د. عقل صلاح
أمد/ تهدف هذه المقالة لمناقشة وتحليل أهداف الاحتلال الاستراتيجية من وراء الاستهداف المتكرر والمتواصل للبنية التحتية للمخيمات الفلسطينية في شمال الضفة الغربية، لقد زرت مخيم جنين عدة مرات وتجولت في المخيم برفقة ابن المخيم الدكتور جمال حويل واطلعت على حجم الدمار والاستهداف للمخيم، وتناقشنا في الهدف من وراء هذه الممارسات الوحشية التي تقوم بها قوات الاحتلال في مخيم جنين وباقي المخيمات- نور شمس، وطولكرم، وبلاطة، والفارعة، وعقبة جبر-، وما يثلج الصدر حديث القائد حويل وجميع القادة من مختلف التنظيمات الفلسطينية، وموقف أهالي المخيم الذين يقولون بعد كل عملية اجتياح واقتحام وتدمير لو انهدم المخيم وبقي الشهيد فلان والشهيد فلان، هؤلاء الشهداء لا يمكن تعويضهم، “في المال ولا في المقاومين”، هذا ما استمعت له في بيوت الأجر وفي جولة طويلة بعد اجتياح المخيم. هذا يؤكد على أن أهالي المخيمات يلتفون حول رجال المقاومة كل ذلك قادني للعودة لرسالة الماجستير لحويل وكتابه الجديد عن “معركة مخيم جنين الكبرى 2002 التاريخ الحي، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في 2022، وعلى نفس المنوال يعمل الطالب مراد طوالبة من المخيم على إعداد رسالة ماجستير عن الهدف من وراء تدمير البنية التحتية للمخيمات ومخيم جنين نموذجًا.
حيث تناول حويل في كتابه صمود المخيم وأهالي المخيم الأسطوري، والخسارة الفادحة التي تكبدها جيش المجرم أرئيل شارون، وكيف كانت الوحدة الوطنية الإسلامية رمزًا للصمود والعلاقات التنظيمية في المخيم، فقد وجدت في الإصدارين لحويل أن المخيم يعتبر نموذجًا على جميع الصعد رغم استهدافه من قبل البعض لتحييد دوره ودور المقاومة في الضفة الغربية التي انبثقت من أزقة المخيم لتنتقل لبقية المخيمات وبعض مدن الضفة الغربية؛ فهذا المخيم الذي أصبح أسطورة وتاريخًا في العطاء والتضحية والصمود هو الذي سجل في تاريخ المجرم شارون أن جيشه انهزم أمام أبطال المخيم.
وهذا ليس غريبًا على المخيم الذي ضم بين أذرعه الوطنية منفذ عملية حوارة الأولى في 26 شباط/فبراير 2023، الشهيد الحمساوي عبد الفتاح خروشة في بيت القيادي الوطني أبو العزمي الذي استهد ابنه واثنين من أشقائه، وتم هدم بيته للمرة الثالثة واستشهد خروشة في 7 آذار/مارس 2023، وفي هذا الإطار لجأ للمخيم أيضًا منفذ عملية حوارة الثانية أسامة بني فضل في 19 آب/أغسطس 2023، والذي تم اعتقاله من المخيم في عملية واسعة نهاية تشرين الثاني/نوفمبر2023، والعديد من قادة المقاومة الذين لجأوا للمخيم من جميع أنحاء الضفة الغربية، وأثناء إعداد كتابي بعنوان “المغيبون خلف الشمس” الذي صدر حديثًا عن دار المناهج العلمية في عمان، الذي يتحدث عن عشرة من قادة الشعب الفلسطيني في السجون الإسرائيلية ومنهم القائد الأسير جمال أبو الهيجا المحكوم مدى الحياة، وجدت أن العديد من قادة كتاب عز الدين القسام كانوا قد لجأوا إلى مخيم جنين عند الشيخ أبو الهيجا الذي وفر لهم الأمن والأمان وكان المبادر لاحتضان كل مطارد من قبل الاحتلال إذا ضاقت به السبل، منهم الشهداء القادة عادل عوض الله، ومحي الدين الشريف، ونصر جرار، وقيس عدوان، ونزيه أبو السباع، ومحمود أبو حلوي، وغيرهم الكثير ومن يريد معرفة القصة كاملة عليه الاطلاع على الكتاب وعلى الدراسة الخاصة بالشيخ أبو الهيجا وهي متاحة على الإنترنت في موقع مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان: دراسة تحليلية في مسيرة القائد الشيخ جمال أبو الهيجا: من الجهد الدعوي إلى نهج المقاومة، وفي الانتفاضة الثانية لم يتوقف احتضان الشيخ جمال للمقاومين من جنين ومخيمها فحسب بل بات الملاذ الآمن لكبار القادة من أنحاء الضفة حتى في انتفاضة الأقصى حين وصل إليه القادة محمود أبو الهنود، ونسيم أبو الروس، وجاسر سمارو، ومجدي بلاسمة من نابلس، وسائد عواد من طولكرم وجميل جاد الله من الخليل ليوفر الملجأ لهم، وأعدوا عدتهم انطلاقاً من منزله الذي غدا حصناً منيعاً لكل مقاوم؛ فهذا هو المخيم قديمًا وحديثًا وعلى رأي حويل سيبقى المخيم كما هو حاضنة لكل شريف ووطني، وليس غريبًا أن يكون بيت حويل هو الملاذ الوحيد للقيادي الحمساوي الشهيد وصفي قبها الذي لم يلجأ لغير حويل في الاختباء والاحتماء، وهذا يعبر عن مدى روابط العلاقات الوطنية في هذا المخيم المستهدف.
وهناك العديد من العوامل التي ساهمت في صمود أهالي المخيم بوجه الاحتلال، أهمها: أن غالبية القيادات في الانتفاضة الأولى والثانية مازالوا في المخيم ويعتبرون رموز سياسية ووطنية ونماذج من الحالات السياسية الوحدوية النادرة التي تنسج علاقات وطنية إسلامية مميزة، وجميعهم مجتمعين على أن الحل الوحيد في التعامل مع الاحتلال هو المقاومة، بالإضافة إلى الوعي والثقافة الوطنية الخالصة، والعديد من قادة كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح لم يحيدوا عن المقاومة رغم التنسيق الأمني وابتعاد فتح عن المقاومة، إلا أن قيادات المخيم بقيت تعمل في السر في المقاومة ومنهم عائلة الزبيدي التي أصبحت نموذجًا للنضال الوطني والوحدوي؛ فزكريا الزبيدي اعتقل بسبب القيام بعمليات بطولية، واستكمل أخوه القائد الشهيد داوود الذي شكل حاضنة للمقاومة من كل الفصائل وقاد تحالفًا نوعيًا من الفصائل وشكل لها حماية وغطاء وطنيًا في المخيم تجسد عنه علاقات فصائلية مميزة، وبالإضافة إلى طبيعة أهالي المخيم المجبولة في المعاناة والصبر، والحالة الفريدة في المخيم المتمثلة في التضامن مع رجال المقاومة فتجد القادة الكبار في الانتفاضتين يقفون إجلالًا واحترامًا ويفتخرون بهم وبنضالهم ويقفون معهم في السراء والضراء وجزء كبير منهم من أبنائهم الذين أصبحوا قادة المقاومة، ومنهم العشرات من الشهداء والأسرى.
واستنادًا إلى ما سبق، نتطرق إلى أهداف الاحتلال من تدمير البنية التحتية في المخيمات بالضفة بشكل عام وفي مخيم جنين بشكل خاص، والتي تتمثل في ضرب الحاضنة الشعبية للمقاومة، فقد عمدت وتتعمد قوات الاحتلال التدمير الممنهج من خلال الاقتحامات المتكررة التي يتعمد بها الاحتلال تدمير كل المرافق الحيوية والبنية التحتية التي تشمل المياه والكهرباء والصرف الصحي والمحلات التجارية والمساجد والمراكز وتدمير ممتلكات المواطنين وإتلاف مركبات المواطنين. فهذا الاستهداف والتخريب والتدمير والخسائر في المخيمات الفلسطينية المذكورة أعلاه تقدر بمئات ملايين الدولارات، ففي مخيم جنين لوحده يمكن تسجيل أكثر من 50 اجتياح منذ طوفان الأقصى حسب تصريح لحويل. بالإضافة إلى أن زيادة حدة استهداف مخيم جنين وطولكرم ونور شمس مقرون بقرار العودة إلى المستوطنات الأربع في شمال الضفة الغربية القريبة من هذه المخيمات جغرافيًا؛ فالاحتلال يسابق الزمن للخلاص من المقاومة لكي يستطيع المستوطنين العودة الآمنة للمستوطنات المذكورة، ومن أهداف زيادة مرات الاجتياح هو إحداث خراب ودمار لا يمكن حصره، وزيادة عدد الشهداء والمصابين والأسرى في المخيم فقد تم قتل العشرات من الشهداء من أجل كسر إرادة وعزيمة أهل المخيم، ونسف وتدمير البيوت والمحلات والمرافق، فمخطط إسرائيل يهدف لإفراغ المخيمات من سكانها من خلال خلق بيئة طاردة لمغادرة أهالي المخيمات والعيش خارجها بلا رجعة، بعد تكرار عمليات تدمير البنية التحتية والمحلات التجارية والممتلكات وتدمير شبكات الصرف الصحي لعشرات المرات، وذلك لزيادة حجم المعاناة، وتدفيع الأهالي في المخيمات الثمن.
وتجدر الإشارة إلى إن هذا التدمير الممنهج للمخيمات ينبع من طبيعة الاحتلال وخططه الاستراتيجية باستهداف حق تقرير المصير من خلال إنهاء قضية العودة وحقوق اللاجئين سواء في المخيمات الفلسطينية في لبنان وسوريا من خلال داعش وغيرها من الجماعات الإرهابية المدعومة من الاحتلال والولايات المتحدة الأمريكية، والعديد من الجماعات المدعومة من أطراف مشبوهة تدعم إنهاء ظاهرة اللاجئين وتهجيرهم للعديد من الدول الغربية من أجل إنهاء البعد الجغرافي للمخيم وتدمير المخيمات، وكل ذلك من خلال الإرهاب الديمغرافي والجغرافي وخلق عملية انزياح سكاني من المخيمات الفلسطينية للمدن الفلسطينية لإيجاد آلية مستقبلية عن طريق أطراف دولية لرسم مخطط عمراني جديد للمخيمات في الضفة الغربية لإنهاء الطبيعة المعمارية الحامية للمقاومة والتي تعيق اجتياح المخيمات المكتظة، وكل ذلك من خلال خطة إسرائيلية ممنهجة تهدف لجعل المخيمات بيئة طاردة للمواطنين والمقاومة.
وهذا يعني أن استهداف المخيمات بهذا الشكل أداة إسرائيلية لضرب النسيج المجتمعي ولردع الأهالي حتى لا يحتضنوا المقاومة داخل المخيمات في شمال الضفة التي بدأت تتطور وتتصاعد وتحقق العديد من الإنجازات القتالية والتصنيعية التي استطاعت تفجير الدبابات وتدمير بوز النمر.
في النهاية المهم بالنسبة لأهالي المخيمات هو حياة المقاومين، وأن كل هذا التخريب والتدمير يمكن ترميمه، ما دامت المقاومة قادرة على الرد على ممارسات الاحتلال، وكل هذا الاستهداف الممنهج لمصدر رزق الأهالي وتدمير البنية التحتية في كل مرة يقتحمون بها المخيمات يزيد حالة التحشيد والتعبئة وبروز قيادات ومقامين جدد يمارسون العمل الفدائي ويقومون بردود الفعل على هذه الممارسات الاحتلالية الإرهابية؛ وفي الآونة الأخيرة للاقتحامات أصبح الاحتلال يواجه مقاومة شرسة وتصدي يعيق التقدم في الاقتحامات من خلال عمليات التفجير النوعية، مما استدعى قوات الاحتلال الاعتماد على المسيرات والطائرات الحربية والأباتشي سواء في اغتيال المقاومين أو مساندة قوات الجيش التي يتم محاصرتها من قبل المقاومين لتوفير طوق نجاة لهم من خلال الحزام الناري وقصف تواجد المقاومة في المخيمات، وهذا أصبح في الآونة الأخيرة يمارس في مخيم جنين مع كل عملية اقتحام، كل هذه الممارسات الاحتلالية قابلتها عملية تطوير في قدرات المقاومة من حيث التكتيك من خلال التخفي وعمليات كشف تسلل القوات الخاصة ومواجهتهم مباشرة بالإضافة إلى العمليات العسكرية والقدرة على تطوير العبوات الناسفة التي تؤرق الاحتلال.