أمد/
صدرت رواية “ذاكرة في الحَجْر” للشّاعرة الإعلاميّة كوثر الزين عن دار الأهليّة للنّشر والتّوزيع في العاصمة الأردنيّة عمّان. تقع الرّواية الّتي صمّم غلافها يوسف الشّايب في 165 صفحة من الحجم المتوسّط..
رواية إنسانيّة أكثر من رائعة غاصت في علم النّفس والاجتماع والسّياسة والتّاريخ بلغة شاعريّة ممتعة بعيدة عن المباشرة.
تناولت ما يعانيه المواطن العربيّ من غربة وصعوبات في وطنه، جرّاء الأنظمة القمعيّة، وما يكابده في منفاه من خلال رحلة حياة بطل الرّواية عربي منذ طفولته، حين رأى الاعتقال الوحشيّ لوالده، الذّي كرّس عمره للدّفاع عن أمّته ومبادئه أمام عينيه، فتخشّب جسده، وتبوّل على نفسه، ممّا جعل عقدة الخوف والحذر تلازمه في حياته.
لم يكن والده يعلم أنّه حمّله وزرا حين سمّاه عربي، الذي كان كشبهة أو وصمة عار في بلاد الغربة، كما سبّب له اسم أبيه المشاكل في بلده، إذ أودى به للاعتقال والتّعذيب بسبب تاريخ والده المعارض للنّظام.
عربيّ حامل شهادة الماجستير في هندسة الحاسوب مع خبرة خمس سنوات، واسع الثّقافة، يهرب من وحدته وكآبة واقعه مسافرا عبر الكتب في مكتبة والده.
ارتبط عربيّ بتيماء التي اختارتها أمّه زوجة له لما تمتلكه من صفات تشبهها، جميلة صالحة تبذل كلّ جهدها لإسعاده رغم بساطتها، وقلّة ثقافتها، في حين فشلت علاقته بتالا زميلته في الجامعة اليساريّة كثيرة المعرفة، التي نعتته بالغرور والأنانية، وهنا إشارة أنّ نجاح العلاقات لا يقاس دائما بقدر التّشابه فيها.
يدخل عربيّ المعتقل ويصف ما يراه هناك من أصناف العذاب وويلاته مشبّها إيّاه بالمسلخ، مكّنه ذكاؤه من نيل الإفراج والهرب، ليجد نفسه بعدها معتقلا لدى جماعة داعش، لكن ثقافته الدّينية أسعفته؛ ليبدو معارضا للنّظام، حتّى جعلوه نائب أمير الجماعة وسمّوه أبا مسلم.
ولأنّ “مصائب الحياة كفيلة أن توحّد بين المغتربين في الأرض”، جمعت بينه وبين جيلان السّبية الإيزيديّة التّي أهدوها له، فأحسن معاملتها كأخ لها، وساعدها على الهرب وسلّمها لعمّها، وترك معها كردان”مصاغ” أمّه أمانة لديها، ثمّ هرب مرّة أخرى إلى أوروبا بمساعدة تجّار الأزمات والإنسانيّة، الذين طالما حذّرته أمّه منهم بقولها:” إيّاك يا عربي أن تثق بمن يقبض ثمن مساعدتك سلفا، ناهيك عن أن الرّاشي والمرتشي في النّار.” التقى هناك بالصّحفية النّاشطة الإنسانية أوود التّي أحبته وأحبّها ووثقت به ودعمته، وكانت على مقياس عقله وروحه، وساعدته في الحصول على أوراق الإقامة، وهنا انتصار للإنسانيّة والحبّ على اختلاف الأصول والسّلالة والدّين.
ظهرت إنسانيّة أوود ونزاهتها ومصداقيّتها حين كشفت زيف الوجه الحقيقيّ للغرب، وما يتغنّى به من عدالة مصطنعة بقولها له: لا يغرّنّك حريّاتنا وديمقراطيّتنا الغربيّة كثيرا، هي اسم يفتقر إلى مسّمى حقيقيّ، بدليل أنّنا نؤمن بها داخليّا، وننتهكها خارج حدودنا، ومع غيرنا.ليس كلّ ما يلمع ذهبا.
لكن الدّنيا كعادتها مع عربيّ تمرّ سريعا على مواسم فرحه، وتضيق به بفقدان أوود بمرض السّرطان، يحاول بعدها قتل الفراغ الذي خلّفه غياب أوود بالعثور على أحد من ماضيه، باحثا عبر الفيسبوك الذي لم يكن من محبّيه منتحلا اسما افتراضيّا، يبحث عن تيماء وجيلان وتالا، فلا يتمكّن إلا من الوصول لمعلومات عن تالا فيتفاجأ بزواجها من أحد مافيات الاقتصاد، وعيشها حياة البذخ متنازلة عن مبادئها الشّيوعيّة السّابقة، وهذا حال الكثير من النّاس تسقط مبادؤهم أمام أوّل حفنة دولارات.
تستمر رحلة كبد عربي بإصابته بالقرحة جرّاء شربه الخلّ؛ ليقي نفسه من شرّ فيروس كورونا، إذ تمّ استدعاؤه أمنيا، لضبط الأجهزة الأمنيّة له وهو يشتري الخلّ بكميّات كبيرة، ممّا دفعهم للبحث في ملفّه الأمني، فاكتشفوا بذلك أنّه هو ذاته “أبو مسلم” واعتقلوه.
بدأت الأحداث باعتقال وانتهت باعتقال بعده موت، حتّى “مشرق” قطّة عربي التي كانت ملازمة له ماتت، ولم يتمكّن من دفنها بسبب اعتقال السّلطات له.
يتجلّى في الرّواية أثر الأمّ والأب في حياة عربي، من خلال حضور نصائح أمّه التّي كانت تحذّره من السّياسة دائما؛ حتّى لا يلقى مصيرا كأبيه كتخيّلها تقول له أثناء هجرته:” اتّكل على ربّك ودعائي تنجو يا ولدي” محذّرة له من المهرّبين، ونصائح أبيه الذي كان له كلّ الأثر في ثقافته التّي كانت مخرجا له في مواقف كثيرة في الرّواية، حتّى بعد فقدانه مثل تخيّله وهم مهاجرون على المركب يقول له: “كن أبيّا يا عربي وإيّاك أن تستسلم.”
وكان للأسماء رمزيّة محكمة كما في اسم عربي ومشرق، إذ لم يحصر البطل بجنسيّة معيّنة ، فهذا حال الكثير من المواطنين في الدّول العربيّة.