أمد/
تعد الرواية تكثيفاً للحياة، وتمثل تعقيداتها بطريقةٍ متفردة. ومن وجهة نظري، يجب ألا يقتصر دور الروائي على تصوير الواقع ضمن بناء نصي يسميه رواية. بعد التقدم الهائل في هذا الفن والتجريب على المستوى العالمي، ينبغي للرواية ألا تكتفي بتقديم أحداث وحبكة وشخصيات فحسب، بل تتجاوز هذا المفهوم الكلاسيكي. في زمن إنتاج الدهشة، لم يعد مقبولاً قراءة رواية تشبه الأفلام أو حكايات الجدات.
الروائي ليس مجرد حكواتي، بل هو رائي يعيد صياغة الحياة وفق رؤية إبداعية وإنسانية مميزة، يدمج الأفكار الكبرى بالأحداث العادية. وهذا ما نجح فيه تماماً المتوكل طه في روايته “ثلاثة في الليل”. لا أحبذ وصفها بالفنتازيا، فهي تتناول شخصيات بشرية عادية وأحداثاً تحدث في قلب الحياة المدنية التي نعرفها. لكن المتوكل يضع شخصياته في مشاهد تكشف تعقيدات النفس الإنسانية وتجسد تراجيديا الواقع بشكل فريد. إنها رواية تكثف الحياة وتضعها تحت المجهر، تهتك تناقضاتها وتسخر من خلال مشاهد غير منطقية ولا واقعية، تكشف نواقص الإنسان ووجعه وألمه وطموحه. يظهر هذا بوضوح في الفصل الثالث من الرواية (الدربيل).
يطرح الروائي عدداً من القضايا الفكرية والثقافية التي تتماشى مع السرد وضرورات البناء الروائي. يناقش مثلاً ضرورة تجديد الخطاب الديني والإسلام السياسي والفكر الماركسي، كما يظهر في الحوارات بين الشيوعي (أبو صالح) والصوفي (أبو بكر العكاس). فالشيوعي يرى ضرورة الاجتهاد وإعادة قراءة النصوص الدينية وفقاً لمتطلبات العصر، بينما يرفض الصوفي أدلجة الإسلام. من خلال هذا الطرح، نلمس رأي الروائي نفسه في الموضوع. وفي مواضع أخرى، يشير إلى أن التعامل مع النصوص الصوفية لا يكون إلا بمفاتيحها، ويتناول جدلية العقل والنقل. كما يتحدث عن التيارات الشعرية المهمشة في التاريخ مثل الصعاليك، ويشير إلى المتنبي باعتباره شحاذاً ومتكسباً بالشعر، مما يكشف رأي الروائي بوضوح في هذه المواضيع.
جاءت هذه الأفكار ضمن سياق السرد بأسلوب فني، دون شعور القارئ بالتنظير أو الملل.
“ثلاثة في الليل: الأب الشيوعي، الابن الهدهد، الحفيد الدربيل” رواية من طراز خاص من حيث مضامينها الثقافية ورؤيتها التي انعكست على بنائها. الثورة في الرؤية للحياة صاحبها ثورة في الشكل وطريقة الكتابة. لا أعتقد أن الرواية موجهة للقارئ العادي، بل تحتاج إلى قارئ متمرس يتسلل إلى دهاليزها، يشارك في صياغة رؤية النص للحياة، ويؤسسها أو يناقشها أو يهدمها.