أمد/
בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון, 2021, כרך א’ עמ’ 116–134.
سمِعنا هذه القصّةَ من الشقيقيْن، راضي وسميح، ابْنَي الأمين صدقة الصباحيّ. والقصّة، ما هي سوى قصّة مصائب شخصيّتيْن، في إحدى أحلك الفتَرات التي مرّ بها أبناءُ الطائفة السامريّة، أيّامَ الحرب العالميّة الأولى، وقتَ تجنيد الأتراك القسريّ لكلّ شباب الطائفة، التي بلغ تعدادُها في العام 1909 مائة وثمانين نسمة (100 ذكر و 80 أُنثى). بدأ التجنيد القسْريّ في العام 1913، وفي أعقابه اِنخفض عدد أبناء الطائفة في غُضون أربع سنين إلى 141 نسمة، 80 ذكرًا و 61 أُنثى. سمِعنا القصّة المثيرةَ والممتعة، أضفنا إليها شهاداتٍ متمّمة، منها تقديم سلسلة الفصول كاملةً إلى القرّاء، من قِبَل أعظم القاصّين.
طبيعةُ البشَر
نابلس 1918 – يقُصّ سميح صدقة
عندما نزل الكاهن أبو واصف في منحَدر الشارع المؤدّي من حيّ السامريّين، حارة الياسمينة، إلى السوق التركيّ القديم، رآها، مريم حبيب صدقة، جالسةً كعادتها كلَّ يوم في رُكنها في عليّة منزلها، على سَجّادة صغيرة في الشرفة المربّعة الصغيرة، ووجهُها نحوَ الغرب، تجاهَ رفيديا. تحرّكت شفتاها بالصلاة بصمْت، وكانت عيناها مثبتتْين في نقطة ما في مكان ما في الفضاء، غير آبهة بكلّ ما يدور من حولها.
ما لكِ يا مريم؟ سألها أبو واصف بصوت عالٍ. إلى متى ستجلسين متوقّعة مجيئه؟ ابنُ أخيك فُقد في تركيا النائية، لن يعود. لماذا تُضيّعين أيّامَك في توقّعات لا طائل منها؟ هيّا قومي واعملي شيئًا ما لصالح أولادك، روزه وفهمي ووجيه. ألم تجرّبي الحزن الكافي على وفاة ابنك الفهيم صبحي، وأنت ما زلت تبحثين عن مزيد من الحزن والأسى على ابن أخيه المفقود ممدوح؟ قومي واعملي من أجل بيتك.
يظهر، أنّ مريم حبيب صدقة، ما سمعت توبيخ أبي واصف. واصلت الجلوس في نفس الوضعيّة الكئيبة، وساقاها مطويتان تحت رُكبتيها. سار أبو واصف في طريقه، وهو يعلم بلا أيّ ريْب، أنّ كلماتِه لا تساعد هذه المرأةَ التي عزمت على الجلوس وانتظار عودة ابن أخيها المفقود، ممدوح صالح الصباحيّ، الذي جنّده الأتراك قَسرًا قبل أربع سنوات، ومنذ ذلك الحين لم يُعرف عنه شيء.
لا أعرف مقدار الحبّ الذي يسعُه قلب هذه الامرأة – قال أبو واصف لنفسه، واصل نزوله في منحدر الشارع، متسائلًا عن طبيعة الناس. مريم هذه، تزوّجت من ثلاثة أزواج، الواحد تلوَ الآخر، وما زالت في فؤادها قَدْر من الحبّ يفوق كلَّ ما أنتج قلبها إلى الآن – فكّر أبو واصف وهو ما زال منفعلًا من الواقع، أنّه بعكس كلّ التنبّؤات السوداء ومعرفته الشخصيّة الجليّة بأنّ ممدوح لن يعود، لم يُسمَع عنه أيضًا ولا حتّى أيّة إشارة، مع كلّ هذا لم تفقِد عمّتُه مريم حبيب أملَها في أنّه سيعود ذات يوم. هذا ما فعلته كلّ يوم. جلست ساعاتٍ طويلةً في الشرفة ووجهُها تُجاهَ طريق طولكرم نابلس، كأنّه فُرِض عليها أن تكون المبشّرة الأولى لمجيء التاهب/المسيح.
في الواقع، قال أبو واصف بصمت (مَن تابعه لحظة ظنّ أنّه يصلّي) – حقًّا، إيجابًا أو سلبًا، لا معنى لعادات الناس وكيف يحتلّون مكانهم في نظر المخلوقات.
هنا على سبيل المثال، أحد وُجهاء نابلس من عائلة مني [في الأصل: مونى] الشهيرة، واسمه أبو يوسف. قبل وفاته جمع أولاده وقال لهم: قبل أن أفارق هذه الدنيا، أريد أن أمنع الخِصام بينكم بعد موتي. في خِزانتي ثماني عشرة سبيكة من الذهب. عشر منها لابني البِكر وثمان للابن الثاني. ولبناتي أُوصي مائة دينارٍ لكلّ واحدة. ولي قطعة أرض بجانب طولكرم ومِساحتها أَربعون دونما؛ بيعوها وقسِّموا ثمنَها بينكم وَفق نسبة تقسيم مالي هذه. كما لي قطعة أرض بالقرب من عمّان، بيعوها وافعلوا كما في السابقة.
هذا ما فعله أبو يوسف مني قبل وفاته، ووصّى أولادَه أيضًا أنّه في جَِنازته إلى مثواه الأخير، بأن يُخرجوا يدَه اليمنى من أكفانه ليعرف المودّعون/المرافقون بأنّه لم يأخذ شيئًا معه إلى قبره. وتذكّر أبو يوسف بالمقارنة مع أبو يوسف مني، مسلمًا آخرَ من عائلة طاهر، تزوّج أبوه من امرأة ثانية قبلَ وفاة زوجته الأولى، ورزقهما الله بابن من الزوجة الثانية.
سمِع أحد أبنائه من الزوجة الأولى وهو مُسرّر (يُعالَج في المستشفى) في مستشفى نابلس، بأنّ أباه ينوي توريث أملاكه لابن الزوجة الثانية، بادّعاء أنّ أبناءه الكِبار ذوو عائلة وأملاك، أمّا الابن الصغير فبحاجة لأملاك الوالد ليكون مثلهم.
لم يتردّد الابن المُسرّر؛ قام ذات يوم، وهرب من المستشفى (سرير مرضه) وأسرع إلى بيت أبيه. وبضربتي بلطة قتلَ الأبَ قبل أن يوقّع على وصيّة الميراث.
الحاجّ نمر يطرُد ”الخُبراء“
وبما أنّ حديثَنا يدور حول الرجل الطيّب، أبي يوسف مني، الذي أوصى بإخراج يده اليمنى من الأكفان، فها فعل ذلك أحد كبار وجهاء نابلس، الحاجّ نمر النابلسي. وهو أيضًا، قبل وفاته وصّى بتقسيم أملاكه الطائلة على أبنائه. كان الحاجّ نمر النابلسيّ ذكيًّا جدًّا، عرف التوغّل إلى أعماق قلوب طالبي إحسانه، والتمييز بين مَن نيّته صافية ومن يتملّق. مَن منهم يتظاهر بأنّه يفهم شيئًا لن يفهمه أبدًا، ومن حكيم (عيناه في رأسه).
ذات يوم، سئم من بعض زائريه، لاحظ أنّهم متملّقون لا يُحبّونه. ماذا فعل؟ دعاهم إلى بيته ذات يوم وقال لهم: ها قد عثرتُ في خِزانتي على ليرة الذهب هذه، ولا أعرف أهي حقيقيّة أم مزيّفة. هلّا قلتم لي، دام فضلُكم؟ فحص المجتمعون جهتَي العُملة مرّة تلوَ أُخرى، وأخيرًا قرّ رأيُهم: لا يا حاجّ، العُملة بالتأكيد مزيّفة!
أخذ الحاجّ نمر النابلسيّ العُملة وخبّأها ثانيةً في الخِزانة. تظاهر بأنّه يُخرج عُملة أُخرى ولكنّه أخذ العُملة ذاتَها. وما قولكم عن هذه العُملة؟
قُلّبتِ العُملة ونُقِلت من يد ليد. تمّ فحصُها بعناية فائقة، مع الإدلاء بتعليقات تُنمّ عن خبرة كبيرة. أخيرًا، اتّفق الجميع
بالإجماع وقالوا للحاجّ نمر النابلسي: هذه المرّة، لا شكّ أنّ العُملةَ حقيقيّة متداولة، لا أقلّ من أربعة وعشرين قيراط ذهب.
فتح الحاجّ نمر النابلسيّ خِزانتَه وقال لهم:
اُنظروا بأُمّ أعينكم، ليس لي في خِزانتي سوى هذه العُملة، التي قلتم عنها قبلَ لحظة بأنّها مزيّفة. هيّا ألقوا نظرة مجدّدًا وافحصوا في خِزانتي. ولكن، ما أقول لكم، لستم خبراءَ ولا أبناء خبراء رغم أنّكم تتظاهرون بذلك، ولذلك تزورونني في بيتي. ما أنتم سوى متملّقين (موجْهَنين) تُحدّقون في (حاطّين عنيكو على) أملاكي. لا حاجةَ لي بخبراءَ مثلكمَ! أنهى الحاجّ نمر النابلسيّ اللقاءَ وطردهم من بيته بالخِزْي والعار. وهم لم يعودوا إليه بعد ذلك.
لكن مريم حبيب صدقة – واصل أبو واصف متمتمًا لنفسه – تؤمن أنّ ممدوحًا ابن شقيقها سيعود. الإيمان والأمل يقوّيان روحها. تهانينا لهذه الامرأة، بهذا ختم أبو واصف كلامه.
أين تلك الأيّام قبل خمس سنين؟ في أيّام ما قبل الفسح، ذهب هو مع الكاهن الأكبر، يعقوب أهرون، رحمه الله، ومع الكاهن الأكبر الحالي، إسحق عمران، أطال الله عمرَه، إلى بيت الحاكم، وتمكّنوا من الحصول على تصديق منه بعدم تجنيد شبّان السامريّين للجيش بسبب قلّة عدد أبناء الطائفة، ولأنّهم يجب أن يحتفلوا بالفسح مع الطائفة؟ وافق ذلك الحاكم، ولكن الحاكم الجديد لم يتنازل وجنّد الشباب. لقد حطّم قلب الكاهن الأكبر يعقوب، رحمه الله، واصل الكاهن أبو واصف وهو يهجُِس عند دخوله لشارع السوق.
مريم ابنة صالح الستري الدنفيّ
هنا، تدخّل القاصّ، سيّدنا أبونا، الحكيم راضي الأمين صدقة، معقّبًا أنّ بطلة القصّة في الحقيقة ليست مريم حبيب، عمّة ممدوح صالح صدقة بطل القصّة، بل إنّ كلّ القصّة حدثت مع أُم ممدوح واسمها مريم أيضًا، وكانت ابنة صالح إبراهيم الدنفيّ، وتزوّجت من صالح حبيب صدقة وأنجبت له بكره الأمين/بنياميم وسعيد والأصغر ممدوح (ابن الشيخوخة، قريد العشّ) بطل قصّتنا، وهو الذي جُنّد بالقوّة في بداية العام 1914 للجيش التركيّ، من ضمن باقي شبابنا للاشتراك في الحرب العالميّة الأولى (1914–1918).
زوج مريم هذه هو شقيق مريم حبيب، مع كلّ الاحترام لها، إلّا أنّ الرصيد الذي نُسب إليها في الجزء الأوّل من القصّة تستحقّه أُمّ الشاب.
تماثُل اسمي الزوجتين سبّب الخطأ، ومن الآن، يجب الرجوعُ إلى القسم الأوّل من القصّة واستبدال كلّ مريم صالح الستريّ الدنفيّ، زوجة صالح صدقة والدة ممدوح، بمريم حبيب صدقة والتي كان زوجها الثالث عبد الرحيم الدنفيّ. في الواقع، فقط هي مريم، والدة الأمين وسعد وممدوح، كان بوسعها أن تتعامل بمثل هذين الأمرين العظيمين، إخلاص وتضحية حيالَ ابنها المفقود.
لا يجوز الحكمُ على امرأة حتّى تكون في مكانها/وضعها
الأمين، ابني البِكر، وسعيد ابني الثاني – تمْتمت أمّهما مريم في نفسها وأسًى عميق امتزج بصوتها- نجحا في التحرّر من عبوديّة الجيش. الأمين سُرِّح لضعف بصره، أمّا سعيد فبسبب ضَعف جسمه. وقد وُجد بالضبط ابن شيخوختي، الأحبُّ إليّ، صالحًا للتجنيد، ومنذ مغادرته لنابلس في بداية العام 1914، انتفت أخبارُه. آه، يا ابني الحبيب، أين أنت /وينك! هل سأحظى برؤية وجهك؟ غسلتِ الدموعُ وجهَها.
من العليّة المجاورة، تطلّع عليها الكاهن الأكبر إسحق عمران سلامة. هزّ رأسه كسابقه أبو واصف. كانت هذه سنته الثانية في الكِهانة الكُبرى، وفي كلّ يوم من عليّة بيته، رأت عيناه مريم أُمّ الأمين وسعيد وممدوح، قاعدة في عليّة بيتها وتتطلّع غربا. ولكن بخلاف أبو واصف، تابع جلستها بدون كلام.
عُرف بحكمته الجمّة وبالتجربة التي اكتسبها من أسفاره، بأنّه لا يجوز الحكْم على مريمَ إلى أن تكون في حالتها/وضعها. بالرغم من أنّه أيقن في قلبه، بعدم وجود أيّ أمل لرؤية ممدوح صالح. بخصوص الآخريْن الشقيقين من عائلة صدقة، ذكي وإسرائيل، ابنَي نمر، وردت أخبار بأنّّهما ما زالا على قيد الحياة، ولكن بخصوص ممدوح صالح، لا خبرَ عنه منذ انفصل عنهما في سوريا في طريقهم إلى تركيا.
دُموعُ الفِراق
تذكّر الكاهن الأكبر ذلك اليومَ الذي رافق فيه شبابَ الطائفة في طريقهم إلى الشَِّمال. وقد برزت بشكلٍ خاصّ مجموعة آل صدقة – ذكي، إسرائيل، الأمين وممدوح. خرجوا من مركز نابلس إلى حيّ رفيديا ورافقهم كبار السنّ والكهنة بعيون دامعة، مردّدين وراءَهم: مع السلامة. وعلى جانب الطريق، سُمِع بُكاء الأّمّهات اللواتي تركهنّ أبناؤهنّ الأعزّاء، وقد برزت من بينهنّ هذه الامرأة مريم، والدة الأمين، سعيد وممدوح صدقة.
عندما عاد الأمين بعد مُضيّ بضعة أسابيعَ، خبّر أنّ حِصّة الزبيب التي حُدّدت لهم لأيّام السفر الثلاثة الأولى، قد نَفِدت قبل مغادرتهم نابلس.
هي رافقت ممدوح، ابن الشيخوخة، مسافةً طويلة متكئة على كتفه. دموعها تسيل ببطء، وفمها يغمغم بتمنيّات صامتة بعودة ابنها الأحبّ عاجلًا إلى البيت. راحت معه كلّ الطريق لغاية حيّ رفيديا، في المداخل الغربيّة.
ابن اثنين وعشرين ربيعًا فقط، صغير السنّ جدّا. كانت كلّ حياته حتّى ذلك الوقت مليئةً بالمرارة والفقر. لم يذق بعد شيئًا من ملذّات الحياة. من هو، ذلك الشاب السامريّ الأحبّ في أولادها، ما له وللحرب بين عظماء العالَم؛ ما علاقتنا بكلّ هذا؟ واصلت التمتمة بقلبها، وهي توسّع خطوتها بجانب ابنها الذي ألحّ عليها بالتوقّف عن البكاء لأنّها ”تسبّب له الخجل والحياء“ بحضور الجنود. ما نحن السمرة القلائل جدّا، حتّى أكبر مبشّر بالخيرات عرفنا لا يتنبّأ لنا مستقبلًا مديدًَا أكثرَ من خمسين عاما؟ ما لنا ولهذا الصراع العظيم بين الأتراك والفرنسيّين والبريطانيّين، ولا ننسى الألمان؟ ألم يكن كلّ هذا الجيش العرمرم، قادرًا لتدبّر أمره بدون عشرات الشبّان السامريّين الذين بدونهم لا أملَ لهذه الطائفة بالبقاء في هذا العالَم الظالم؟
حاول ابنُها ممدوح كلَّ الوقت أن يُسكتَها وأن تتركه وتعود إلى البيت، لكنّها لم تستجب له، ولم تكنِ الوحيدة. مئات من نساء نابلس العربيّات رافقن المجنّدين في طريقهم إلى سبسطية. ومن هناك يواصلون طريقم إلى جنين والمكان المقصود هو الوصول إلى القطار في العفّولة حيث سيقلّهم إلى دمشق. رافقت مئات النساء أعزّاءهنّ ورجالَهن. ظِماء لسماع كلمة أُخرى ومقطع آخرَ من أفواه أحبّائهنّ لتخزينها كلّها غِذاء لأحاديثَ لا تُحصى حول كانون الجمر، أو عند انتظارهنّ لطبخ الشاي في السماور. ”عندها قلتُ له … وهو قال لي …“.
ها قدِ ابتعدوا عن نابلس مسافةَ ثلاثة كيلومترات، وهي، مريم ابنة صالح، عنيدة ابنة عنيدين منذ أجيال، تأبى على فِراقه. لولا بقاءُ سعيد في البيت لرافقت الأمين وممدوح حتّى العفّولة الواقعة وراءَ جبال الظلام، خلف جبل عيبال بعيدًا بعيدا.
حتّى ذلك اليوم، بدا لها ما بعد عيبال كنهاية العالَم وبوّابة لعوالم نائية. ولكنّ الحرب قرّبت في وعيها جميعَ الأماكن البعيدة، الأماكن المختلفة والغريبة التي أتى منها أُناس غريبون، ناطقون بالإنچليزيّة، الألمانيّة، التركيّة والفرنكيّة/الفرانكونيّة لزيارة حارة السامريّين القديمة في نابلس.
منهم مَن نظر بعين باحثة وآخرون بعين حبّ الاستطلاع، وثمّة حتّى من أشاروا إليها عند إحصائهم السمرة القلائل الذين بَقُوا في نابلس. هذه الحرب العالميّة الأولى قرّبت إليها كلَّ ما كان بعيدًا عن جبل النار، كنية لجبل جريزيم منذ وصول نابليون بونابرت، الإمبراطور الفرنسيّ إلى فلسطين (في الأصل: أرض إسرائيل).
لم تجرؤ الاتّكاء على كتف ابنها البكر، الأمين، كان جِدّ بالغ، ابن ستّ وثلاثين سنة، خطيب زينب ابنة سمعان الستريّ الدنفيّ – وفورًا بعد عودته من الحرب سيتزوّج حبيبته الصغيرة – ظنّت. ولكن شيئًا فشيئًا ملأ الحزن حجراتِ قلبها. لماذا أصلًا أخذوا الأمين للجيش التركيّ؟ ماذا بوسع الأمين أن يساعدَ الأتراك في حربهم وبصره ضعيف لدرجة أنّه لا يرى لمسافة مترين؟ كيف سيمسكُ البندقيّة وكيف سيطلق النار؟ روحي إحكي لهم.
كم طلب الكاهن الأكبر يعقوب هرون من أجله؟ كيف أثبت لهم بالبراهين والدلائل بأنّ الأمين لا يصلح لأعمال الجيش؟ أصرّوا ورفضوا تسريحَه. والآن يذهب مع أخيه الصغير وابني عمّه، ذكي وإسرائيل. ألحَّ عليها الأربعة بتركهم، إذ كيف ستعود وحدَها من سبسطية إلى نابلس؟
فقط بعد لحظة، بعد لحظة صغيرة من الحبّ والاتّصال المباشر، التمست بهدوء. في الحقيقة قد طفح الكيل. لقد استلّت رغم أنفها من طابور المشاة وهي تبكي بكاء مرًّا. كانتِ الأخيرةَ بين النساء العائدات إلى نابلس. وواصل طابور المجنّدين سيره.
فقَد الإخوة الأملَ
يأسُ مريم صالح الدنفيّ، زوجةِ صالح حبيب صدقة، تفاقم عند عودة الشقيقين ذكي وإسرائيل إلى نابلس، بعد أربع سنوات من الترحّل/التنقّل في تركيا. حملا معهما أخبارًا عن مصير ممدوح ابنها. انطوت على نفسها، زاوت يديها [وضعت كفّ اليد الواحدة على/تحت كوع اليد الأُخرى، تكتّفت [اُنظر حسيب شحادة، الترجمة العربيّة لتوراة السامريّين. المجلّد الأوّل: سفر التكوين وسفر الخروج. القدس: الأكاديمية الوطنيّة الإسرائيليّة للعلوم والآداب، 1989، ص. 246-247] وهي ترثي على شرفة بيتها. الآن لم يُسمع صوتُها من جديد. حزن شديد اِكتنفها ولم يُسمع بكاؤها أكثر. على الرغم من أن آثارَ الدموع المتواترةَ التي غطّت عينيها اللامعة لم تُخفت من منظرها المفعم بالتوقّع الانتظار، بأيّ شكل من الأشكال، لعلّ مع كلّ هذا، بمعجزة سماويّة، سيأتي أحبُّ أبنائها. كانت مستعدّةً لاستقباله بكلّ حالة، حتّى في أسوئها، ولكن حيّ يُرزق، مضموم بذراعيْها. هكذا اجتاحت الخيالات مخّها. كانت تهذي في اليقظة بظروف ولقاءات، كانت ترى فيها ابنها ممدوح صاعدًا نحوها من اتّجاه رفيديا، يصل إليها بخطًى وئيدة، كما في الحلم، وفي فيه كلمة واحدة: يَمّا/يا أُمّاهْ!
في كلّ مرّة كانت تُصيبها/تغزوها هذه الهلوسة/الهذيان، كانت تُجهِش ببكاء صامت يهُزّ جسمَها. حاول ابناها، الأمين وسعيد تعزيتها ومواساتها بكلمات لطيفة، ولكنّها أبتِ ذلك. لقد قالا لها مرّاتٍ كثيرةً، لا أملَ بعودة ممدوح بعد. وها هو ليس السامريّ الوحيد الذي فُقد في الحرب العالميّة الرهيبة هذه، والسامريّون جرّبوا الكوارث على امتداد تاريخهم، لا مخرجَ إلا قبول الفقدان.
لم يطرأ على بالهما إجراء لقاء ذكرى أخيهم المفقود، إلّا أنّهم الآن أصبحا قريبيْن من ذلك. إنّ عدم معرفة العائدين
أيّة أخبار عن ممدوح صدقة، قد ثبّطت عزيمتهما. إنّ بصيصَ الأمل الوحيد الذي ما زال يَمِضُ في قلب مريم أمّهما فقط، قد منعهما من اتّخاذ خطوات تؤكّد حقائق واضحة بخصوص ظنّهم بمصير شقيقهم.
إنّهم فقدوا الأمل.
ممدوح صدقة حيّ يُرزق
وها، بدون عِلم أحد، سار بطل قصّتنا، ممدوح صدقة، من صحارى تركيا البعيدة إلى فلسطين [في الأصل: أرض إسرائيل]. اِنتهتِ الحرب العالميّة. ألقى الأبطال المتعَبون السلاح. وصل عدد القتلى المليون، وعدد الجرحى عشرة أضعاف. ممدوح صدقة لم يكن من ضمنهم. الله، خالق السماوات والأرض كان مُعينَه وملاكه، سار أمامَه وحرسه في الطريق من كلّ مكروه.
لقد أحسنت الحرب إليه. لم يعد ممدوح ذلك الضعيف وهزيل القِوام. إنّ جوَّ تركيا، الطعام النباتيّ، البقوليّات والكثير من الخبز قد أفادته. اكتنز جسمه لحمًا وصار منظره طويلا وقويّا. قبّعة ذات حواف واسعة كانت مثبتة بقوّة على رأسه. كان مرتديًا بنطالًا قصيرًا إلى الركْبتيْن. علت حُمرة الصحّة على وجهه الممتلىء. لو رأته أمّه الطيّبة، لأمدّها ذلك بالكثير من القوّة والتشجيع.
إلّا أنّ السنوات الأربع، التي قضاها خارجَ نابلس، لم تُبقِ في فؤاده أيَّ بصيص أمل ببقاء أيّ من أقاربه على قيد الحياة.
تحدّث قادته في الجيش التركيّ، والخوف منبعثٌ من أعينهم، عن قساوة البريطانيّين الرهيبة. وأضافوا إنّ البريطانيّين اِحتلّوا فلسطين (في الأصل: أرض إسرائيل) من أيدي جيش ”الباب العالي“ (السلطان التركيّ) بعد معاركَ دامية، وانتقموا فقتلوا الكثيرين من سكّان البلاد ودمّروا مدنَها. والواقع بأنّه لم يسمع شيئًا من نابلس في سنوات منفاه في الجيش التركيّ، اللهمّ سوى بعض الأخبار من العام الأوّل، قد سبّب له تصديق قصص قادته. يجوز أن يكون سامريّون قلائل قد بقوا على قيد الحياة – فكّر في داخله – ولكن حتّى لو بقيتُ الواحد الوحيد، سأعمل كلّ شيء للعودة إلى هناك لقضاء حياتي بظلّ الجبل المختار، جبل جريزيم، بيت إيل.
هذا التفكير أمدّ/شحن جسمَه بقوّة عظيمة. بلا لأْي، راكبًا أو راجلًا سعى ممدوح صدقة جاهدًا باتّجاه مدينة مسقط رأسه. مرّت عليه شهور كثيرة، إلى أن رأى عن بُعد أبراجَ مؤذّني مساجدِ طولكرم. الأحداث التي عايشها في الحرب قد أنستْه معرفة المدينة، تساءل وتاه كثيرًا في أزقّتها. لقد تذكّر بشيء من الضبابيّة أنّه في مكان ما في المدينة، سكنت قبل الحرب عائلة صدقة السامريّة، أبناء عمّه ذكي وإسرائيل صدقة وأخو عمّه سعد صدقة.
البريطانيّون الطيّبون
قلبُه/دليله قال له: هم ليسوا بين الأحياء. ظنّ أنّ الحرب قد قضت عليهم. نسِي أين كان بيتُهم. عرف فقط بأنّ الحرب قدِ اِنتهت. وقدِ لاحظ التناقضَ بين القصص المروّعة التي سمِعها عن استبداد الإنچليز، وبين الحقيقة بأنّه لم يُهدم أيُّ بيت من بيوت طولكرم الكثيرة. لا إنچليزَ في الشوارع. التجارة تسير على قدَم وساق كالمعتاد. بسمة ارتسمت على وجوه سكّان المدينة. أين قصصُ الاستبداد؟ سأل بصمتٍ، لعلّ بعضَ أقاربي مع كلّ هذا بقي حيًّا يُرزق؟ ربّما لا حقيقةَ في قِصص الرُّعب؟
كان ذلك يوم جمعة. وجد ممدوح بتعريفاتٍ غرفةً للمبيت في المدينة في خلال يوم السبت، قبل أن يواصلَ سيره إلى
نابلس، مبتغاه. ها قد مرّت ساعة الظهر، وعليه أن يُعيدَ زيّه والبندقيّة للمخزن العسكريّ. بينما كان في سوريا أبرز شهادة سفره. بريطانيّون طيّبون أمدّوه بسلاح لحمايته من اللصوص والسرّاقين. تعهّد إعادة زيّه وسلاحه عند وصوله لطولكرم.
مرّت ساعاتٌ طويلة إلى أن جاء دورُه لإعادة السلاح. سُئل أسئلة كثيرة. بقدرته لحلّ المشكلات وبالخبرة الواسعة التي اكتسبها، تجنّب خطر الاعتقال من قِبل الحرّاس البريطانيّين. عاد من المخزن العسكريّ خائرَ القوى إلى الغرفة الي استأجرها في أحد أزقّة الشارع الرئيسيّ المؤدّي إلى مركز المدينة. بما تبقّى له من قوّة، تمتم صلاة السبت، خلع ملابسه واستلقى للنوم نومًا يعجّ بالأحلام العاصفة.
أشعّة الشمس الحارّة داعبته. استفاق على الفور. طلع الفجر. فتح نافذةَ غرفتِه الوحيدةَ وللتوّ ارتجف جسمُه كلُّه، سُمِع صوت عالٍ.
القصّة الحقيقيّة
لم يحدُث لنا أمرٌ كهذا بعد، ولكن، على ما يبدو، هذا مصير قصّة شعبيّة تُسرد تباعًا، وبصدد أجزائها الأساسيّة ثمّة شهادات مدوّنة. بينما نحكي عن ممدوح صالح حبيب صدقة الصباحيّ، كيف وصل بعد أربع سنوات من المشقّات إلى مدينة طولكرم غربيّ السامرة، في طريقه لبيت آبائه في نابلس، وإذا بالصديق نمر ذكي صدقة الصباحيّ يقاطعنا ويلفت نظرنا لذكريات أبيه التي نُشرت تباعَا في أعداد أ. ب. هناك، في نهاية القصّة، تحدّث ذكي نمر سلامة الصباحيّ، أنّه هو وأخوه إسرائيل أيضًا وصلا نابلس بعد أربع سنوات في تركيا، بعد ممدوح صالح صدقة وليس قبله. نحن لا نتناقش مع الحقائق. حتّى لو قُصّ علينا شيءٌ آخرُ، فإنّ الدليل المكتوب بقلم أصحاب القصّة أقوى من كلّ قصّة تُحاك شفويًّا، في ذاكرة من لم يولدوا بعد وقت حدوث الأحداث. الشكر موصول لنمر بن ذكي صدقة، رحمه الله. نواصل إذن تنقيح قصّة الشقيقيْن راضي الأمين وسميح وملائمتها للحقائق التي لا نزاعَ فيها.
ذِكرياتُ بيت الأب
سُمِع صوت عالٍ، هزّ جسمَ ممدوح. أصداء من أيّام سحيقة اكتنفته بكامل القوّة. الصوت الذي وصله من أحد البيوت، من وراء الزُّقاق الضيّق، قرأ بصوت مُسكر وبلغة بيت الأب فاتحةَ نوبة الأسبوع بعد صلاة صباح السبت: ”ان باسم الله مناداتي فاعطوا العظمة لآلهنا. القادر الكامل فعله ان كل سبله حكم ولي الأمانة من غير حيف عادل ومستقيم هو“ [تثنية 32: 3-4؛ اُنظر حسيب شحادة، الترجمة العربيّة لتوراة السامريّين. المجلّد الثاني: سفر اللاويّين سفر العدد وسفر تثنية الاشتراع. القدس: الأكاديمية الوطنيّة الإسرائيليّة للعلوم والآداب، 2001، ص. 604-605]، مبارك إلهنا إلى الأيد، ومبارك اسمه إلى الأبد.
أصْغى ممدوح وهو يرتجف ويبكي للصوت العذب جدّا. صوت رجل بالغ يملأ الزقاق بأصوات حلوة جدّا. شعر بارتخاء رُكبتيه، وكأنّه في المنام، وجد نفسه يخطو خارجًا من غرفته الرطبة إلى الزقاق الضيّق. كما بأحبال سحريّة انجذب ممدوح وسار نحوَ الصوت الذي ما زال يقرأ في نوبة الأسبوع. امتلأت عيناه بالدموع، والاعتقاد بأنّه هو وابنا عمّه نمر صدقة، ذكي وإسرائيل، ليسوا الأحياء المتبقّين الوحيدين، ملأ مخَّه لدرجة الإحساس بصُداع طفيف. وبومضة عين استبدل الطرب العاصف بالوجع. ما زال هناك سامريّون في هذه الدنيا! زعق قلبُه بشدّة. لم يجدِ الكلمات.
الآنَ يُسمع الصوت قريبًا، لدرجة انتفاء الشكّ في أنّه حلما يحلم. وقف ممدوح منتصبًا، مرتديًا ذلك البَنطال القصيرَ، حتّى الركبتين، والقبّعة واسعة الحواف تظلّل على جبينه العالي ولِحيته القصيرة، أمامَ باب البيت الذي انطلق الصوت منه. علتِ الآنَ الذكريات القديمةُ وغمرت مخَّه. ها هوذا بيت والد ذكي وإسرائيل ابني عمّي، والصوت بلا شكّ صوتُ عمّي سعد سلامة. والآن تبيّن بدون أدنى ريب أنّ القصصَ المروّعة التي سمِعها حول مصير السامريّين كانت عاريةً منَ الصحّة.
اللقاءُ
دقّ على باب البيت بتردّد. لا جوابَ. دقّ مرّة ثانيةٍ دقّة أطولَ وبثقة أكبرَ بيّنت أنّه مستعدّ للقاء. سمِع صوتُ خطًى وفتح الباب فتحةً طفيفة تسمح بإلقاء نظرة خاطفة. إحدى نساء البيت رمقتْه برِيبة.
مَن هذا؟ سمِع صوتَ سعد الذي أوقف قراءَته.
جنديّ تركيّ جائع آخرُ، يبحث عن طعام- ردّتِ المرأة على سعد، وكانت على وشك إغلاق الباب وهي تصرخ ناحية ممدوح – روح من هون، بالكاد عندنا ما نتناوله نحن! روح من هون، اليوم يوم السبت!
دسَّ ممدوح طرفَ حِذائه بين الباب المنغلق والعتبة (الأُسْكُفّة)، فتراجعتِ الامرأةُ مفزوعة.
ما حدث لك يا ستّ/امرأة؟ سأل ممدوح بصوت مرتجف – ألا تعرفينني؟ إنّي ممدوح صالح صدقة، ابن عائلتكم!
ممدوح، آشِر؟ صرختِ الامرأة/دبّت الصوت، ممدوح صدقة؟ آه، آه، ممدوح ما مات!
ممدوح حيّ/طيّب، ما مات! صاحت وهي ما فتئت تنظر إليه برِيبة شديدة، وتحاول التعرّف عليه، هذا الرجل عريضُ المنْكِبَيْن، الملتحي، أحمرُ الوجنتيْن، البسّام، وذاك الفتى النحيل الواهن الذي عرفته قبل أربعة أعوام.
الآنَ، توقّف سعد عن القراءة أيضا. قام من على سَجّادة الصلاة وراح بسرعة إلى مدخل البيت.
ما لك يا امرأة؟ لماذا تقفين في طريقه؟ زعق سعد. وقف هو أيضًا هُنيهة، لبضع ثوانٍ، ونظر إلى ممدوح صدقة. فتح الباب على مِصْراعيه، سُرعان ما عانق ممدوح، وضمّه إليه، وربّت عليه وبكاء الاثنين امتزجا. وقف الرجلان في مدخل البيت، وأنّات بكائهما وصلت الجيران، فجاؤوا جميعًا إلى الزُقاق، وحاولوا تهدئتهما رويدًا رويدا.
بعد أن انتهت موجة البكاء، لم يبقَ سوى وجهَي سعد وممدوح المفعمين بالجَذَل. ما زال ذكي وإسرائيل ابنا أخي حيّيين وسأراهما قبل أن أموت! هتف سعد بفرح عظيم. تعالَ، تعال، اُدخل يا حبيبي، يا مهجةَ قلبي، لماذا تقف في الخارج؟ أمسك سعيد بيدي ممدوح وأدخله إلى البيت. وقال للجيران: ما بكم تجمهرتم فجأة، ليذهب كلّ إلى بيته. تعالوا إليّ في المساء كلّكم لمشاركتي فرحَ عودة ممدوح قريبي!
همس الجيران ببعض التبريكات على رأسيهما، غادروا راضين، ليفرحَ سعد وممدوح معًا.
”الملِك مخلّصي من كلّ سوء “
اصطحب سعد ممدوحًا إلى داخل البيت الصغير، الذي عرفه ممدوح منذ أيّام طفولته. وضّب/رتّب سعد الوسائد والأريكة العريضة في صدر الغرفة، ودعا ممدوحًا للجلوس معه. وكأنّ تِلاوة النوبة قد نُسِيت. تفحّصت نساء البيت ممدوحًا بحُبّ استطلاع جمّ، واتّفقن بالإجماع على أن الحرب قد أحسنت جدًّا لممدوح صدقة. بدا مفعمًا بالقوّة وصُلبًا جدًّا، شهوة لعيني التي ستحظى به زوجا.
ولم يُخفِ سعد حبَّ استطلاعه أيضا. وبعد أن حرَِص سعد على أن يتناول ممدوح شيئًا من تشكيلة السلطات المحدودة، طلب أن يطرحَ عليه آلافَ الأسئلة حولَ أخباره وعن ابني أخيه؛ لكن شخصًا كسعد صدقة، لا يدنّس السبت بأمورٍ عاديّة غير مقدّسة. أشار سعد لإحدى نساء البيت فجلبت لممدوح قميص السبت، قمبازًا ليلبسَه لحُرمة السبت. استفاق ممدوح فورًا من الحُلم الذي لم يرغب في أن يتوقّف أبدًا. خلع قميصه وعلت أصوات انفعال النساء اللواتي رمقن بحياء ذراعي ممدوح الغليظة والعريضة، وعضلات كتفيه المفتولة.
كان القميص ضيّقًا عليه، لكن هذا ما كان متوفّرًا في البيت. أخيرًا، بعد جُهد جَهيد تمكّن ممدوح من ارتداء القميص. عاد وجلس جلسة شرقيّة، تربّع. بسرعة ناوله سعد سِفرَ توراة بخطّ أخيه نمر سلامة. أمسك ممدوح الكتابَ بوَرَع ووقار. مرّت أربع سنوات دون أن يمسك سفر توراة بيده. تصفّحه، وعيناه تمرّ على الخطّ العبريّ القديم، امتلأت ثانية بالدموع. ولمنظره بكى سعد بصمت أيضا.
مرّر ممدوح يده اليمنى على وجه الكتاب، ثم مرّرها تبرّكًا على وجهه. كرّر ذلك مراتٍ كثيرةً ولم يحتجّ على ذلك سعد. كان يُدرك جيّدًا اضطرابَ مشاعر قريبه. كما أنّه لم يحاول الاحتجاجَ على النسوة اللواتي اهتجن لمنظر ممدوح وهو يبكي فبكين بصوت عالٍ.
الملك مُخلّصي من كلّ سوء، الله راعيّ منذ الولادة وحتّى هذا اليوم، أرسل ملاكه أمامي ليحميني في كلّ الطرق التي سرت فيها، قال ممدوح بصوت مرتعش. هو لم يتوقّف في إرشادي إلى أن وصلتُ هذا المكان.
أحنى سعد رأسَه بضع مرّات موافقًاعلى كلام ممدوح. بدأ من جديد، وبصوت مرتجف، بقراءة نوبة الأسبوع. منذ وفاة أخيه، لم يكن له مرافق في قراءة نوبة الأسبوع، والآن استدعى له الربّ لا أقلَّ من ممدوح الحبيب من بين أقاربه، ممدوح صالح صدقة، بلحمه وعظمه.
سُمِع مجدّدًا صوته المتموسق لذات اللحن القديم الذي صلّى فيه إبراهيم، أبو الأمّّة طالبًا إنقاذ لوط وشفاء أبيمالك، بنفس النغمة التي توسّل فيها موسى ثلاث مرّات من أجل شعبه. تابع ممدوح القراءة، ومرّر يده من جديد على وجهه تبرّكًا عند تِلاوة سعد: مبارك إلهنا إلى الأبد ومبارك اسمه إلى الأبد. وعندما أنهى سعد فقرته حان دور ممدوح. بدأ يقرأ ببطء وحالًا تبيّن أنّه لم ينسَ فوه توراةَ الله.
أجهش سعد بالبكاء من جديد.
بعد السكرة في فكرة/راحت السكرة وجاءت الفكرة
يقول المثل العربيّ: بعد السكرة في فكرة. [في الواقع يقول المثل العربيّ: راحتِ السكره وأجتِ الفِكره]. مضى وقتٌ طويل منَ الثَمَل من الفرح العظيم قبل أن يستفيق سعد سلامة ونساء البيت، شفيقة والدة ذكي وإسرائيل ابني نمر الصباحيّ؛ حُسُن زوجة ذكي الشابّة وزينب شهوان المسنّة، للتشاور بصدد تبليغ نابلس في اليوم ذاته بوصول ممدوح صالح حيًّا وبتمام الصحة والعافية بيتهم في طولكرم. وقد شعر الأخ الشاب مطيع باضطراب نفسه المفعمة بالخَبَل، بأنّ ثمة ما يُفرح في هذا اليوم العظيم وهو انفجر من الضحك المدوّي من حين لآخرَ فيسكته سعد بدون غيظ شديد كعادته.
أنتم لا تروْن ما رأيتُ – قالت لهم زينب شهوان، التي منذ وفاة زوجها نمر صدقة، أحبّت جدًّا المكوث في بيتهم في طولكرم وآثرته على السكن بعزلة في نابلس.
رأيت ضمنَ المتجمّعين عندنا، بعد أن خرجتُ لأفتحَ الباب لممدوح، شوقي الكرمول من نابلس، هذا الذي نُطلق عليه عادة الكُنية ”أبو ليلة“، لأنّه معتاد على التجوال في شوارع المدينة في ساعات الليل، التي فيها كلّ مواطن عاديّ يلزم بيته للنوم.
ماذا تقولين يا امرأة؟ قال سعد المسنّ بصوت عالٍ – هل أنتِ متأكّدةٌ مما رأت عيناك؟ قد يكون أتى لزيارة أقاربه في طولكرم أو ربّما يتسكّع، إذ أنّني لا أعرف قريبًا يقبل استضافته لعاداته الغريبة.
ممدوح صالح، سببُ الفرح، جلس في ركن الغرفة، وما زال يحاول هضم تطوّر الأحداث من حوله وسلَطات الخُضار المتنوّعة التي أعددْتها نساء البيت على عَجَل، ومثل مذاقها لم يذق منذ أربع سنوات.
شوقي الكرمول
لم ينتظر سعد، نادى فورًا حُسُن الصبيّة وأمرها بالخروج من البيت، للعثور على شوقي الكرمول وإحضاره إليهم. هرولت حُسُن بغبطة جمّة، خرجت من البيت بخطوات عجلى وصوتها مسموع من أوّل الشارع لآخره، منادية باسم شوقي الكرمول ومستفسرة من الجيران، أين هو وإلى أين ذهب. بعد وقت قصير وجدت مُرادَها/مبتغاها. شوهدت ماسكة بكُمّ مِعطف شوقي الكرمول وتجرّه إلى داخل البيت وهو يُلحّ عليها بلا انقطاع لتركه وشأنه.
بالرغم من عاداته الغريبة، لم يكن شوقي الكرمول منَ الأغبياء. وإن أظهر عدم الفطنة والحكمة، فبعض كؤوس العرق، النبيذ الأبيض السامريّ، لكافيةٌ لاستعادته حكمته. في الواقع، كان مسلمًا ابن مسلمين وشُرب الخمر محرّم عليهم تحريمًا مطلقًا، ولكن مَن كان بمقدوره الحرص على المحافظة على الحظر هذا، بعد أن تذوّق العرق اللذيذ الذي أعددتْه بجدارة عائلة صدقة من طولكرم.
في كلّ يوم، في الصباح الباكر أو في ساعة متأخّرة من الليل، كان بعض المسلمين يتسلّلون إلى بيت عائلة صدقة ويشترون خِفْيةً قنّينة أوِ اثنتيْن من العَرَق السامريّ، صُنع سعد سلامة ، وهذا يشهد على أنّ العرَقَ مشروبٌ إجباريّ على كلّ سامريّ في عيده.
اغتاظ [صرّ أسنانه] رجالُ الدين المسلمون في طولكرم، لكنّهم لم يقدِروا على فِعل أيّ شيء، أضف إلى ذلك أنّ بعضَهم، وهذا ليس سرًّا، لم يستطيعوا تحاشي المشروبات الروحيّة، لذيذة الطعم من إنتاج سعد صدقة السامريّ. حتّى في حالة شِراء العَرَق عن طريق شخص آخرَ، عرف سعد مَن أرسل الوسيط. وفّر بيعُ هذا المشروب المحرَّم تمامًا على المسلمين المؤمنين، مصدرَ رزق جيدًّا له ولأبناء أخيه لسنوات مديدة.
تعالَ، تعالَ – دعاه سعد سلامة، تعال اُدخل وتشرَّف معنا. ما لك يا صديقي النابلسيّ الطيّب لا تأتي لزيارتنا عند مجيئك لطولكرم، وتحكي لنا أخبار آقاربنا في المدينة المقدّسة؟
لم يتسنّ لشوقي الكرمول أن يتساءل عن مغزى تقرّب هذا السامريّ منه، وكان سعد قد أحسن صُنعًا عند الترحيب فدسّ ليد شوقي قدحًا من العرق الممزوج /المكسور بالماء. لونُ المشروبِ العاجيُّ، سحر شوقي عاشقَ المشروبات الروحيّة أيّما سِحْر، لدرجة جعلته ينسى الاستفسار عن كلّ هذه الحفاوة التي استقبله بها سعد، في حين أنّ الوضع في الأيّام العاديّة، كما تذكّر شوقي، ما كان حتّى يبصُق نحوَه. شوقي كان ذكيًّا ورزينًا بما فيه الكفاية ليفهم بأنّ هذه المعاملةَ تفوق ما يستأهله رجُل تافهٌ مثله. ما أن جرع كلَّ ما في الكأس الطويلة قليلًا، وإذا بسعد يقدّم له كأسًا ثانية. قهقه شوقي، خطفَ الكأس الثانية لئلْا يندم سعد.
كأنّه من ومْضة المخّ، توقّف عنِ الشرب، سأل بابتسامة عريضة تجاهَ أهل البيت الذين كانوا يُراقِبونه: لماذا تضحكون، فأنا لست وليدَ البارحةَ ولا قبلَ البارحة. ما أغدقتم عليّ من هذا المشروب اللذيذ ليس هباءً، لأنّ هذا السخاءَ الذي تعاملونني به ثمّة أجر بجانبه. ما القصّةُ؟
أشار سعد سلامة بيده نحوَ ركن الغرفة، ودعا الضيف للجلوس. وهناك جلس ممدوح صالح صدقة وبجانبه كأس ثالثة من العرَق تنتظر شوقي. شوقي تأمّل به بعينين متلألئتيْن.
اُسكت واسمع! قال له سعد.
رجُل البشارة
لمّا نزل شوقي الكرمول، أبو ليلة، من الطريق المؤدّي لراس العين، حارة راس العين باتّجاه حارة الياسمينة حيث سكن السامريّون، تسنّى له رؤية مريم صالح الدنفي، زوجة صالح صدقة وأُمّ الأمين وممدوح وسعيد صدقة، تضع السجّادة الصغيرة على شُرفة عليّة بيتها، وتستعدّ لساعات إضافيّة من النظر نحو طريق رفيديا. الآن، بعد عودة الأمين وسعيد من صلاة الظهر، وذهابهما لزيارة أحد الكهنة، تفرّغت لما اعتادت إليه كلَّ يوم. وقد توقّف الناس الذين يعرفون عاداتِها عن هزّ رؤوسهم نحوها، كأنّها غدت جزءً لا يتجزّأ من منظر حارة السمرة العتيقة.
مع أنّ شوقي الكرمول، الذي كان معطَّرًا أكثرَ من كونه رزينًا، وسُمعته السيّئة فاحت، فقد عرف حالةَ مريم وكالكثيرين من عرب الحيّ، انضمّ هو أيضًا لصلاتها، لا لثقتها بعودة ابنها ممدوح من الحرب.
الآن، لديه بُشرى. في الواقع استصعب التعرّف على ممدوح، ومنظره المعافى عصف بقلبه إذ أنّ الحرب قد أحسنت لبعض الناس كثيرا. قنّينة العرق التي أعطاه إيّاها سعد صدقة في طولكرم قد فَرغت، حتّى آخر قطرة. كان محتاجًا لحافز كهذا في ذهابه السريع من طولكرم لنابلس. بدأ سيره من ساعات ما قبل الظهر وبقيت ساعتان لحلول المساء. إنّه رسول الفريضة/الخير اليوم، سُبحان الخالق الذي أنعم عليه بهذه الفريضة، تبليغ البشرى لأُمّ بائسة، عُدَّت حتّى ذلك اليوم إحدى النساء الكثيرات اللواتي ثَكِلن أبناءهنّ.
الجمهور الصغير في العالَم
دخل شارع السامريّ المُعتم ظهرًا أيضًا، يتلمّس طريقَه ويده على حيطان البيوت. في الأيّام العاديّة كان يقطع هذه الطريق بلا مشكله، ولكن اليوم بعد تفريغ زجاجة كاملة من العرق وبضع كؤوس في معدته، استصعب المشي. بين مشي بخطوات بطيئة ومتردّدة، وبين تلمّس الطريق، وجد شوقي الكرمول فتحة صغيرةً تؤدّي إلى درجات عليّة سطح مريم. بعد هُنيهة كاد أن يسقط على وجهه من على كلّ الدرجات، لو لم تسمع مريم صوتَ خطوات حذائه المتعثرة. مدّت عنقها إلى ما وراء دربزين الشرفة، تنظر إليه بحبّ استطلاع متفاقم وتساءلت: ماذا يفعل هذا السكران في بيتها في يوم السبت المقدّس؟ طرأ على بالها أن تصرخ لاستدعاء ابنيها، إلّا أنّ الكرمول سبقها وقال بصوت عالٍ نحوَها:
لا تخافي يا امرأة، هذا أنا جاركم، شوقي الكرمول. لا تخافي ولا تبكي، اِمسحي الدمعة من عينيك لأنّ مكافأةَ أمَلك قد أتت.
ماذا تقول؟ ردّت مريم بصوت عالٍ – اليوم يوم السبت المقدّس عندنا. ألا تعرف أنّه يومُ راحتنا؟ لماذا جئتَ لتعكّر راحةَ جارتِك كبيرةِ السنّ؟ أشارت له بيدها بحزم أن ينصرف في طريقه.
لن أذهب إلى أن أقول شيئًا لك، ردّ شوقي الكرمول بصوت قويّ. إنّي رسولُ خير اليوم، جئتك لأُبشّرك بأنّ الله سمِع صلواتِكِ. اِصغي لي يا امرأة، أُقسم بذقن النبيّ بأنّ كلَّ ما أقوله هو الحقيقة.
تكلّم، تكلّم ولو كان هذا آخرَ كلامك على الأرض – صرخت مريم. سمِع ابنها البِكر الأمين صراخَها فهرول إليها، تقدّم بسرعة إلى شوقي الكرمول، أمسك بكتفيه محاولًا إبعادَه عن البيت. التفت شوقي إليه وتوسّل إليه أن يُفْلتَه. رائحة فم الكرمول شهدت بأنّه ثَمِل.
هل ينقصنا السكارى، إذ جئت بشدّة سُكرك لتطلق الخزعبلات على أُمّي المسنّة؟ أنَّبه الأمين بغيظ شديد. وعندما أفلت شوقي ذراعيه، مسك الأمينُ شوقي الكرمولَ بطرف مِعطفه القصير، وأخذ يجرّه على الدرجات نحو الشارع.
لو سمِعني أُناسٌ طيّبون، جازاكمُ الله خيرًا – صرخ شوقي الكرمول بحَنْجرة ناشفة، وهو مجرورٌ خلفَ الأمين الذي يجرّه تُجاهَ الفتحة. لديّ سلامات لكم من أقاربكم، سلامات من أقاربكم في طولكرم، سعد صدقة. إنّي حامل بُشرى أنا اليوم. في صباح هذا اليوم، رأيت في بيت سعيد صدقة شقيقَك، يا أمين، وابنك عزيزَك ممدوح، أيّتها الأّم ّالغالية، استجاب الله لصلاتك. ابنك وصل من تركيا. إنّه حيّ، معافى، قويّ، نعم، صدّقوني، رأيت ممدوح صدقة!
واصل الأمين جرَّ الكرمول إلى الفتحة، بين سامع وغير سامع كلام الكرمول، في وسط أنّات الثَمَل. وهنت يدُه عند سَماع اسم شقيقه ممدوح من فم السكران. صوت صُراخ شديد انطلق من حَنْجرة أُمّه مريم، جعله يفلت تمامًا طرف مِعطف الكرمول، وهرع لإغاثة أُمّه التي كانت على وشك فُقدان الوعي.
اِشْفق عليّ وارحمني، اِشْفق وارحم امرأةً مُسنّة – أجهشت مريم بالبكاء، تسيل الدموعُ من عينيها كجدول – لماذا أتيتَ لتسخرَ منّا؟ من هو بِكْر الشيطان الذي بعثك لتقتلَني برمشة عين، تأتيني وتتحدّث كالمجنون؟ إنّي أعلم أنّني كنت مسخرةً في نظر كلّ جيراني، لأنّي ما فقدتُ ولو للحظة الأملَ في أن أرى ذاتَ يوم ابني حبيبي، ابني قُرّة عيني. ولكن لماذا تعاملني بقسوة، وما فعلنا لكم، لعائلة الكرمول حتّى تأتي وتضحك حزني وشقائي. [انظر مراثي إرْمِيا 1: 7، هذا الاستعمال שׂחקו על משבתה، غير موجود في التوراة] لا، لا تقُلْ شيئا. إيّاك أن تجرؤ وتنطِق شفتاك الدَّنِستان باسم ابني. تعال هنا يا سعيد، تعال هنا يا أمين، أزيلا عنّي خِزْيَ وجود هذا السكرانَ! أَخْرِجاه من هنا واضمنوا ألّا أراه بعد أبدا.
لا، اِسْمعوني، لأنّي أقول الحقيقة. صرخ شوقي الكرمول إلى الآمين وسعيد اللذيْن أسرعا لمسكه، وإخراجه من هناك أمامَ كلّ أبناء الطائفة من الصغير إلى الكبير الذين تجمّعوا هناك، وشهدوا على ذلك المشهد الغريب عندهم جدّا. إنّي أُقسم بذقن النبيّ، ولتعمى عيناي إنْ لم أرَ ممدوحًا عزيزَكم، معافى سليمًا في بيت سعد صدقة في طولكرم. جئتُ من هناك. سعد صدقة هو الذي أرسلني إليكم لأزفّ البشرى لكم، بأنّ ممدوحًا حيّ يُرزق وبأن تذهبوا لإحضاره إلى نابلس بالتكريم.
الكاهن توفيق يُهدّىء
أَصْغُوا إليّ كلُّكم! – سُمِع صوت مفعمٌ بالسُّلطة من عليّة السطح المجاورة. كان هذا الصوت الرقيق بيّنًا بنغماته
التي كانت مزيجَا من أبواق الابتهاج وأجراس الصلاة. اِلتفت الجميع نحوَ ذي الوقار وذي الذقن الأشقر الواسع. وسيمًا كان كملاك الله، إنّه توفيق الكاهن، الابن البِكر بين أربعة أبناء الشاعر الكبير الكاهن خضر/فنحاس إسحق.
توفيق الكاهن المعروف بكُنيته ”أبو واصف“، الذي كان قليلَ الكلام، ولكن عندما كان يفتح فاه للكلام، نصت إليه الجميع؛ حتّى الكاهن الأكبر إسحق عمران كان أُذْنًا صاغية له.
نداؤه كان بمثابة أمر. الأمين وسعيد توقّفا عن المشي. نظر كلّ الحضور إلى الكاهن توفيق، منتظرين ما سيقوله. وقد شعر الكرمول بتغيّر سلوك المتجمّعين حوله. لولا أبو واصف، الكاهن المقدّس هذا، لكانوا مزّقوني إربًا كسمكة، قال لنفسه بصمت، وربّما سيمسكونه من جديد.
أَفْلتوه – أمر الكاهن توفيق، وللتوّ أشار إبراهيم أخوه للأمين وسعيد لفعل ذلك. في الواقع، جارنا هذا ليس في عِداد الأذكياء ولا يُعدّ عادة رزينًا، ومع هذا دَعُونا نسمع ما في فيه، ليفتحه وليُنر كلامُه – التفت الكاهن توفيق نحوَ شوقي الكرمول الذي تقزّم إزاءَ نظرة الكاهن الثاقبة.
أقسمتُ بحياة أبي أنّي لن أقول إلّا الحقيقة، سيّدي الكاهن. همس شوقي كلماتِه – إنّي أتٍ من طولكرم، بمهمّة ولو عرفت أنّكم ستستقبلونني هكذا لما أتيتُ. هناك رأيت ممدوح صدقة الذي وصل من تركيا. أُقسم بالله، معافى هو وقويّ كالحصان، صافٍ وأحمرُ هو كملاك الله.
الوفد يُغادر إلى طولكرم
تتبّعتهم أُمّ ممدوح بعينين دامعتين، غير مصدّقة ما يجري قدّامَها. رأتِ الكاهنَ توفيق بن خضر/فنحاس يوزّع التعليماتِ همسًا على الرجال المتجمّعين حوله. تفرّقت المجموعة. بدأ الرجال بالتراكض من هنا وهناك. بدا الحيّ كخليط يغلي، نداءات وصرخات في كلّ مكان.
من كلّ هذا الضجيج، خرجت أخيرًا مجموعة من خمسة رجال، على رأسها الكاهن توفيق. لاحظتِ المجموعة أنّ الأمين، بِكر مريم، في المجموعة التي تشُقّ طريقَها إلى ساحة المدينة للحصول على ديليجانس (مركبة بطيئة ولكنّها ناجعة)، لتُقلّهم في ذاك المساء إلى طولكرم.
أخذ الأمين بِكرُها على عاتقه التكفّلَ بكلّ التكاليف. عقّب أبو واصف، الكاهن توفيق، بأنّ أمرًا ما يجري للأمين، شيء نادر جدًّا. أصبح على حين غِرّة كريمًا معروفا. اُنظروا ما تفعلُ محبّة الإخوة – قال أبو واصف، لم يُضِفْ شيئا. من المفروغ منّه، أن لا أحدَ فكّر في الردّ عليه. ها هنا شرف عظيم لا نظيرَ له، أنّ كاهنًا مثل أبي واصف لن يعرف السكينة والراحة إلى أن يُعيد ابنًا مفقودا لذويه.
مكثتِ النساء في الخلف وحاولن تهدئة الأُمّ مريم المضطربة الهائجة. مرّتِ الآن بتجربة غريبة من فقدان الثقة. هي، التي كانت الوحيدة التي وثِقت/آمنت/المؤمنة بعودة ابنها إليها، انقلبت الآن لتكون الوحيدةَ التي لم تصدّق إمكانيّة حصول ذلك. كانت مريم شبيهةً بامرأة تصوم صومَ يوم الغفران، تشعر بجوع رهيب، ولكن عند انتهاء اليوم وترى مائدة الطعام المتنوّع جاهزةً أمامَها يتلاشى جوعها كأنّه ما كان، حتّى ولو لم تضع لقمة في فمها. هكذا كانت مريم.
عادت مريم وقالت، وهي جدّ منفعلة، للنساء المتحلّقات حولَها: لا، لا، هذا مستحيل، لا يُساورني أيُّ شكّ بأنّ اللهَ يجرّبني فأرسل شوقي الكرمول المجنون والسكران، ليسخر من نفس أمَته.
واصلتِ النسوة في تهدئتها ولكن عبثًا. لم تستطع مريمُ بعدُ، أن تهضم الحدثَ الأخير الذي وقع عليها فجأةً، بدون أيّة مقدّمة أو تمهيد، بعد أربع سنوات من الانتظار العبثيّ. لم تتركها النساء في تلك الليلة خشية من عدم تحمّل عبء التجربة.
نظر وجهك ما رجوت [ تكوين 48: 11، اُنظر حسيب شحادة، الترجمة العربيّة لتوراة السامريّين. المجلّد الأوّل: سفر التكوين وسفر الخروج. القدس: الأكاديمية الوطنيّة الإسرائيليّة للعلوم والآداب، 1989، ص. 244–245].
زحفت ساعات صباح يوم الأحد ببطء محطّم للأعصاب. لم تتوقّف مريمُ عن وضع علامة استفهام كبيرة، أمامَ عينيها حول مِصداقيّة الكرمول. كانت تنظر من مجلسها الدائم في شرفة عليّة بيتها، نحو طريق رفيديا.
فجأةً، كاد قلبُها يتوقّف عن النبض. رأت عن بُعد عِمامة الكاهن توفيق الحمراءَ وهو ينزِل درجاتِ عين العسل على رأس زُمرة كبيرة من الناس=، تهتف بالنشيد: حينئٍذ سبّح موسى [خروج 15: 1] المُلْقى للعرسان. في وسط المجموعة حُمِل على الأكتاف، شابّ معتمر قبّعة واسعة الحواف، ولابس بنطالًا قصيرا. قال/شهد قلبها/دليلها أنّ أعجوبَتها الشخصيّة وقعت.
ممدوح ابني، ممدوح ابني، ابني حبيبي عاد إليّ، رؤية وجهك ما ظننتُ – قالت بصوت عالٍ. أسرعتِ النساءُ فسكبن على وجهها ماءً باردا لإنْعاشِها.
آشِر، ممدوح، ابني عزيزي – مريم فقدت وعيَها ثانية.
منقّح القصّة الأمين صدقة يُغلق/يُتمّم الدائرة: في السنتين 1966–1967 منع الشباب السامريّون وأنا منهم منَ العبور للأردن لقضاء عيد الفسح/القُربان في مَعيّة إخوتهم. رفض الأُردنيّون ذلك. بعد نهاية حرب العام 1967 [في الأصل: حرب الأيّام الستّة] ببضعة أيّام وصلت بيتَ أُسرتي في نابلس. طرقتُ الباب، أتى شخص وفتح. من ضمن المجموعة المرتعبة التي كانت متجمّعةً في رُكْن الغرفة، تقدّم إليّ عمّي ممدوح/آشِر ابنُ الثاني والثمانين عامًا [بناء على هذه المعلومة تكون سنة ولادة ممدوح 1885، في حين أن معلومة سابقة في القصّة ذكرت أنّه كان ابن اثنين وعشرين عامًا عند تجنيده للحرب العام 1914 وعليه فسنة ولادته هي 1892، لا بدّ من فحص ذلك]، ضمّ كتفيّ وبكى:
نظر وجهك ما ظننتُ.