أمد/
عن دار الأهليّة للنّشر والتّوزيع في العاصمة الأردنيّة عمّان، صدرت رواية “ذاكرة في الحَجْر”” للشّاعرة الإعلاميّة كوثر الزّين. تقع الرّواية الّتي صمّم غلافها يوسف الشّايب في 165 صفحة من الحجم المتوسّط.
عرفنا كوثر الزّين كإعلاميّة ناجحة، خصوصا في برنامجها “الصّالون الثّقافي”، الّذي تقدّمه على شاشة الفضائيّة الفلسطينيّة، كما عرفناها كشاعرة رقيقة، تعيش هموم شعبها وأمّتها. وأذكر أنّها أرسلت لي قبل سنوات قليلة إلكترونيّا مجموعة قصص طويلة، وارتأيت في تلك القصص نفسا روائيّا، ونصحتها بنشرها، لكنّها لن تنشرها، وإن لم تخنّي الذّاكرة فإنّ هذه الرّواية” ذاكرة في الحَجْر” كانت واحدة من تلك القصص، ويبدو أنّ الكاتبة عادت إليها وتشعّبت في أحداثها، وقدّمتها للقرّاء كرواية متكاملة البناء والحبكة الرّوائيّة، وهذه الرّواية الّتي يطغى عليها عنصر التّشويق جاءت في خمسة وثلاثين فصلا، وتسلسلت أحداثها بلغة أدبيّة شاعريّة وشعريّة. ساعدها في ذلك سعة ثقافة الشّاعرة الرّوائيّة، هذه الثّقافة الّتي تشكّل خليطا من الفلسلفة والتّاريخ وعلمي النّفس والاجتماع، والتّاريخ والمعتقدات.
وإذا ما توقّفنا عند عنوان الرّواية سنرى أنّه يثير تساؤلات كثيرة، فما المقصود بالذّاكرة المحجورة؟ ومن هم الّذين يحجرون على الذّاكرة وعلى العقول؟ ولماذا يقومون بهذا الحجْر؟ وما مصير أصحاب العقول المحجورة؟ وما عواقب ذلك؟
أثناء قراءتي للرّواية عادت بي الذّاكرة لروايتي المبدع الرّاحل عبد الرّحمن منيف:” شرق المتوسّط” و”الآن هنا”، ورأيت أنّ هذه الرّواية تتقاطع معهما بشكل وآخر، وإن اختلفت الأحداث والحكايات فيهما، لكنّ القمع والاضطهاد يشكّلان قاسما مشتركا بينهما.
بطل الرّواية “ذاكرة في الحجْر” اسمه عربيّ، يحمل ماجستير في الحاسوب، لكنّه متّهم في نظر الجهات الأمنيّة في بلده، وتهمته الأولى أنّه ابن لرجل حريص على عروبته ووحدة أمّته، ويسعى إلى “الوحدة العربيّة”. وهذا الأب مغيّب في السّجون منذ عشرين عاما، دون أن تعرف أسرته عنه شيئا، بل لا تعرف الأسرة إن كان لا يزال على قيد الحياة أم لا. وها هو ابنه” عربي” في المعتقل يعاني من التّعذيب، فاستعمل ذكاءه للخلاص من خلال الاعتراف على أناس وهميّين:” فاعترفت لهم عن أشخاص وهميّين، وألّفت لهم أحداثا وقصصا من صنع خيالي…….فكافؤوني….وأوكلوا لي مهمّة توزيع الطّعام، وتنظيف غرف الضّباط….” ص31. وعندم نال ثقتهم:” أطلقوا سراحي في مهمّة شريفة لاستدراج المذنبين بأفكارهم….فهربت” ص32.
وبعد اطلاق سراحه هرب إلى منطقة أخرى، حيث استقبله “أصحاب الّلحى”، وهذه إشارة إلى من استغلّوا الدّين لتحقيق مآرب سادتهم وهذه إشارة إلى “داعش وجبهة النّصرة،” وغيرهما من التّنظيمات الإرهابيّة الّتي تدثّرت بعباءة الدّين والدّين منها براء، فقتلت ودمّرت وشرّدت الملايين، ودمّرت بلدانها مثل سوريّة والعراق، وهناك خضع للتّحقيق من قبل “أصحاب الّلحى” واستطاع خداعهم واكتسب ثقتهم، وأطلقوا عليه اسم “أبو مسلم” ص35:” كافأني الأمير مالا وحظوة قبل أن يكافئني بــ “جيلان” ص35.
وجيلان هذه حسناء ” إيزيديّة” وهم جماعة يعيشون في العراق، هاجمهم الدّواعش فقتلوا رجالهم ونهبوا أموالهم واسترقّوا نساءهم.
لم يقترب “عربي” أو أبو مسلم من “جيلان” بل أشفق عليها، وخطّط لحمايتها وإطلاق سراحها، وعندما حاول أحدهم شراءها أو استبدالها بأخرى؛ لتكون سبيّة له، رفض ذلك” كما أكّدت له أنّك نطقت بالشّهادتين، وتؤدّين فروض الصّلاة”. ص39. واستطاع الهروب هو و”جيلان” بعد أن هاتف عمّها، وسلّمها له رافضا أن يأخذ منه فدية، وهناك ترك “كردان” والدته- قلادة من الذّهب- وبعض المال معها، وغادر المكان ليبحث عن مهرّبين يخرجونه من هذه البلاد، وهذا ما حصل حيث وصل إلى مرسيليا في فرنسا بعد رحلة شاقّة كاد أن يخسر حياته فيها. وفي أحد مخيّمات “طالبي اللجوء” تعرّف على صحفيّة فرنسية اسمها “أوود”، ساعده في ذلك معرفته بالّلغة الفرنسيّة، وهناك انتبه لفحولته الّتي فقدها بسبب التّعذيب الّذي تعرض له أثناء اعتقاله في وطنه.
الدّيانات السّماويّة والوضعيّة والحروب
يرى بعض المفكّرين أنّ الحروب والصّراعات تعود أسبابها “للاقتصاد”، لكنّ “عربي” في حواره مع قطّته يرى أنّ صراع الحضارات يتمحور حول المعتقدات الدّينيّة:” لم أستطع أن أقول لها- جيلان- إنّي أرى الأديان، بسماويّها ووضعيّها وصحيحها ومحرَّفها تجتمع كلّها في توقها إلى الله، وتفترق في الوصول إليه، ثمّ تتناحر باسمه لغايات أبعد ما تكون عنه.” ص47. ثمّ يتساءل أمام قطّته:” ماذا يا مشرق لو خلقنا الله مثلكم معشر القطط؟”ص47. ويجيب على هذا التّساؤل:” لما سالت دماء باسم دين أو فكرة، أو طائفة أو تنظيم، لما سُبيت جيلان وقتل قومها.” ص48.
الثّقافة
لم يتخلَّ” عربي” عن مواصلة تنمية ثقافته، ففي أثناء عيشه مع الصّحفيّة الفرنسيّة ” أوود” واصل مطالعاته وحضر اطلاق كتاب “غرق الحضارات” للمفكّر اللبناني أمين المعلوف الّذي هاجر من لبنان إلى فرنسا وحمل جنسيّتها عندما اندلعت الحرب الأهليّة في لبنان عام 1974م، وهناك أنتج فكرا مستنيرا.
وفاة” أوود” واعتقال “عربيّ”
بعد خمس سنوات من إقامة”عربي” في باريس توفّيت صديقته “أوود بمرض السّرطان” بينما خضع هو لجراحة استئصال “المصران الزّائد”، وتمّ اعتقال “عربي” في فرنسا وخضع للتّحقيق حول علاقته بالجماعات الدّينيّة التّكفيريّة الإرهابيّة، ووضع في السّجن مع معتقلين أصيب أحدهم بفيروس الكورونا “كوفيد”، وهناك جاء وصف مؤلم لعربيّ:” أنا عربي…اليتيم الخائف، الشّهم العاجز، السّجين الهارب، المجاهد المرتدّ، الطّريد المستطرد، اللاجئ الحرّاق، العاشق النّاقص، البريء المتّهم.”ص165.
الّلغة والأسلوب: استعملت الرّوائية كوثر الزّين لغة أدبيّة شعريّة رشيقة، وانتقلت من حكاية إلى أخرى بأسلوب سلس يطغى عليه عنصر التّشويق.
الزّمان والمكان
من خلال قراءة هذه الرّواية وما ورد فيها عن إصابة أحد المعتقلين في فرنسا بالكورونا، بعد أن مكث فيها خمس سنوات، فمن المعروف أنّ الكورونا انتشرت عام 2019م، نرى أنّ زمن الرّواية يمتدّ خلال السنوّات العشرة الأخيرة، أيّ منذ العام 2014 حتّى انتهاء الأديبة من روايتها ونشرها في العام 2024. ومن خلال الحديث عن قتل الإيزيديّين وتدمير بيوتهم وسبي نسائهم نستشفّ أنّ المكان هو العراق، ومنه انتقل إلى تركيا حيث ركب البحر تهريبا من هناك إلى فرنسا، كما دارت أحداث أخرى في فرنسا.
وماذا بعد: واضح أنّ الرّوائيّة طرحت في روايتها هذه مأساة المواطن العربيّ في بلاده، فهو متّهم حتّى تثبت إدانته، وقد يضطرّ إلى الهروب إلى أعداء فكره ومعتقداته لينجو بحياته، وهناك سيعيش اضطهادات من نوع آخر، فيضطرّ إلى الّلجوء تهريبا إلى دولة أجنبيّة، ستضّطهده هي الأخرى.
والقارئ للرّواية سيجد أنّ الكاتبة لم تلجأ إلى المابشرة فيما تريد طرحه، بل تركت للقارئ أن يستنبط ذلك من بين السّطور.
هذه الرّواية صرخة قويّة تدعو إلى الدّيموقراطيّة وإطلاق الحرّيّات واحترام حقوق الإنسان في العالم العربيّ.