أمد/
أنشدنا (ذو القُروح) بيت الشاعر الأُموي (جَرير(1) بن عطيَّة، -110هـ= 728م):
تَمُـرُّونَ الدِّيارَ ولم تَعُوجوا ::: كلامُكُمُ عَليَّ، إِذَنْ، حَرامُ
ثمَّ أردفَ: وهو كلامٌ- كما ترى- مألوفٌ مفهومٌ مأنوس، لكنَّه زلزلَ عروش النُّحاة زلزالها، لأكثر من ألف سنة، وما يزال، وسيظل، متصايحين: «كلامُكَ، يا جَريرُ، هُوَ الحَرامُ»!
– يا ساتر! لماذا؟
– معتقدين أنه قد ارتكب خطأً فاحشًا، وزلَّ به لسانه التميميُّ الفصيح زَلَّةً لا تُغتفَر، فطاح من أعينهم؛ لأنه كان يجب وجوبًا أن يقول: «تَمُـرُّونَ بالدِّيار»، وربما صنعوا للبيت- كعادتهم- رواية، زعموا أنها هي الفصيحة الصحيحة، لا لشيءٍ إلَّا لأنها تتماشى مع قواعدهم.
– عربيَّة (جَرير)، إذن، كعربيَّتنا اليوم؛ نحن نقول: مررتُ محمَّدًا، ومررتُ الجامعةَ… إلخ.
– هيهات، إنَّ الأصل، كما قال النحاة: «تَمُـرُّونَ بالدِّيار»، ، وما عداه فاسدٌ مفسِد، ولو قلتُه أنا، أعني (ذا القُروح)، أو قاله (جَرير)! ولذا صار إعراب مَن تطوَّع لإعراب هذا البيت الشاذ: أنَّ كلمة «الدِّيار»: منصوبةٌ بنزع الخافض.
– يقولون هذا، مع أنَّ هذا استعمال ممتدٌّ منذ (جَرير)، وربما قبله، إلى يوم العَرَب هذا.
– ممتدٌّ أو غير ممتدٍّ، نحن جميعًا، وعلى رأسنا جَرير، لم نعد عَرَبًا فصحاء، بناءً على الحُكم النَّحْوي القرقوشي.
– أو قل: نحن، على أحسن تقدير: شاذُّون، يُحفَظ قولنا، ولا يُقاس عليه!
– قل ما شئت، لكن الحقيقة: أنَّ لكلِّ قاعدةٍ شواذَّ، إلَّا قواعد النُّحاة، بزعمهم، وهي قواعد لا تتزعزع!
– ولو كانت لديهم المرونة العقليَّة، والوعي اللِّساني الكافي، لما خَطَّأوا من خرج على قواعدهم، ولو في حرف جَرٍّ، هكذا ضربة لازب.
– (لو) هذه كلمة تفتح عمل الشيطان، كما قيل! ثمَّ إنَّ اللُّغة ليست بحروف مقدَّسة، بل هي وسيلة إفهامٍ وتواصل؛ فإذا تحقَّقت غايتها هذه أصبح التمسُّك التشنُّجي بكلِّ حرفٍ فيها محض تنطُّعٍ أعمَى، وغُلُوٍّ بلا معنى. أ ولم يأت في «القرآن»، مثلًا: «وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُون»؟ ولم يقل: «كالوا لهم، أو وزنوا لهم»؛ لأن المعنى المطلوب إيصاله قد تحقَّق، وهذه هي الغاية اللُّغويَّة، والبلاغة الإيجاز.
– صح!
– بَيْدَ أنَّ أصحابنا هؤلاء سيقولون لك هاهنا: إنَّه لا يجوز مَرَرْتُ زَيْدًا، بل يجب أن تقول: بزَيْدٍ؛ لأنَّ الفعل (مَرَّ) لازم، لا يَنصب مفعولًا به، ولو انطبقت السماء على الأرض! فهو لا يتعدَّى بنفسه، وإنَّما يتعدَّى بحرف، وكذلك أنت لا ينبغي لك أن تتعدَّى قواعدنا، لا بحرفٍ ولا من دون حرف! ولذلك اخترع بعضهم لبيت جَرير روايةً أخرى باردة، هي: «مَرَرْتُمْ بالدِّيار ولم تَعُوجُوا»، وزعموا أنها هي الرواية الصحيحة، والأخرى رواية شاذَّة، والعياذ بالله، ونسبوا الرواية الباردة إلى حفيد جَرير (عُمارة بن عَقيل). ونسبوا الرواية الإشكاليَّة (الشاذَّة، والعياذ بالله) إلى مشاغبي أهل (الكوفة)(2)…
– عليهم من الله ما يستحقون!
– من تقصد؟
– مشاغبي (الكوفة).
– ومع هذا سيلفتك بيت (جَرير) في ديوانه- وليس برواية مشاغبي (الكوفة) ولا (البصرة)- بأنَّ الخطأ النحوي نفسه الذي أنكره النحاة واقع فيه أيضًا، وإنْ بلفظٍ آخَر:
أَقُـولُ لِصـُحْبَتِي لمَّا ارْتَحَلْـنا ::: ودَمْعُ العَيْنِ مُنْهَمِرٌ سـِجـامُ
أَتَـمْضُونَ الرُّسُومَ ولا تُحَـيَّا ::: كَلامُكُـمُ عَلَــيَّ إِذَنْ حَـرامُ
أَقِيمُــوا إِنَّمـا يَـوْمٌ كَـيَـوْمٍ ::: ولَكِــنَّ الرَّفِيــقَ لَـهُ ذِمــامُ
بِنَفْسـِيَ مَــنْ تَجَنُّـبُهُ عَـزِيـزٌ ::: عَلَــيَّ ومَــنْ زِيـارَتُـهُ لِـمامُ(3)
فأين الحقيقة؟ أقال جَرير: «تَمُرُّونَ الدِّيارَ»؟ أم اصطنعها (الكوفيُّون) لإثارة قضيَّة نحويَّة، ولمناكفة (البصريِّين)؟ غير أنَّ رواية الديوان أيضًا قد استُعمل فيها الفعل اللازم (مَضَى)، وعُدِّي بلا حرف تعدية؛ فإذا خطِّئت الرواية الأولى، لزم تخطئة الأخرى، ليقال هنا: الصواب « أَتَـمْضُونَ بالرُّسُوم»! وهكذا يبدو أنَّ جَريرًا متورِّطٌ في الخطأ النحوي، حيثما ولَّى بيته! ولو قال: «أتأتونَ الرُّسُومَ»، مثلًا، لكانت في ذلك نجاته من ألسنة النحاة. ومهما يكن، تظلُّ العَرَبيَّة أوسع، وأذكى، وأجمل من القواعد الضيِّقة، والمتطرِّفة أحيانًا، في تعاملها مع الظاهرة اللِّسانية، وفهمها للُغة الإنسان بصفةٍ عامَّة.
– ولا أدلَّ على هذا من استنفار النُّحاة دائمًا، وإشعالهم الحرائق في الشِّعر والنثر، من أجل حرفٍ زائدٍ هنا أو حرفٍ ناقصٍ هناك. فعَدِّ عمَّا تَرَى، إذ لا ارتجاعَ له…
– عَدَّيناه! ولعلَّك تودُّ أن أعود بك إلى (مكَّة) و(المدينة)، وحكاية المعرَّب والدخيل؟
– إنَّ العَود أحمد!
– لقد كانت (مكَّة) بخاصَّة، و(الحِجاز) بعامَّة، ملتقى حضارات وثقافات عالميَّة، منذ ما قبل الإسلام. وازداد ذلك بعد الإسلام؛ يوم أن صارت مكَّة مهوى أفئدة البشر والثقافات من كلِّ أقطار الكُرَة الأرضيَّة.
– ولذا، لو طرحنا السؤال هنا: ممَّ تشكَّل التراث الحِجازي، أساسًا، الذي جاء «القرآن» بلسانه؟
– إنَّه فسيفساء من ثقافات شتَّى: شاميَّة، ويمانيَّة، وأفريقيَّة، وروميَّة، وفارسيَّة، وهنديَّة، وصينيَّة.. إلى غير ذلك.
– مضافًا إلى التراث المحلِّي.
– بالطبع، لكن المحلِّيَّ بات يتعذَّر فَرْزُه عن غيره من أمشاج التراثات الوافدة.
– وقد كان ذلك وما يزال مصدر ثراءٍ وتنوُّعٍ رائع، قلَّ نظيره، يشمل: الفنون، والعادات، والأطعمة، والأزياء، واللُّغة.
– نعم، وما دخول المعرَّب من لُغات أخرى في نصِّ «القرآن»، إذن، سِوَى ناتجٍ طبيعيٍّ من نواتج تلك المثاقفة القديمة.
– ومن هنا فإنَّ كلَّ نزوع، قديم أو حديث، نحو تجريد المجتمع الحِجازي من ذلك الإرث المتعدِّد، هو نزوع يحاول المستحيل، فضلًا عن كونه نزوعًا عنصريًّا اتِّباعيًّا.
– هو كتلك المحاولات القُرَشيَّة الفاشلة قُبيل الإسلام للتَّطهير العِرقي، باضطهاد غير العَرَب ماديًّا أو معنويًّا، واشتداد هذا بُعيد الإسلام، لاستجابة هؤلاء قبل غيرهم للدعوة المحمَّديَّة: (بِلال الحبشي)، و(سَلمان الفارسي)، و(صُهَيب الرومي). ثمَّ أصبح ذلك التمييز، بالمعيار الإسلامي، نزوعًا غير إسلامي؛ لعالميَّة الإسلام، مثلما هو بمعيار الحضارة نزوعٌ منغلقٌ وغير حضاري، بل غير عاقلٍ أصلًا.
– وفوق هذا فإنَّه نزوعٌ ضد صاحبه، وضد مكتسباته الوطنيَّة، إنْ كان يعي قيمة التنوُّع الثقافي، وعقم الانغلاق والتصحُّر ورفض الاختلاف.
– الأُمم المحتضِّرة تعتزُّ بثراء تراثها الإنسانيِّ وتنوُّعه، وإنْ كان في أصله لأعدائها، كما هو الحال في (إسبانيا)، على سبيل المثال، وما ورثه الإسبان عن الحضارة الإسلاميَّة الأندلسيَّة. ولا يدَّعي صفاء الدم الثقافي إلَّا جاهل، كحال من يدَّعي صفاء الدم العِرقي. وما دامت اللُّغات حوامل التاريخ كلِّه، فلا مفرَّ لها من تمازج الأنفاس في رئتَيها العتيقتين، شرقًا وغربًا، شَمالًا وجنوبًا.
– التُّراث؟ وما أدراك ما التُّراث؟ كشكول من الحقِّ والباطل!
– وكذا التُّراث الحداثي، هو من العماء والأدلجة بمكانٍ مرموق. أمَّا التراث القديم، فلا شك أنه محتاجٌ إلى غربلةٍ بغرابيل دقيقة، وإعادة قراءةٍ وتنقيح، وتحقيق حقيقي، قبل أن تلوم أحدًا، أو تتَّهمه بالإغراض، أو السعي لقلب الحقِّ باطلًا والباطل حقًّا. فكثيرًا ما يجد هذا ضالَّته في تضاعيف الكتب التراثيَّة. ويمكن أن نضرب هنا مثالًا بغير كتابٍ تراثي. وليكن كتابًا ذا عنوان ضخم، زخرفيَّ الادِّعاء، حتى لقد بات عنوانه ذاك عنوانًا على فراغه. وهو كتاب «العِقد الفريد»، لـ(ابن عبدربِّه الأندلسي، -328هـ= 940م).
– إلَّا «العِقد الفريد»، يا (ذا القُروح)، اتَّق الله!
– هذا الكتاب الكشكولي، يا صديقي، فقيرٌ في قيمته العِلميَّة، لا يعدو في معظمه نُقولًا من هنا وهناك، أشبه بصحائف الطلبة الحائطيَّة: حِكمة هنا، ومَثَل هناك، وحكاية مقتبسة هنالك، مع التكرار للحكاية الواحدة عِدَّة مرَّات.
– كيف؟
– انظر، مثلًا، كيف كرَّر الزعم أنَّ (عليَّ بن الحُسين) كان يصلِّي في اليوم ألف ركعة؛ فذكره في (كتاب الزُّمُرُّدة)، و(كتاب العَسجدة الثانية)، و(كتاب اليتيمة الثانية: مرَّتين). ولقد صَدَقَ من سفَّه قيمته، حين ورد إلى المشرق، فقال: «هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا». ويُنسب هذا إلى (الصاحب بن عبَّاد). بل هو يُسِفُّ عن بضاعة المشرق، إذا قيس بكتاب «الأغاني»، لـ(أبي الفرج الأصفهاني)، على سبيل المثال، بما حواه هذا الأخير من مادَّة تاريخيَّة أصيلة، وأخبار صار فيها مرجعًا. أمَّا صاحبنا الفقيه ابن عبدربِّه، فإنه لتلهِّيه بتلك النُّتف من المقتبسات، بين اليواقيت و الزُّمُرُّدات والعساجد، قد غفل حتى عن أن يحفل بأخبار موطنه (الأندلس) وأدبه، سِوَى ما قد تجد من معلومات تاريخيَّة محدودة وعابرة، وإن احتفى بشخصه الكريم في كتابه. وموعدنا المساق الآتي، للتعرُّف على بعض طرائف «العِقد الفريد»، ونقل مؤلِّفه الأعمَى، وما قد يورد من روايات متضاربة.