الضيف او غيرهم حيث لا زالوا أحرارا في غزة ينتظرون لحظة الاحتفال بهزيمة القوات الإسرائيلية وانسحابها والتي ستكون ناتائحها كارثة سياسية مدمرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي المنهك والذي لن ينهي الحرب حتى يتمكن من تصويرها على أنها نجاح وانتصار وإذا انتهت الحرب بصفقة سوف تترك حماس قائمة وبذلك سيكون فشلا ذريعا للقيادة السياسية والعسكرية الاسرائيلية حيث لم يتحقق أي من أهداف الحرب لا القضاء على حماس ولا استرداد جميع الرهائن بالقوة ولا تأمين الحدود والمستوطنات ومع كل هذا لن يتمكن نتنياهو من خوض الانتخابات الإسرائيلية المقبلة في عام 2026 لأنه حتما سيكون خلف القضبان او قد قتل
بدايات وشارات الترنح قبل السقوط والانهيار بدأت مع المسؤول عن السياسات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي والتخطيط للواقع الجديد في قطاع غزة بعد الحرب ” يورام حيمو” الذي قدم استقالته من مهام منصبه احتجاجًا على تلكؤ المستوى السياسي الإسرائيلي في اتخاذ القرار حول البديل لحكم حماس والذي سيبقي الحركة القوة الحاكمة الأولى في القطاع
المراقب والمتتبع لمجريات الاحداث يلاحظ ان قادة العدو الصهيوني يحاولوا أن يعوضوا ما خسروه في الميدان من خلال الألاعيب السياسية لفرض قواعد جديدة داخل القطاع عبر سعيهم لاستحداث هيئات عميلة تنوب عنهم في ادارة غزة وفق مخطط فاشل لن يتحقق لان قبول التواصل مع الاحتلال من قبل المخاتير والعشائر والهيئات بقطاع غزة يعتبر خيانة وطنية كبرى تستوجب التصفية والاعدام ولهذا لن تنجح هذه المؤامرة القذرة خاصة بعد هذا العدد الكبير من الشهداء والتضحيات والدمار لا يمكن أن يقبل أي واحد من ابناء الشعب الفلسطيني بمثل هذه المشاريع والمخططات التي تعمّق من سيطرة الاحتلال وتزيد من المأساة الفلسطينية وان استمرار إسرائيل في عمليتها العسكرية في غزة بهدف القضاء على حركة حماس لا تجدي نفعا وأنه لا حل بديل في الأفق للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني سوى حل الدولتين رغم المعارضة الإسرائيلية له وأن بناء السلام والاستقرار بالوسائل العسكرية وحدها غير ممكن بتاتا
يذكر ان حركة حماس تدير قطاع غزة منذ 2007 بعد عام من فوزها بالانتخابات البرلمانية وبعد حرب أهلية لم تدم طويلاً مع قوات أمن تابعة للسلطة الفلسطينية ولا زال الغزيون يستعيدون ذاكرتهم حول واقع المجتمع في القطاع قبيل سيطرة حماس على حكم غزة حيث كانت بعض العائلات المعروفة بارتباطاتها المشبوهة تتمتع بنفوذ كبير وتمتلك أسلحة فردية متنوعة ما كان يوميا يتسبب في خلافات وحالة من الفلتان الأمني وهو ما نجحت الحركة في القضاء عليه وتثبيت قواعد النظام و بسط الاستقرار واليوم هنالك خشية كبيرة من عودة العصابات الإجرامية بدأت بالفعل في الظهور في قطاع غزة مع وجود فراغ في السلطة لتستولي على شحنات الغذاء وتنفذ عمليات سطو مسلح وبلطجة وترويع للسكان وفي حال غيبت حركة حماس بسلطتها العسكرية والحكومية عن القطاع قان الجيش الإسرائيلي سيواجه تهديدات أمنية مماثلة لما واجهته الولايات المتحدة في مدينة الفلوجة بين عامي 2004 و2006 بعد اغزو العراق والكل يعرف ما حصل
ما يمكن قوله كخلاصة ان إسرائيل لن تكون قادرة على إقامة حكم عسكري في قطاع غزة بسبب التكلفة المالية الباهظة والتي ستشكل عبئا اقتصاديا كبيرا حيث تقدر بـ20 مليار شيكل سنويا يضاف إليها تكاليف إقامة ممر إلى القطاع بتكلفة 150 مليون شيكل دون احتساب تكاليف التشغيل المتواصل لهذا الممر إلى جانب ذلك ضرورة إشغال 400 وظيفة في نظام حكم عسكري في القطاع ناهيك عن مخاطر أمنية تتعلق بانتشار قوات الجيش عند حدود إسرائيل وهو ما يتطلب وجود فرق عسكرية هجومية ودفاعية خاصة ولهذا وبحسب معظم التقارير الامنية والعسكرية الاسرائيلية والدولية ان اجتثاث حركة حماس من القطاع والقضاء عليها امر مستحيل غلى الاقل في الواقع المنظور
لاحظنا مؤخرا ان كثير من الإسرائيليين الغاضبين بدأوا يصرحون علنا ان هدف نتنياهو الحقيقي من الحرب كان إضعاف حركة حماس وليس القضاء عليها بالكامل كما يدعي اعلاميا ورسميا وهو لا يزال يفضل أن تبسط حركة حماس بعد إضعافها سيطرتها على القطاع وحكمه من اجل تعزيز سيطرته ونفوذه وبقاءه في سدة الرئاسة وكذلك لتجنب اعترافه ببدائل آخري تحظى باعتراف المجتمع الدولي تتولى مقاليد الحكم في غزة ويضطر حينها للتعاون معها وحمايتها
اخيرا ما ينبغي فهمه جيدا ان أي بدائل عن حماس في غزة ستكون أكثر تكلفة على نتانياهو ومستقبل ائتلافه الحكومي الذي يواجه تصدعات كبيرة فضلاً عن أنه سيضع إسرائيل تحت طائلة البحث عن حل شامل للقضية الفلسطينية لأن أي بديل لحماس يعني مناقشة حقيقية وجادة لمستقبل المنطقة وهذا طبعا ما لا تريده اسرائيل بالمطلق