هاني المصري
أمد/ على الرغم من المبالغة الهائلة في الانتصار الذي حققته قوات الاحتلال بإطلاق سراح أربعة من الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة وهم أحياء، لدرجة تشبيهها بعملية عنتيبي التي جرت في العام 1976 في أوغندا، وكذلك بثغرة الدفرسوار التي أحدثتها القوات الإسرائيلية في حرب أكتوبر 1973، والتي أحدثت تحولًا في مسار الحرب، قدم بيني غانتس، عضو مجلس الحرب، مساء الأحد استقالته التي كانت مقررة مساء السبت؛ ما يعطي لعملية إطلاق سراح الأسرى حجمها الطبيعي، على اعتبار أنها مجرد انتصار تكتيكي صغير لا يغير من واقع الفشل الكبير والإستراتيجي والمتراكم، الذي ظهر في الفشل في القضاء على المقاومة، وإطلاق سراح الأسرى، على الرغم من دخولها الشهر التاسع.
تدلّ استقالة غانتس على أن حكومة نتنياهو لم تستفد كثيرًا من عملية إطلاق سراح بعض الأسرى، بل خسرت بعدها أكثر مما ربحت؛ لأنها باتت حكومة مطعون في شرعيتها، كما أن لا صفقة على الأبواب، فلو كانت قريبة لما أقدم غانتس على الاستقالة، بل لانتظر حتى تحدث، خاصة أنها من أبرز قضايا الخلاف بينه وبين نتنياهو.
المتوقع الآن أن نشهد تشددًا من الطرفين، فحركة حماس والمقاومة ستتخذ إجراءات مشددة لمنع نجاح عمليات “تحرير” أسرى جديدة، وستتشدد في موقفها التفاوضي، ردًا على المجازر المستمرة واستخدام المفاوضات للتغطية على استمرار حرب الإبادة والتهجير والضم، لا سيما بعد ارتكاب مجزرة النصيرات التي ارتقى فيها أكثر من ألف شهيد وجريح، وكذلك لأنها ترى أن شعبية الحكومة الإسرائيلية أصبحت أضعف، ولكنها باتت أكثر تطرفًا، والاحتجاجات ضدها مرشحة لتكون أكبر بكثير.
كما يدّل انسحاب غانتس وحزبه على عدم ترجيح اندلاع حرب كبيرة وإقليمية؛ لأن وجود وترجيح مثل هذا السيناريو سيجعل غانتس لا يُقدم على إضعاف الحكومة بالخروج منها، غير أن حكومة اليمين المتطرف يمكن أن تلجأ إلى تصعيد الحرب في غزة أو على الجبهة الشمالية، ولكنها ستفكر مرات عدة قبل أن تدفع الأمور نحو حرب إقليمية أو شاملة، خاصة أنها غير قادرة على حسم معركة غزة وحدها.
ما سبق من خروج وزراء حزب “المعسكر الوطني” سيؤدي إلى ضغوط داخلية وخارجية أكبر على الحكومة الإسرائيلية، وهذا سيزيد من احتمال التوجه إلى الانتخابات المبكرة، لا سيما إذا حصل تمرد داخل حزب أو أكثر من الائتلاف الحاكم، أو إذا لم يقر القانون الذي تؤيده الأحزاب الدينية، أو إذا شهدت إسرائيل مظاهرات مليونية تهدد بالعصيان المدني. ولكن هذا وذاك غير مؤكديْن ومجرد سيناريو يرتفع أو ينخفض في ضوء مجريات الميدان وتأثير اللاعبين، والضغوط الداخلية والخارجية.
لماذا لم تنتفض الضفة؟
الأمر اللافت للنظر أن مجزرة النصيرات لم تحرك الضفة التي تعيش منذ السابع من أكتوبر في ظل أوضاع يصعب تفسيرها.
فمن يتذكر أو عرف كيف أن حادثة سير أدت إلى قتل عمال غزيين كانت الشرارة التي أشعلت الانتفاضة الشعبية الكبرى، بينما لم تؤد حرب الإبادة التي ارتقى فيها أكثر من 120 ألفًا بين شهيد وجريح، وتدمير معظم قطاع غزة، إلى شيء مشابه، بل ما يحصل تحركات تضامنية باهتة موسمية وعمليات واشتباكات متباعدة.
وهذا يمكن تفسيره بأنّ طوفان الأقصى جاء بعد سنوات من الهبات والموجات الانتفاضية المتلاحقة التي شهدتها الضفة، والتي بدأت منذ العام 2015، وارتقى فيها آلاف الشهداء والجرحى. وجاءت هذه الهبات والموجات تحت عناوين عديدة، مثل هبة السكاكين والدهس، وهبة الكرامة والبوابات في الأقصى، وهبات ضد مسيرات الأعلام وفرض التغيير المكاني والزماني للمسجد الأقصى، ومقاومة الاستيطان والتطهير العرقي، ودفاعًا عن باب الرحمة والشيخ جراح، إضافة إلى ولادة ظاهرة كتائب المقاومة، خاصة عرين الأسود، وكتيبة جنين، وكتيبة طولكرم.
كما وقع طوفان الأقصى والضفة مستنزفة وغير مستعدة عسكريًا ومعنويًا، وعلى كل المستويات، لمواكبة ما يحدث في القطاع، لا سيما في ظل الخوف والخشية من الإبادة والتهجير في ظل فقدان الأفق السياسي والأمل بتحقيق انتصارات حاسمة بمستوى التضحيات الجسيمة والنضالات العظيمة، من نوع إنهاء الاحتلال وإنجاز استقلال دولة فلسطين، وبسبب تأثير حملات الاعتقالات التي وصلت إلى أكثر من 9 آلاف معتقل جديد طالت السياسيين والنشطاء وكل من يفكر بالتحرك شعبيًا أو عسكريًا.
كما أدت الحملات العسكرية الإسرائيلية دورًا في ضبط غضب الضفة؛ إذ نفذت أكثر من ثمانين حملة عسكرية كبيرة طالت مختلف الأماكن، وخاصة مخيمات جنين وطولكرم ونابلس وأريحا، وما أدى إليه ذلك من ارتقاء أكثر من 500 شهيد وآلاف الجرحى، وتدمير مناطق وأحياء وشوارع.
ويضاف إلى ما سبق، تسليح المستوطنين وإطلاق يدهم بشكل عاث فسادًا وقتلًا وحرقًا في الضفة بغطاء رسمي، عبر تشكيل مليشيات مسلحة مدعومة من الحكومة، لا سيما في قرى نابلس ورام الله، ومع تقطيع أوصال الضفة من خلال نشر مئات الحواجز الثابتة والمتحركة، وتحويل كل مدينة، وفي أحيان عديدة كل بلدة إلى سجن منفصل، إضافة إلى منع العمال من العمل في داخل الخط الأخضر، والقرصنة على أموال المقاصة، ومصادرة عشرات آلاف الدونمات، وتهجير عشرات التجمعات البدوية.
لا تكتمل الصورة لتفسير ما حدث، ولماذا لم يحدث في الضفة ما كان متوقعًا، من دون النظر إلى تأثير الانقسام وتداعياته، فالانقسام ليس مجرد كلمة تقال، بل تعني نشر الإحباط واليأس جراء غياب القيادة الواحدة والبرنامج الواحد والمؤسسة الواحدة، وسيطرة الأنا والمصالح الخاصة والأولويات الفردية والعائلية والجهوية على كل شيء.
وثمة سبب آخر لاحتواء الضفة وعدم انتفاضها، وهو استمرار التعاون الأمني بين السلطة والاحتلال، والتعلق بالتزامات أوسلو وأوهام التوصل إلى تسوية عبر المفاوضات، وملاحقة النشطاء والمقاومين، وقمع الحراكات الشبابية، بدليل ما حصل يوم مذبحة المستشفى المعمداني من قمع للتظاهرات التي جابت مدن الضفة؛ ما أدى إلى استشهاد بعض المواطنين، وهذه إشارة إلى المدى الذي ذهبت ويمكن أن تذهب إليه السلطة، فضلًا عن سياسة نأي القيادة الرسمية بنفسها عما يحدث انتظارًا لنتيجة الحرب، وتحت وهم أن التعاون الأمني والنأي بالنفس سيجعل القيادة في معسكر الرابحين والمنتصرين.
إن المبادرة لتوحيد الموقف والأداء الفلسطيني ميدانيًا وعلى طاولة المفاوضات، وفي مختلف المحافل والمستويات الإقليمية والدولية، كان ولا يزال بمقدوره أن يوفر الحاضنة السياسية والشعبية الفلسطينية، القادرة على مواجهة التحديات والمخاطر الجسيمة وتقليل الأضرار ووقف حرب الإبادة ومنع التهجير، وتوظيف الفرصة التاريخية لصالح الشعب الفلسطيني الذي يستحق الانتصار وهو قادر على تحقيقه.
ومع ذلك، لا يمكن استمرار الوضع في الضفة وفي فلسطين كلها على ما هو عليه، فالانفجارات المحدودة والمتنقلة من مكان إلى آخر يمكن أن تتحول إلى انفجار شامل وكبير، خاصة في ظل استمرار المحاولات الإسرائيلية وتكثيف تطبيق مشاريع القضم المتدرج والضم الزاحف والتوسع والعنصرية، إضافة إلى تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية للسلطة، التي وصلت بها إلى حافة الانهيار، سواء لإخضاعها من قبل الاحتلال والإدارة الأميركية، اللذين يريدان “تجديد” السلطة لتصبح أكثر استجابة للشروط والمصالح الأميركية والإسرائيلية، أو للتخلص منها من قبل أوساط نافذة في الحكومة الإسرائيلية التي تريد انهيار السلطة، حتى يتم القضاء على ما تمثله من تجسيد للهوية الوطنية وعلى إمكانية قيام دولة فلسطينية ذات سيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس.