أمد/
في زياراته، هذا الأسبوع، إلى تل أبيب وبيروت، التقى المبعوث الأمريكي عموس هوكشتاين، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير أمنه يوآف غالانت، ورئيس الدولة، يتسحاق (بوجي) هرتسوغ، وزعيمي المعارضة يئير لابيد وبيني غانتس. واجتمع في لبنان مع رئيس مجلس النوّاب نبيه بري، ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، ووزير الخارجية عبد الله بو حبيب، وقائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون. بدأت جولة هوكشتاين يوم الإثنين، بزيارة إسرائيل، تلتها الثلاثاء زيارة لبنان، ثم عودة إلى إسرائيل. وأكّد هوكشتاين بأنه جاء إلى المنطقة بتكليف شخصي من الرئيس الأمريكي جو بايدن، بصفته يشغل رسميا منصب مستشار الرئيس لشؤون الطاقة ومبعوثه الخاص للشأن اللبناني – الإسرائيلي. وحمل المبعوث الأمريكي معه رسالة محورية، كررها في جميع اللقاءات، ومفادها أن إدارة بايدن تسعى لمنع التصعيد الحدودي بين حزب الله وإسرائيل، وتخشى من تدهور الأوضاع نحو حرب شاملة وحتى إلى حرب إقليمية تشارك فيها إيران.
هوكشتاين هو صهيوني حتى النخاع مثل رئيسه بايدن، وهو إسرائيلي-أمريكي، نما وترعرع في الدولة الصهيونية، وأدّى خدمته العسكرية في سلاح المدرعات. هو ليس وسيطا، وبالتأكيد ليس وسيطا محايدا بين الدولة الصهيونية وحزب الله، فهو إلى جانب انتمائه المعلن والمعروف، مبعوث دولة هي أهم وأكبر وأقرب حلفاء إسرائيل وسندها الاستراتيجي الثقيل، وهي معادية لحزب الله من الألف إلى الياء. وكذلك هو ليس ساعي بريد يكتفي بنقل الرسائل بين الطرفين، بل يمثّل طرفا ثالثا له رؤيته المستقلة وموقفه المتميّز في الكثير من تفاصيله عن الموقف الإسرائيلي.
الطرف الثالث
بعد السابع من أكتوبر، حرصت الإدارة الأمريكية على التحذير من حرب إقليمية، ووجهت تهديدات مباشرة، على لسان الرئيس جو بايدن، إلى كل من يفكّر في توسيع الحرب بأن «لا تفعل!»، وأرسلت حاملات الطائرات الضخمة وضخت إسرائيل بشحنات هائلة من الأسلحة والذخائر، وأظهرت استعدادا للتدخل وللتصدّي لأي محاولة لاستغلال الأوضاع وشن حرب إقليمية. ولم يتغيّر هذا الموقف الأمريكي، بل زاد توكيدا في ظل اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية وارتفاع منسوب الخشية من التورّط مجددا في حرب إقليمية في الشرق الأوسط. كان بمقدور الإدارة الأمريكية أن تبلغ نتنياهو هاتفيا (أو بالواتساب) بأنّها تعارض حربا شاملة على لبنان ولن تدعمها بالذخائر وبالغطاء السياسي والمالي. عندها لن يجرؤ نتنياهو على شن الحرب، وسيخضع للضغط الأمريكي. الولايات المتحدة تستطيع لكن لا تريد أن تضغط على حليفتها المدللة، وتسعى لإقناعها واسترضائها وإلى الضغط على الطرف اللبناني للقبول بشروط إسرائيل في سبيل منعها من شن الحرب الشاملة على لبنان. هدفت جولة هوكشتاين إلى العمل لوقف تصعيد الأعمال القتالية بين حزب الله وإسرائيل، خشية حدوث انفلات يؤدي إلى حرب شاملة وربما حرب إقليمية تدخل إليها إيران، وقد تتورّط الولايات المتحدة فيها. كما هدفت إلى تعبيد الطريق لمسار يؤدي إلى اتفاق يمنع نشوب الحرب. وربما ترى الإدارة الأمريكية أن مجرد إظهار إمكانية جدية للتوصل إلى اتفاق سيردع القيادة الإسرائيلية عن المغامرة في حرب طاحنة خطيرة. هوكشتاين استمع بالتأكيد إلى الرأي الذي يتردد كثيرا في خطاب قسم من النخب الإسرائيلية، ومفاده أن النهاية ستكون التوصل إلى اتفاق، والسؤال هل سيجري ذلك مع تجنّب الحرب، أم بعد خوض غمارها؟ ويقود هذا المنطق أصحابه إلى الوصول الى أنه لا فائدة ترجى من المغامرة الحربية، والمفضل بدرجات التوصل الى صفقة تمنع الحرب وتفتح الباب أمام عودة النازحين الإسرائيليين إلى مستوطناتهم الحدودية. المسؤولون الأمريكيون معجبون بهذا الكلام ويحاولون إقناع نتنياهو به، لأنه هو صاحب قرار الحرب واللا حرب في الدولة الصهيونية. رسالة هوكشتاين إلى القيادة الإسرائيلية هي التوقّف عن توسيع وتصعيد القتال على الجبهة اللبنانية، لأن ذلك قد يؤدي الى حرب كبرى تشارك فيها إيران، والتعويل في المقابل على حل أمني ـ سياسي – دبلوماسي يكفل «المصالح الإسرائيلية الأساسية». هوكشتاين جاء ليمنع الحرب، لكنه قد لا ينجح بالذات لأنه يحذر من حرب «تشارك فيها إيران»، وهذا حلم نتنياهو القديم، شرط ضمان انخراط الولايات المتحدة فيها. نتنياهو يحاول ابتزاز التزام أمريكي بدعم حرب إسرائيلية على لبنان، إذا رفض حزب الله مقترحات الحل الأمريكية، ولا دليل، حتى الآن، على أن الولايات المتحدة رضخت لهذا الابتزاز. يبدو إلى الآن أن الإدارة الأمريكية «صامدة» في موقفها الرافض لحرب شاملة على لبنان تبادر إليها إسرائيل.
شروط الحرب
تكاد النخب الأمنية والسياسية في الدولة الصهيونية تجمع على أنه لا بد من حرب على لبنان في توقيت ما في السنوات المقبلة، لتدمير القدرات القتالية لحزب الله. وتُشتق هذه الدعوات من إزاحة مركز الثقل في مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي من الاتكاء على ركيزة الردع إلى الاعتماد على استراتيجية المنع. وإذ ينطلق مسعى الردع من غرز القناعة لدى الطرف الآخر بالامتناع عن الهجوم لثمنه الباهظ ولخطورته الكبرى، فإن المنع لا يعتمد القناعات، بل يهدف إلى تدمير القدرات القتالية. هذا التغيير الكبير في الوزن النسبي لركائز مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، الذي سببته صدمة السابع من أكتوبر، سيكون له أثر وازن على استراتيجيات الآلة العسكرية الإسرائيلية على كل الجبهات. النقاش في إسرائيل هو بين الداعين لاستعجال الحرب واستغلال «الفرصة» والمطالبين بتأجيلها وشنها في الموعد الذي تختاره إسرائيل، لا الذي يفرضه حزب الله. ويرشح من مجمل النقاشات والتحليلات الإسرائيلية أن هناك عدة شروط لشن حرب شاملة على لبنان:
أولا توفّر الذخائر والأسلحة بالكم والكيف المناسبين، وهناك «حوار» بين إسرائيل والولايات المتحدة حول هذا الموضوع. وقد يفضي هذا الحوار إلى حل وسط بأن تستعمل إسرائيل الذخائر والأسلحة التي تطالب بها لإطلاق تهديدات «لها رصيد» وللدفاع عن النفس (العدوانية)، والالتزام ـ على الأقل- بإشراك الولايات المتحدة في اتخاذ قرار الحرب.
ثانيا: شرعية داخلية وهي قائمة أساسا على «معاناة النازحين» من المستوطنات الحدودية، وتزداد وزنا تبعا لإقناع القيادة الإسرائيلية شعبها بأنها حاولت التوصل إلى اتفاق، وحزب الله هو الذي رفض ولم يترك لها خيارا سوى شن الحرب.
ثالثا، شرعية دولية، وهي ليست موجودة حتى عند الولايات المتحدة. والسؤال المحيّر إسرائيليا هو هل ستدعم الإدارة الأمريكية إسرائيل إن هي شنّت الحرب من دون الحصول على موافقة أمريكية مسبقة؟
رابعا، ماذا ستكون حالة الاقتصاد الإسرائيلي في ظل التكلفة المهولة لحرب من هذا النوع، والتي تشمل شل الحياة الاقتصادية في مناطق واسعة، وغياب مئات الآلاف عن العمل والدمار الهائل المتوقع من قصف مرافق أساسية وتعطيل الكثير من الاستثمارات وخطوط الإنتاج. هناك سؤال كبير حول قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على تحمل حرب على لبنان.
خامسا، الانتهاء من القتال الكثيف في غزة، لأن الجيش الإسرائيلي يجد صعوبة كبيرة في خوض حرب طاحنة على أكثر من جبهة.
الحل البديل
حتى لو توفرت هذه الشروط الخمسة فإن القيادة الإسرائيلية ستحسب ألف حساب قبل المغامرة بالحرب. فهناك توقعات بأن تؤدي حرب طاحنة مع حزب الله إلى سقوط عشرات آلاف القتلى في إسرائيل وإلى تدمير بنى تحتية حيوية في مجالات تخزين وإنتاج الطاقة والكهرباء وتزويد المياه، إضافة إلى تدمير مواقع عسكرية وموانئ ومطارات ومصانع عسكرية ومدنية ومرافق كثيرة أخرى. وقد حذر هوكشتاين الإسرائيليين من أن دفاعاتهم الجوية غير قادرة على اعتراض آلاف الصواريخ تطلق دفعة واحدة.
أكثر ما يثير النقاش في إسرائيل هو مصير «النازحين» من المستوطنات الحدودية، والذين يصل عددهم الفعلي إلى حوالي مئة ألف. هؤلاء لن يعودوا الى البيوت التي هجروها، إلا إذا اطمأنّوا بأن لا تهديد عليهم من لبنان، وضمنوا ألا يصيبهم ما أصاب مستوطنات «غلاف غزة» في السابع من أكتوبر. ومن هناك تأتي المطالب بإبعاد قوات حزب الله عن الحدود وبنشر قوات دولية في جنوب لبنان. وطرح بعض القادة الأمنيين السابقين السؤال: ما العمل إذا فشلت جهود التوصل الى اتفاق، وكان توقيت الحرب الحالي غير ملائم. جاء أحد الأجوبة من أقرب الجنرالات إلى نتنياهو، وهو يعقوب عميدرور، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي. واقترح عميدرور تأجيل الحرب لسنة أو سنتين والقيام ببعض الخطوات لإعادة المستوطنين النازحين. وتشمل الخطة المقترحة ثلاثة مركبات: أولا، زيادة حجم القوات المرابطة على الحدود بثلاثة أضعاف، ثانيا، تسليح المستوطنين بشكل جدّي وتنظيمهم في فرق عسكرية قتالية، ثالثا، تطوير السياج الحدودي بشكل كبير ليصبح عائقا يصعب اجتيازه، إضافة إلى خطة شاملة لإعادة الإعمار والدعم الاقتصادي للمستوطنين العائدين إلى مستوطناتهم المهجورة حاليا.
لقد أعلن حزب الله بأنه سيوقف إطلاق النار فقط بعد انتهاء الحرب على غزة. ولكن إسرائيل لن تكتفي بالعودة إلى معادلة «هدوء مقابل هدوء»، وتريد تغيير الوضع القائم على حدودها مع لبنان. والسؤال هل سيكون ذلك بالحرب أم بالاتفاق؟ الصورة الآن قابلة للذهاب بأحد الاتجاهين، ولربما باتجاه ثالث هو لا حرب ولا اتفاق.