أمد/
يقول ريجيس دوبري”صورة واحدة تساوي ألف كلمة”، فالصورة الواحدةً تفجر مئات الأحاسيس والأفكار، لما للصورة من دلالة ورمزية؛ فهي ليست مجرد نتاج لخيال أو تصور لواقع فحسب، بل “فعل تظهره بطريقتها”.
وحسب أرسطو: فإن “التفكير مستحيل دون صورة”؛ لأن التفكير يحتاج في تشكله مشاهدات بصرية أو سمعية أو حسية. والصورة أيضاً “تحتاج إلى عدد كبير من الأنشطة العقلية، وأشكال الخطاب الأخرى كي يتم تطبيقها عليها”.
وللصورة وقع كبير على النفس البشرية، وشدتها تعتمد على مدى تأثرنا بها، ومدى قدرتنا على تذوق جمالها.
ما بين الصورة والكلمة: كتاب “كتابة خلف الخطوط.. يوميات الحرب على غزة.”
صدر الكتاب بأجزائه الثلاثة حديثا عن وزارة الثقافة الفلسطينية (2024) تضمن مقدمة بعنوان: “أكثر من مقدمة” لوزير الثقافة السابق عاطف أبو سيف الذي تناول فيها تاريخ غزة، وأهم الآثار الموجودة فيها، وتجربته في الحرب التي عاشها هو وابنه كما أهل غزة.
الأجزاء الثلاثة تضمنت (72) نصا خطها أدباء بأعمار مختلفة بالإضافة إلى المقدمة ذاتها، ولوحات فنية مختلفة.
كثيراً ما نشاهد صوراً تثير فينا رعشة تهز أجسادنا وجهازنا العصبي، حتى ليخيل إلينا عدم قدرتنا على التنفس، ما يجعلنا نشعر بانعزالنا عمّن حولنا، فتتعطل حاسة السمع لدينا، وتلبس الكلمات رداء الصمت، فينسدل الستار كاشفاً لنا المعاني والدلالات، فنقف عاجزين أمام عُري المشهد، مثال على ذلك رؤيتنا ما يحدث في غزة، عبر الشاشة.
قد تختلفت شدة التذوق باختلاف شدة تأثرنا بالصورة، لما نحمله من مشاعر تجاه أهلنا في غزة، وهذا يفسر سبب التشظي عند رؤيتنا لعمليات الإبادة، والفقد والجوع، فتستحضر الصورة ذاكرة فينا وتبعثها من جديد، أو تخلق خيالات محلقة في فضاءات متعددة، بينما يشعر الطرف الآخر-العدو- بالتلذذ أثناء المشاهدة، حيث تصبح الحروب والأمراض ومظاهر الدمار موضوعات لقطع أدبية جميلة، أو للوحات فنية رائعة.
في واقعنا الحالي وما يحدث في غزة “الصورة لا تساوي ألف كلمة” حسب دوبري، لا بدّ من اكتمال المشهد واندماج الصورة مع الكلمة، لأن الصور الفوتغرافية غير مكتملة؛ لأنها تعجز عن إيصال رائحة القنابل والصواريخ، صوت خفقان قلب طفل خائف، خوف امرأة حامل على جنينها، حيرة امرأة وقت الحيض.. رائحة الدماء والموت..
جاء كتاب (كتابة خلف الخطوط.. يوميات على غزة) ليكمل المشهد تحت وطأة الحرب، فما أصعب الكتابة في الحرب؟!! وما أصعب أن نكتب ما كان ولم يعد؟!! وما أصعب أن نعيد صياغة الفقد كذكريات؟!!
لكن واقع الحرب وما يحمله من دمار نفسي وجسدي ومكاني يحّتم علينا الكتابة رغم الألم؛ لتوثيق وتأريخ ما يحدث في سياق العلاقة بين المكان والواقع، والذاكرة والإنسان؛ لتحمل تفاصيل الحرب، والمشاهدات التي لم تصل إليها عين الكاميرا، والأحاسيس التي وصلتنا من أجدادنا حين النكبة، ويعيشها الأبناء والأحفاد ليتحولوا مرة ثانية من “لاجئين إلى نازحين”، هذا الشعور الذي انتقل بفعل الحرب والتجربة المؤلمة شكلت ذاكرة أخرى وأحاسيس جديدة لا تختلف عمّا حملها معهم أجدادنا حين النكبة، مع فارق أدوات الحرب في ذلك الوقت.
هذه التفاصيل التي كُتبت تحت القصف المتواصل والطائرات الزنانة جاءت شاهدا حيا لما يحدث، ومشاهدات تحمل فاجعة إنسانية استطاع كل كاتب أن يوصلها بأسلوبه، وعدسة عينيه التي وثقت الفقد والحرمان والجوع والعطش والحر والبرد والعجز أمام الأبناء، وانعدام الإحساس بالأمان، وتلاشي الأمل، وضبابية المستقبل فتتمرأى تفاصيل الحرب أمام العالم بأكمله نصا بجانب الصورة لتشكل أرشيفا لما يحدث وما سيحدث.
برع الكتاب جميعا دون استثناء في نقل المشهد بأسلوب شيّق رغم القلق والعدوان؛ ليشكلوا بذلك لوحة فنية، أظهروا فيها قدرتهم على تشكيل سيمفونية خاصة للحرب متشابكة الخيوط، متداخلة “فالإنسان وحده قادر على النظر والتعبير” فما بالكم إن كان (غزّيا) ذاق اللامألوف وويلات الحروب.
ونخلص إلى القول إن كتاب “كتابة خلف الخطوط.. يوميات الحرب على غزة” بأجزائه الثلاثة، هي نواة لأرشيف الحرب على غزة بجانب الصور الفوتغرافية، ويعود الفضل لوزارة الثقافة الفلسطينية.