أمد/
الوبش رواية للأديب جميل السلحوت، إصدار مكتبة كلّ شيء حيفا(2024)، تنسيق شربل إلياس.
تقع الرواية في 171 صفحة من القطع المتوسط.
“الوبش”، جمعها أوباش وهم الأخلاط والسفلة من الناس. يتّضح من العنوان أن الكاتب يسلّط الضوء على هذه الفئة من السفلة في المجتمع، فمن قصد الكاتب بالوبش؟
تتسم روايات السلحوت بالواقعيّة، وهي بذلك تنتمي للتيّار الواقعيّ في الأدب، الذي تعرّفه ويكبيديا بما يلي: هو محاولة تصوير الحياة تصويرًا واقعيّا دون إغراق في المثاليات، أو جنوح صوب الخيال”. كما يمكن اعتبار السلحوت كاتبا اجتماعيّا متميّزا؛ ذلك لأنه اهتمّ بالكتابة عن قضايا مجتمعه، الاجتماعيّة والفكريّة والثقافيّة والسياسيّة؛ فأنتج الكثير جدّا من الروايات في هذا المجال.
في روايته الوبش، سلّط السلحوت الضوء على عدّة قضايا اجتماعيّة وعادات وتقاليد قديمة لا زالت موجودة في بلادنا، وفي بعض البلدان العربيّة، من هذه القضايا:
-السحر والشعوذة، والاستخفاف بعقول الناس.
من أبز المشعوذين والفتّاحين في الرواية، الفتّاح أبو ربيع والفتّاحة مبروكة.
التفّ أبو ربيع على مجموعة محتالين يتستّرون بالدين ويتظاهرون بالورع، وصار واحدا من صبيانهم اللّصوص، الذين يسرقون لصالح مشغّليهم، علّموه فنون الدّجل والشّعوذة؛ فأطلق ذقنه وحلق شاربيه بناء على تعليماتهم، وهذا اللباس واحد من متطلّبات خداع الناس للنصب والاحتيال عليهم، ولما شبّ واشتدّت عضلاته انفصل عنهم وامتهن الشّعوذة؛ فوجدها مصدر رزق دافق لا ينضب” (ص 87-88). وحين كانت تأتي إليه النساء ليعالج عقمهنّ، كان يدّعي أنّ جنيّا يسكن أرحامهنّ، ولكي يطرده يجب عليه مضاجعتهنّ، وقد حملت منه عدّة نساء دون أن يجرؤن على البوح بما فعله بهنّ من أعمال مشينة، تخالف العرف والدين. كما عاشر الفتّاحة مبروكة وكان خليلا لها قبل زواجها وبعده. وحين غادرت مبروكة البلد ورحلت دون علمه؛ خاف أن يفتضح أمره، فانعزل في بيته، حلق شعر رأسه وذقنه وغيّر ملابسه؛ كي لا يعرفه أحد، وحين قرّر أن يحجّ بيت الله، سرق في الحجّ محفظة أحد الحجّاج، وصدف أن رآه رجلا أمن، فقدّماه للمحكمة الشرعيّة التي أقامت عليه الحدّ وقطعت يده اليسرى من الرسغ. وبعد عودته من الحجّ وافتضاح أمر السرقة توفيّ في بيته.
اتصّف أبو ربيع بكلّ صفات النذالة وانعدام الأخلاق، ففتك بأعراض الناس، واحتال عليهم وجنى منهم الكثير من الأموال؛ فاستحقّ بذلك لقب الوبش.
أمّا مبروكة فهي فتّاحة نصّابة محتالة، جنت الكثير من الأموال من الناس، والغريب أن الكثير من النساء يصدّقنها، فكانت تبصق في فم المرأة لتعالجها، أو تدّعي أن جنيّا يتلّبسها وعلى أهلها ضربها لإخراج الجنيّ من جسدها، وغير ذلك من الترهات. وبينما تدّعي مبروكة الورع والايمان، تقيم علاقات جنسيّة مع العديد من الرجال أمثال: أبو ربيع وعدنان الجحش. وعدنان هذا كان شابّا أصغر منها، فكانت تدفع له المال؛ كي يعاشرها ويشبع نزواتها، وبعد اختفاء مبروكة ورحيلها، ابتزّ عدنان الجحش الكثير من المال من أبي ربيع.
مقابل ذلك يذكر السلحوت في روايته أن الكثير من الشباب والفتيات لا يؤمنون بالشعوذة، فعمر مثلا أخو ليلى، كشف ألاعيب مبروكة ووجد عندها خليلها عدنان الجحش وضربه وضربها، وأخذ منها ألف دينار التي أخذتها من والدة موسى لعلاج ابنها موسى وأخته ليلى، كما أنّه منع أهله من ضرب أخته لإخراج الجنيّ من رحمها.
كذلك ليلى لم تؤمن بكلام مبروكة ورفضت أن تزورها:” صحيح أنّها ضحكت كثيرا من سخافات البعض ممّن استمعن للمحتالة الحاجّة مبروكة ، عندما قالت بأنّ جنيًّا كافرا يتلبّسها ويستوطن رحمها، لكنّها لم تستطع إقناعهنّ بحقيقة مبروكة التي كانت تحتال عليهنّ وتأخذ نقودهنّ القليلة”.(ص8).
مقابل قضيّة الشعوذة والسحر يأتي السلحوت بموقف الدين. يقول ربيع لوالده: في المدرسة علّمونا أنّ للجنّ عالمهم الخاصّ، ولا علاقة لهم بالإنس. وهذا اليوم سألت إمام المسجد الكبير في المدينة وهو شيخ أزهريّ، فأكّد ما تعلّمته في المدرسة”. (ص 116). ومّما قاله الإمام لربيع:” الجنّ موجودون يا ولدي لقوله تعالى:” وما خلقت الإنس والجنّ إلا ليعبدون”. لكن للجنّ عالمهم الخاصّ ولا علاقة لهم بالإنس”. ص114.
-العذرية وغشاء البكارة.
لا زالت بعض المجتمعات تربط عذرية وعفاف المرأة بفضّ غشاء البكارة في ليلة الدخلة، إذ تطلب الحماة رؤية دم عروسة ابنها بعد الجماع. في الرواية طلبت أمّ العريس موسى رؤية الدمّ؛ لتتأكد من فحولة ابنها وعذرية العروس ليلى. هذا الأمر جعل موسى يعجز عن معاشرة زوجته ليلى، وقد مورس على موسى ضغط اجتماعيّ رهيبً، فلاحقته ألسنة الناس وعيونهم، ممّا أثّر ذلك عليه؛ فلم يتمكّن من معاشرة زوجته رغم مرور سنة كاملة على زواجهما؛ حتّى لقبّه الناس “الطواشي”.
والطواشي مفردة تركية تعني الخادم الخصيّ، وهو لقب شاع في زمن الأتراك والمماليك، في مصر يطلقونه على خدمهم المقربين، وكان هؤلاء الطواشية يتولّون كثيرا من المهام الخاصّة للملوك والأمراء، وقد يصلون إلى درجة الإمارة.
قرّر موسى ترك زوجته وأهله والرحيل إلى بلد أجنبيّ بعيدا عن الضغط الاجتماعيّ. وهناك تزوّج من أجنبيّة، ونجح في معاشرتها وأنجب ثلاثة أولاد، وعمل في التجارة وكوّن ثروة. فأرسل لأهله مبلغا كبيرا من المال، مما ساعد والده في فتح دكّان في القرية. وعندما عاد موسى مع زوجته وأولاده قرّر التبرّع لبناء مدرسة جديدة في قريته، وهنا إشارة ذكيّة من الكاتب إلى أهميّة العودة للوطن والتبرّع من أجله.
أمّا سميح الذي أحبّ غادة وأقام معها علاقات جنسيّة في الحقل قبل الزواج، فقد ابتكر طريقة للاحتيال على والدته ليثبت عذريّة زوجته، إذ جرح إصبعه ووضع الدم على سروال غادة الداخليّ، دليلا على عذريتها وفحولته؛ فزغردت والدته(ص 97). إنّ سلوك سميح يشير إلى استهزاء الشباب بموضوع العذريّة.:” زالت مخاوف غادة بعد ذلك بينما استسخف سميح هذه العادات”.(ص 97). لكنّ سميح مع ذلك، يلوم غادة لأنها وافقت على تسليم جسدها له قبل الزواج. وفي هذا إشارة إلى تأثير الأفكار السائدة في المجتمع، بما يتعلّق بموضوع العلاقات العاطفيّة قبل الزواج، على الشباب.
-البرّ بالوالدين:
اعتنى ابن الجدّة صفيّة بوالدته العجوز جيّدا، كما اعتنت بها زوجته.:” فالكنّة تتفقدها في أوقات الطعام، تنظّف غرفتها يوميّا، تساعدها على الاستحمام مرّة كلّ يومين، تغسل ملابسها كما عوّدت ابنتها البكر وداد أن تنام في غرفة جدّتها؛ لتؤنسها، ولتخدمها بأشياء قد تحتاجها”(ص46).
-النظرة الدونيّة للمرأة: يسلّط الكاتب الضوء على نظرة المجتمع الدونيّة للمرأة وخاصّة المطلّقة، وقد تطرّق إلى هذا الموضوع في عدّة روايات. منها المطلّقة، الأرملةـ الخاصرة الرخوة وغيرها.
وممّا جاء في رواية الوبش أنّ عمر سأل والده ما الفرق بين طلاق المرأة والرجل. فأجابه الوالد:” الناس يا ولدي لا يرحمون النساء. ونظرتهم للمرأة المطلّقة لا منطق فيها”(ص29). هذا الأمر استفزّ عمر الذي قال:” من يغتاب ليلى بسوء سأقطع لسانه، ومن ينظر إليها بسوء سأقلع عينه”.(ص 29). في إجابة عمر دليل على التغيير الذي يحدث عند الشباب في قضيّة طلاق المرأة، وهذا بدون شك أمر جيّد.
أمّا ليلى فقد بكت كثيرا بعد طلاقها:” صحيح أنّها ارتاحت من ارتباطها بموسى لكنّها تبكي حظّها العاثر، وكيف سيرافقها لقب مطلّقة وهي لا زالت عذراء”.(ص 28).
وقد استعان الكاتب بأمثال شعبيّة يتداولها الناس وتظهر دونيّة المرأة منها:” البنات مثل خبيزة المزابل يكبرن بسرعة”. ص84. :” شاوروهن وخالفوهن”(ص160).
بيّن الرواية موقف الشرع من الطّلاق الذي لا يحصل فيه الجماع، إذ يحق للزوجة في هذه الحالة، طلب الشّقاق إذا لم يتمكّن زوجها من معاشرتها، ويحق لها مهرها وعليها الالتزام بالعدّة:” قال القاضي: سأصدر قرارا بالتفريق بين ليلى وموسى. ويحقّ لليلى مهرها المؤجّل والمعجّل ونفقة ثلاثة أشهر العدّة”.( ص27 ). وحين سأل عمر المحامي: هل العدّة واجبة على ليلى رغم عدم معاشرة زوجها لها؟ همس له المحامي: “الخلوة تعادل الدخول وبما أنّ الخلوة حصلت، فالعدّة أصبحت واجبة”.(ص 27). وقد استعان الكاتب بما رواه الإمام أحمد والأثر بإسنادهما عن زرارة بن أبي أوفى قال:” قضى الخلفاء الراشدون أنّ من أرخى سترا، أو أغلق بابا فقد وجب المهر ووجبت العدّة” ص44.
اللغة في الرواية:
اتسمت اللغة بالواقعيّة وبكثرة التناص من التراث الشعبيّ ومن الدين، فعكست بذلك ثقافة الناس ومعتقداتهم. من الأمثال الشعبيّة التي وردت في الرواية: “المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين”. (ص7). :” اللي بعرف بعرف واللي ما بعرف بقول في الكفّ عدس”(ص10).
:”اللي بيته من قزاز ما براجم حجار على بيوت الناس”.(21). :”علّمناهم الشحدة سبقونا على الأبواب”.(ص21).:” بكرة بذوب الثلج وببان المرج”.(ص 23).:” شرّ البليّة ما يضحك”(ص33). ومن التعابير باللغة الدارجة ما يلي:” يا غبرا يا مدهيه حطّيت اللي فيك فيّ(ص7). :”نصّ الألف خمسميّة واللي بنزل من السما بتتلقاه الأرض”(ص8).ربي يجازي اولاد الحرام اللي ما بناموا ولا بخلّوا الناس يناموا”(ص17).
ومن الأغاني الشعبيّة التي كانت ترددها النساء المعنّفات والأرامل والمطلّقات:” بختي ردي وفقّوستي مُرّة واللي جرى لي ما جرى لحُرّة”(ص28).
ومن أغاني الأعراس: “يخلف عليكم كثّر الله خيركم لفّينا البلد ما لاقينا غيركم”(ص 101).
ومن المهاهاة ما يلي:
” أويها أجيت أغنّي وقبلي ما حدا غنّى
أويها بقاع وادي فيه الطير بيستنّى
أويها وريتك يا سعيد بهالعروس تتهنّى
أويها وتظلّ سالم ويظلّ الفرح عنّا”(ص 83
من التناص الديني استشهد الكاتب بالعديد من الآيات القرآنية مثل:” يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين”(ص139). :” يا أيّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظنّ إنّ بعض الظنّ إثم ولا تجسّسوا ولا يغتب بعضكم بعضا….”(ص139).
رواية الوبش هي رواية اجتماعيّة شائقة وهادفة، يكافح الكاتب فيها موضوع الشعوذة والسحر، وبعض المعتقدات الغريبة والسخيفة التي يؤمن بها بعض الناس خاصّة من الجيل القديم، في حين يعارض معظم الشباب هذه المعتقدات، لكنّ الكثيرين منهم لا يجرؤون على محاربتها، وقد تكون رسالة الكاتب من هذه الرواية، تشجيع الشباب لحمل راية الفكر والمنطق والعقل والدين، لتكون نافذة لتغيّير المجتمع إلى الأفضل والرقيّ بأبنائه بعيدا عن المعتقدات والخرافات والشعوذة.