أمد/
“إن العمل الفني مهما بدا منتهيا،فهو ليس كذلك،بل يحتاج دوما إلى من يكمله،وهو في أثناء هذه العملية لا يمل من الاستزادة ” .
ليس بالإمكان تسمية تلك القراءات التي تمسح بحنوٍ،على السمات السائدة والمبثوثة في ثنايا النص أي نص على أنها تنتمي للنقدِ أو الكشف لأنها لا تضيف للمتلقي أي معلومةٍ تدلهُ على الجوانيات الجمالية التي تعجز عينهُ عن الإمساك بها..
ولذا،على الناقد أن يكون واسطةُ ربطٍ بين الجملة ومتداوليها وذلك بقيامه،بهتك الظلال التي يحاول الشاعر الإختفاء وراءها،ليبدو لقارئهِ،أشبهُ ما يكون بالطلسم.
ان إستخدام الخلخلة والتشكيك في قصيدة النثر،عملاً ليس جديداً على الشعر،بل إستخدمهُ الشعراء منذُ ظهور بواكير الشعر الأولى..لكنَ الجديد الذي طرأ عليهما في قصيدة النثر،هو إدخالهما مدخلاً نفسياً وبيئوياً وذهنياً،بعد أن كانا جزءً من دلالةٍ أو إشارةٍ يقصد من وراءهما الحصول على الابهار ومحاولة لإعطاء القاريء إنطباعاً عن قدرة الشاعر المهارية في الإبتكار والتعبير..
ولذا نجد أن قصيدة النثر،إتخذت من الخراب قناعاً للوصول لجماليات الروح،بإعتقاد،ان لا جمال إلا بعد تخريبٍ،ولا ضوءَ إلا بعد تخريم جدار العتمة..!
هذا الخرابُ بمعناه التقني يعطي لقصيدة النثر خصوصيتها،وهي تلعب على مبدأ التناقضات،والتضادات،سواء في اللغة أو معناها..
أردتُ من خلال هذا الإيجاز،أن أبينَ انهُ في الشعر عموماً،وفي قصيدة النثر بشكل خاص،ليس هناك حقائق ثابتة،وإنما،هناك إحتمالاتٌ متعددة.
الكشف عن شخص القصيدة في النص الشعري،كشف عن آليات الخطاب الشعري،ومدى انفتاحه على تجليات اللحظة الإبداعية التي تشكل بؤرة البوح،وبؤرة الانبثاق الإبداعي،وفي تقصينا لقصيدة الشاعر التونسي القدير د-طاهر مشي: “رسالة إلى سيدتي” وجدنا ثمة إشارات كثيرة يمكن لها أن تكشف عن شخص القصيدة لديه،سواء في المعنى أو في المبنى،وسوف نتوقف عند إشارتين مثلتا إيقاعا يمكن أن ينسحب على التجربة الشعرية فيما يخص هذه القصيدة،وهاتان الإشارتان أو الظاهرتان،هما بحث القصيدة عن ظل المعنى،وظاهرة التماهي بين الأنثى والقصيدة،التي مثلت ظلا يكتنه فعل التخصيب،وفعل التحدي،الفتنة والغواية في النص الشعري.
إنه الصراع الجواني المعتمل والذي يمور في صدر الشاعر حيث الإعلان والكشفُ عنهُ تورطاً،والسكوت عليهِ تكميماً،ولذلكَ نراه يتوغل في جلد الذات،غير أنه يلمّحُ ولايعلن من أن العملة واحدة،وإن إختلفت إستخداماتها هذا الصراع النفسي المستمر،هو عملٌ مقصود،وليس بريئاً كما سيبدو للقاريء .
ان الشاعر يخطط نحو إلغاء الفواصل،محاولة منهُ لدمج كلمات الجملة بمعناها المشترك.
لقد أكّد الشاعر -د-طاهر مشي-في-قصيدته هذه-،على أهمية إستخدام الشعر،كأداةِ تغيير ومحو.
إليك يا سيدتي أكتب رسالة مسائي..مساؤك هذا نبع إرتوى منه خاطري فجاد القلم ..(رسالة إلى سيدتي)
ورمقتك صامتة
توهجت الحيرة على وجنتيك
تداعت من عينيك عبرة وعتاب
إليك أيها الزمان
دوّى صدى الصدر فيك
يمزق الأسماع
ارتعد القلم بين أصابعي
وطار خيالي إليك ولا يزال
يحلق بعيدا
بيني وبينك
يطرق أبواب الرجاء
كي تستقيم العبر
وتندثر على شرفات ذاك المدى
ويمحو صفحات الضياع
ويكبل خاطري
طوق من الأشواق
لتجتمع الأرواح وتتخطى المسافات
رحلة إليك يا سيدتي
فتدق نواقيس الفرح
تزلزل الأضلع حين تعشق
وتهوى الترحال والسفر
ويكون صدرك يا سيدتي لنبضي مقر
وتزهر
اليرقات وترتوي
بعد صيف زاد فيه الظمأ
وتناثرت أشلاء الروح
من بين أصابع خطت
وكتبت آلام جرح
لا يزال في الصدر موطنه
بين هنا وهناك
وبين صبري وعزف القلم
لا أزال يا سيدتي
أكتب إليك
وطيفي على الأرائك متكأ
يناجي ليلك ذاك
ويصافح الروح
علها في أحشاء الليل تندثر
(د-طاهر مشي)
تشتغل القصيدة لدى الشاعر التونسي القدير د-طاهر مشي على مقامين للاستجابة إلى ظل المعنى في القصيدة،مقام الكشف عن خصوصية المفهوم حيث يتجلى الفهم للخطاب الشعري، عبر خصوصية البحث عن الرؤية الشعرية التي تنبثق من ظل المعنى لديها،أي أن الشاعر يستدرج مقامات تشكل المعنى في القصيدة عبر القصيدة ذاتها،والمقام الثاني هو الكشف عن التجليات المختلفة التي ينهض من خلالها شخص القصيدة،وهذه التجليات تتصل بمدى خصوصية الخطاب الشعري،أي الفلسفة التي ينهض من خلالها فهم الشاعر في تعاطيه مع القصيدة،سواء على مستوى الدفع في اتجاه فرض الذات في مجتمع يزدحم ب”المسكوت عنه”كحالة من تجليات المعنى،أو بالكشف عن آلية السؤال التي تعد من آليات البوح الشعري والكشف عن خصوصيته في صدع الثابت،وصدع المألوف.
ومن هنا كان لابد من البحث عن ظل المعنى وعن تجليات ذلك الظل الذي يحمل النص إلى رؤاه،مما يكشف عن خاصية شخص القصيدة في فهم العالم والذات.
القصيدة هنا،تعمل على استحضار العواطف والمشاعر وتثير الفضول والتفكير لدى القارئ،مما يتيح له التأمل والتفسير الشخصي،وبالتالي تصبح قابلة للتفاعل والاستكشاف.عند النظر إلى القصيدة المذكورة والتحليل المقدم لها،ندرك أن التشبيه والاستعارة والصور الشعرية لها دور حاسم في إغناء المعنى وتعزيز التأثير الشعري لهذه القصيدة ( ارتعد القلم..تزلزل الأضلع..تناثرت أشلاء الروح..عزف القلم..) تسهم هذه الأساليب الشعرية في تشكيل تجربة قراءة شاملة وممتعة للقارئ،حيث يتمكن من استيعاب جمالية الشعر وعمقه والتواصل مع المشاعر والأفكار التي يعبر عنها الشاعر.
إن لعبة الحداثة الشعرية بتجلياتها المختلفة خلقت النص الإبداعي المثير،وولدت النص الشعري الجمالي الممانع،هذا النص الذي يغامر بفضائه البصري كمغامرة بفضاء اللغوي وتشكيلاته النصية الآسرة التي تتمرد بالقول الجمالي،والفضاء التشكيلي المعماري الذي يضمن للنص قوامه الشعري التفاعلي المؤثر.
وتعد المحفزات الشعرية لعبة النصوص الإبداعية المؤثرة التي تتلاعب بالقارئ من خلال المؤثرات النسقية الانزياحية المتوهجة التي تجعل نسقاً شعرياً يمتاز جمالياً عن نسق شعري آخر،وترقى قيمة جمالية أسلوبية على قيمة جمالية أخرى،لتظهر المحفزات الجمالية من خلال الشكل الجمالي المميز والحساسية النصية المرهفة بتجلياتها ومؤثراتها النسقية الخلاقة بالمتغيرات والرؤى الجمالية.
ومن يطلع على قصائد الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي الشعرية يلحظ تنوع محفزاتها الشعرية الجمالية من محفز لغوي إلى بصري إلى تشكيلي إلى تصويري إلى عاطفي،أي ثمة تلاعب بالمحفزات الشعرية تبعاً للمثيرات الجمالية التي تفرزها قصائده في توجهاتها النصية ولعبتها الفنية الآسرة..
إن شعرية المحفزات الجمالية-في قصيدة د-طاهر مشي ( رسالة إلى سيدتي)- شاعرية في مردودها وتفاعلها النصي،ولهذا يلحظ القارئ انسجاماً واضحاً بين الصور وتوجهاتها الإبداعية ضمن النسق،وهذا يتبع فاعلية الرؤيا الشعرية وفاعلية منتجها الفني الأساس الذي خلق مثل هذه الصورة الانزياحية البليغة في النسق الشعري.
إن المحفز الجمالي العاطفي في هذه القصيدة العذبة يكاد يطغى عليها،لأن الشاعر يكرس الأنساق التفاعلية التي تحقق اللذة والمتعة في تلقيها،ويعد المحفز الجمالي العاطفي من أكثر المحفزات النصية استثارة وفاعلية جمالية،وهذا لن يتأتى دون فاعلية إيحائية في تكريس الدلالات والمعاني والرؤى الشعرية الخلاقة بمؤثراتها الفنية والدلالية المفتوحة.
وهذا يعني أن شعرية القصيدة تكتسبها من مقدرتها اللغوية وطاقاتها الانزياحية البليغة في الانتقال من محفز لغوي جمالي إلى آخر،ومن مثير تشكيلي تضافري أو تفاعلي إلى مثير لغوي آخر،وفق متغيرات جمالية أسلوبية ترتقي فاعلية الرؤية التشكيلية ومثيرها الفني العميق.
ومن يدقق في قصيدة الشاعر الفذ د- طاهر مشي ” رسالة إلى سيدتي” يلحظ حياكتها الجمالية البليغة ومثيرها الفني الجمالي،الذي ترقى فيه مستويات من الاستثارة واللذة الجمالية،أي إن محفزاتها اللغوية شاعرية في إسناداتها وتشكيلاتها الانزياحية الخلاقة،كما في قوله:
“لا أزال يا سيدتي
أكتب إليك
وطيفي على الأرائك متكأ
يناجي ليلك ذاك
ويصافح الروح
علها في أحشاء الليل تندثر”
وخلاصة القول :هناكَ الكثير إذا في قصيدة الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي: “رسالة..إلى سيدتي”،من الإحالات،الإيحاءات والدلالات المهمة التي تستحق وبجدية الوقوف عندها وتأملها،وخضوعها للتشريح والقراءة،غير أننا لا نريد الإطالة،بغية فسح المجال الى الشاعر، ليريّنا،كيف علّم حمامات جملهِ على الطيران..؟!