أمد/
“إن كتابة الثورة أو الكتابة عنها مختلفان ولكنهما يلتقيان عند الكاتب المُلتزِم الذي يستطيع أن يُزاوج بين الثورة كتجربةٍ إنسانيةٍ وبين الكتابة كمَلَكَةٍ وقُدرة على السفر بالواقع إلى التخييل وتقديمه إلى القرَّاء الذين يمنحونه حيوات أخرى”. ( طه حسين في تلخيصه لأدب الثورة )
شهدت الرواية التونسية -منذ تسعينيات القرن الماضي- تطورا لافتا إن كان على مستوى التراكم الكمي أو التنوع الفني،حتى أصبح المشهد الروائي جزرا،بعضها للرواية الواقعية التسجيلية وبعضها لروايات الخيال العلمي وبعضها للرواية التاريخية،ولكن جزيرة الرواية التجريبية بدأت أكثر حضورا وتألقا في تونس.
وعلى الرغم من مرور أكثر من قرن على ظهور أول رواية تونسية- وهي رواية “الهيفاء وسراج الليل” لصالح السويسي القيرواني التي نشرت تباعا بمجلة “خير الدين” سنة 1906 -فإن العدد الجملي للروايات التونسية قد تجاوز اليوم الأربعمائة رواية.وهو عدد قليل نسبيا إذا علمنا أن الروائي الفرنسي بلزاك وحده،مثلا،قد ألف في القرن التاسع عشر أكثر من مائة رواية،يضاف إلى ذلك انخفاض أرقام السحب بوجه عام،إذ العدد الأكثر تداولا في سحب الروايات بتونس هو ألف نسخة ما عدا بعض الروايات التي أدرجت في أوقات ما ضمن برامج التعليم الثانوي.ولمجرد المقارنة في هذا الباب نشير،على سبيل المثال،إلى أن رواية “ذاكرة الجسد” للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي قد صدرت منها إلى حد الآن أكثر من عشرين طبعة تجاوزت مجتمعة الخمسين ألف نسخة. وهو الكم نفسه تقريبا من النسخ التي سحبت من مائة وثمانين رواية تونسية.لكن ضعف حضور الرواية في الدورة الثقافية ليس كميا فحسب بل من جهة العناية النقدية أيضا.ذلك أن ثلاثة روائيين فقط استقطبوا فعلا اهتمام النقاد هم محمود المسعدي (صدر في شأنه قرابة الثلاثين كتابا) والبشير خريف (أطروحة مرحلة ثالثة وعدة ندوات صدرت إحداها في كتاب) وإبراهيم الدرغوثي (تم تناول أعماله الروائية في خمسة كتب فردية وجماعية)،مع الإشارة إلى أن الروائي،بخلاف الشاعر أو الناقد أو الكاتب المسرحي،لا وجود له خارج عملية القراءة.وذلك لاستحالة وقوفه أمام الجمهور لقراءة رواياته.
وبالعودة إلى التجربة الروائيّة التونسيّة،لا غرو أنّ بعض الرّوايات المثيرة للجدل لم تستطع شقّ طريقها إلى عالم النّشر في تونس إلّا بعد الثّورة،مثل رواية «حارة السُّفهاء»الصادرة عام 2013،للكاتب والمترجم التونسيّ علي مصباح،والتي بقيت حبيسة الأدراج لعشر سنوات،دون أن يُقدم على نشرها.تقدّم الرواية تأريخًا لنظام الحكم السياسي الحديث في تونس،وتحديدًا فترة انقلاب الرئيس التونسيّ الراحل بن علي على الزعيم الحبيب بورقيبة.
بأسلوب حاذق وساخر،يوثّق مصباحُ مراحلَ ولادة وموت الزّعيم الديكتاتوريّ المتكرّرة،ويفضح من خلالها الشّعب متورّطًا في السّفاهة عينها مرّة تلو الأخرى،شاهدًا وداعمًا لانتقال الديكتاتور من هامش الدّولة إلى سدّة الحكم.وسرعان ما يحطّم الديكتاتور آمال الشعب،بعد أن صدّقوا أنّ همومه وهمومهم واحدة،أنّه واحد منهم ومثلهم جميعًا: «من التّحت تسلّلت،انسَربت وتَحلّزَنت فطلعت وارتفعت وارتقيت،فوصلت ولم تقدروا ! لستُ مثلكم،ولا أنا منكم.غادرتكم.مسحتُ يديّ وعرضي منكم.انتهيت منكم وسأُنهيكم إن شاء الله!»-1-
يحضر الفضاء الهامشيّ بقوّة في المشهد الروائي التونسيّ بعد الثّورة،فالهامش الذي ينبثق منه الزعيم الديكتاتوريّ،بل ويصعد على ظهره وصولًا إلى السّلطة،هو الهامش ذاته الذي يُشعل الثورة على الأنظمة الديكتاتوريّة.ومن الهامش ذاته،تخرج أصوات تونسيّة جديدة إلى ساحة الأدب الروائي لتكتب الهامش الذي ظلّ يتّسع حتى طال المركز،وأثِّر في قراراته وتوجّهاته.
كتب بعض الروائيّين والروائيّات من الجيل الشابّ عن الثّورة أيضًا،وأخذت قضاياها تتداخل مع همومهم الشخصيّة وعُقدهم النّفسيّة،وتتقاطع مع مشاكلهم العائليّة،وتقتحم أضيق دوائرهم الاجتماعيّة،فشقّت طريقها إلى كتاباتهم بوعي منهم أو دون وعي. لم يكتب هؤلاء «الرواية السياسيّة» مثلما كتبتها النّخبة المُثقّفة من الجيل السياسيّ المُخضرَم،بل كتبوا عن فوضى الثّورة الخلّاقة من موقع الهامش،بأصوات مُغايرة وجريئة ومُتعثِّرة.
هؤلاء الشباب ظهروا في المشهد الروائي الحديث،وقدموا للمكتبة التونسية الجديد من الأعمال المحملة بالتجريب،تبعا لمسار الواقع التونسي،حيث تبدل النظام السياسي،فكان لا بد من صخ دماء جديدة في الواقع الأدبي،ومن هذه الوجوه: سوسن عوري، وروايتها “فندق نورماندي”، وأماني مسعودي في روايتها “بيلادونا”،ومحمد الحباشة في رواية “رجل شارع روما”، وعبير قاسمي وصدرت لها رواية جوليا.ويأتي انطلاق هؤلاء الشباب لعمق المشهد التونسي الروائي،بعد ثورة 2011 الشعبية،وزوال حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي،حيث امتلأت رواياتهم بنغمات جديدة حول الحرية والإنسانية الفائقة،وسرد لملامح الشعوب المنهزمة من الداخل،فكانت منشوراتهم مفعمة بالثورة والرغبة في الحياة من جديد،على الرغم من كل الآلام،وفي الروايات الشبابية هذه تظهر المفارقات حول تفاصيل الواقع التونسي في ما قبل وبعد الثورة،وأزمة الشارع التونسي مع الحكم البوليسي والقمع عبر سنوات طوال.
وإذن ؟
إذا،يافعون وثائرون وحالمون،جيل جديد من الروائيين ينبت في أرض تونس،يستقي إرثه السردي من الأسلاف،الجد المؤسس للرواية التونسية الحديثة محمود المسعدي،ثم الأجيال التالية: حسونة المصباحي والحبيب السالمي وحسين الواد،محمد عيسى المؤدب،كمال الرياحي،وشفيق الطارقي..
لكن على الرغم من امتداد هذا النسب السردي العريق،إلا أن جيل الكتّاب الشباب في تونس يحتفظ ببصمته الخاصة،لكل واحد منهم خلطته المختلفة،في تونس المعاصرة،تونس ما بعد 2011 وما بعد زين العابدين بن علي.لذلك يسهل رصد حضور “الثورة” في روايات الكتّاب الشباب في تونس..
يتواكب بزوغ هؤلاء الكتّاب الشباب في تونس مع ازدهار ثقافي وأدبي قائم على عدة أنشطة وفعاليات،فمن جهة،جاءت دار “مسكيلياني”، لتقتحم سوق النشر العربي وتحظى لنفسها بمكانة رفيعة في المشهد وتقدم أسماء تونسية وعربية قيمة،ومن جانب آخر يلعب “بيت الرواية” التونسي بإدارة كمال الرياحي دورًا حيويًا في تنشيط المشهد الأدبي ورفده بالعديد من الفعاليات والندوات وضخ خبرات لأسماء أدبية عربية كبرى في أوردة السرد التونسي. ومن المأمول أن يزداد إنتاج الرواية التونسية في المدى المنظور لمناطق تجريبية جديدة،إذ كانت الثورة لحظة انطلاق جديدة،كما كان من قبل التخلص من الاحتلال نقطة انطلاق للرواية التونسية، وشهدت الحركة الأدبية من بعدها نشاطا غير مسبوق.ولا ننسى الانفتاح العصري على التكنولوجيا،فقد ساهم في تفكيك كافة المنظومات الأمنية وزيادة الانفتاح على ثقافات الشعوب المتحررة،ومحاكاة الأزمات في البلاد الأخرى،واستلهام الأفكار منها ودمجها بالواقع.
على سبيل الخاتمة :
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أن القدرة على ابتكار أدوات البحث السردي والارتقاء بها من مجرد تقنيات فنية إلى مراق جمالية، الجرأة في تناول الموضوعات العادية البسيطة وتحويلها إلى أحداث فارقة في تاريخ الشعوب،الذكاء في التعامل مع التيمات المقدسة،التابوات المسكوت عنها،تعشيق الأساليب السردية المألوفة بموتيفات فنية مستحدثة وتحويل المشهد السردي عموما إلى فاعل حقيقي في الحياة اليومية للفرد التونسي-ربما هذا هو-في تقديري-أهم ما يمكن أن يلخص ملامح الكتابة السردية في تونس بعد 14 جانفي 2011/يناير-كانون الثاني.
وخلاصة القول،هنالك طفرة كمية ونوعية تشهدها الساحة الإبداعية في تونس بعد الثورة،ويمثل سقوط حاجز الخوف النقطة الأهم في تشكيل مضامين المرحلة،وقد ارتبطت المدونة الروائية تاريخيا بالتّحولات السّياسية الكبرى فكانت رواية الستينات مرتبطة بحركة التحرر الوطني وبناء الدولة الحديثة كما تفاعلت رواية السبعينات مع إخفاق التجربة الاشتراكية وبداية التوجه الاقتصادي الليبرالي والتحولات الثقافية والاجتماعية التي عاشتها البلاد مع تغير التركيبة الطبقية والديمغرافية.في هذا السياق يأتي تطور الرواية بعد حدوث الثورة.