أمد/
أشعلت عملية اعتقال تسعة من الجنود الإسرائيليين المتهمين بتعذيب وباغتصاب أسير فلسطيني في معسكر «سديه تيمان»، الذي تحوّل إلى معتقل كبير حشر فيه حوالي 2500 أسير فلسطيني من قطاع غزة، ردود فعل غاضبة في أوساط اليمين الفاشي الإسرائيلي، فاقتحم المئات المعسكر وتظاهروا ضد الشرطة العسكرية، التي قامت بعملية الاعتقال. وبعد نقل المعتقلين إلى معسكر «بيت ليد»، المُقام على أراضي قرية بيت ليد الفلسطينية، اقتحمه المتظاهرون مطالبين بإطلاق سراح الجنود، الذين «ليس لهم ذنب سوى الدفاع عن أمن إسرائيل»، على حد قول الفاشيين الإسرائيليين وقياداتهم.
أثار ما حدث حفيظة النخب الإسرائيلية، التي امتعضت من قيام مجموعات من «حثالة البروليتاريا» المنفلتة بتدنيس «المعبد العسكري»، الذي هو قدس أقداس الدولة الصهيونية. وذهب بعضهم إلى أن ذلك يشكل بداية «حرب أهلية»، وقال آخرون إننا أمام حالة «حكم رعاع» خطيرة. وبموازاة ذلك احتفل الإعلام العربي بتفكك إسرائيل كدولة، وتطايرت التحليلات بقرب الخلاص، وبأن إسرائيل تنهار من الداخل وتأكل نفسها بنفسها. وهكذا طغت المبالغة في الانتقال من التشخيص الصحيح نحو التنبّؤ المتهوّر، الذي لا يستوي مع التحليل الواقعي المنطقي.
يجدر عدم التقليل من دور المجموعات الفاشية ومسانديها في النخب الإسرائيلية، فلها تأثير ليس بالقليل على اتخاذ القرار السياسي في الدولة الصهيونية، عن طريق فرض حالة من الترويع والإرهاب، لردع القيادات السياسية والأمنية والقضائية عن اتخاذ قرارات لا تنسجم مع التوجهات اليمينية المتطرفة. لكن من المبالغة القول إن المجتمع الإسرائيلي يتفكك وإن الحرب الأهلية على الأبواب، وغير ذلك محاولات تفسير الأحداث استنادا إلى أمنيات وأوهام وليس إلى حقائق موضوعية صلبة. جاء انفلات قطعان اليمين الفاشي الإسرائيلي في سياق تمجيد وحماية الجرائم التي ترتكب بحق الأسرى الفلسطينيين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية. وما من شك بأن أسرى الحرية يمرون بأصعب الظروف منذ عشرات السنين، وتستغل الدولة الصهيونية الانشغال العالمي والمحلي بالاجتياح الإسرائيلي الإجرامي لقطاع غزة والأعمال القتالية على الحدود اللبنانية، لارتكاب أبشع الموبقات بحق الأسرى الفلسطينيين.
خلال حربها العدوانية، اعتقلت إسرائيل آلاف الغزيين وحشرتهم في أقفاص ضخمة في معسكر «سدية تيمان»، الذي كان سابقا مطارا عسكريا وموقعا لجيش الانتداب البريطاني، أقيم عام 1942 وأُطلق عليه حينها اسم «بير أبو رقيّق»، لقربه من بئر تابعة لقبيلة أبو رقيق البدوية الفلسطينية. وفي الخمسينيات، قام الجيش الإسرائيلي بتحويل مطار «بير أبو رقَيّق» البريطاني إلى مطار وموقع يحمل اسم «سدية تيمان»، وليس واضحا فيما إذا كان الاسم يعود إلى هجرة يهود اليمن أم إلى موقعه الجنوبي. لكن المؤكد أن المنطقة برمتها هي ملك لقبيلة أبو رقيق. بدأ إدخال الأسرى إلى «سدية تيمان» في يوم السابع من أكتوبر ذاته، ومنذ ذلك الحين اعتقل فيه الآلاف من الغزيين، ويوجد فيه اليوم حوالي 2500 أسير. ويجري الاعتقال في هذا المعسكر وفق «قانون سجن محاربين غير قانونيين»، الذي يحرم المعتقلين بموجبه من حقوق السجناء ومن حقوق أسرى الحرب. وزيادة على هذا القانون الجائر تفرض إسرائيل الإجراءات المستمدة من قانون الطوارئ، الذي تم اعتماده بعد إعلان حالة الحرب رسميا. ورغم تجهيز الدرع القانوني لعمليات التعذيب والتنكيل والحرمان من أبسط الحقوق، إلّا أنّ الرأي الحقوقي يشير بوضوح نفاذية القانون الدولي، وبالأخص اتفاقية جنيف الرابعة، والصك العالمي للمبادئ الأساسية لمعاملة السجناء وغيرها. الحيلة «القانونية» الإسرائيلية، هي أنها تعتبر أسرى غزة «حالة خاصة»، فلا هم سجناء ولا هم أسرى، وبالتالي لا يسري عليهم المنصوص عليه في القانون الدولي. لم تشهد فلسطين مثل هذه الحالة الفظيعة للاعتقال منذ النكبة، سوى في معتقلات الشباب الفلسطيني، التي وصفها الباحث الفلسطيني مصطفى كبها في كتابه «أسرى بلا حراب»، وسرد فيه معاناة 14 ألف أسير فلسطيني بين عامي 1948-1950، حيث قامت القوات الإسرائيلية باعتقال الذكور الفلسطينيين في جيل 15-60 عاما، وتعاملت معهم بشكل تعسّفي وقمعي بلا حقوق أسرى أو سجناء.
معتقل «سدية تيمان» يشبه زرائب الحيوانات، والتعامل مع الأسرى فظيع بكل المقاييس. ما هو معروف، إلى الآن، أن 36 معتقلا استشهدوا نتيجة التعذيب والإهمال الصحي. الكثير من المعتقلين جرحى ومرضى، ولا يتوفر لهم الحد الأدنى من العلاج اللازم، وقد رفضت المستشفيات الإسرائيلية معالجة المعتقلين الغزيين بادعاء الخوف من مظاهرات واقتحامات اليمين المتطرف. أما المستشفى الذي أقيم جوار المعتقل، فهو أقل بكثير من الحد الأدنى، ولا يعمل وفق الإجراءات والقوانين الإسرائيلية العادية، بل على أساس تعليمات خاصة سطّرت في مستند من عشر صفحات صدر يوم 19.12.2023 وكان عنوانه: «إجراءات علاج محاربين غير قانونيين في منشأة سدية تيمان ـ حرب سيوف الحديد.» ورغم أن الوثيقة أعدت خصيصا كدرع في وجه المحاكم الدولية، إلّا أنها تركت مجالا واسعا لانتهاك حقوق الأسرى المرضى والجرحى، مثل جواز العلاج وحتى إجراء العمليات والمعالج مكبّل بالأصفاد ومعصوب العينين، ناهيك عن إفراد خيمة خاصة للتحقيق مع المصابين، بغض النظر عن حالتهم الصحية.
هناك عدة عوامل دفعت المدعية العسكرية العامة في إسرائيل لاستدعاء عدد من الجنود للتحقيق بتهمة ارتكاب أعمال التعذيب والاغتصاب، وحقوق الأسير والإنسان ليست من ضمنها. لقد اضطرت لفعل ذلك لأسباب «قاهرة»:
أولا: التقارير الإعلامية المتكررة، التي أبرزت أن معتقل «سدية تيمان» هو معسكر تعذيب وتنكيل واغتصاب. فقد جاء في تقارير قناة سي. إن. إن وصحيفتي «نيويورك تايمز» و»واشنطن بوست» أن تكبيل الأسرى لفترات طويلة أدى إلى تلف في الأطراف وإلى بترها، كما أدت أعمال الضرب إلى حالات تهشيم العظام وتمزيق الطحال. وأشارت تقارير حقوقية، إلى أن أسرى ظلّوا يصرخون لساعات طلبا للعلاج، ولم يُستجب لهم فلقوا حتفهم، كما كشفت أن الجو في المعسكر مشبع بالرائحة الكريهة الناجمة عن جروح متعفّنة لا تعالج. هذه التقارير هي لائحة اتهام مسنودة بالدلائل تفضح الدولة الصهيونية وتعرّض المسؤولين فيها لمساءلة قانونية دولية.
ثانيا: الخوف مما يجري في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، ومحاولة استباق تقديم لوائح اتهام جديدة ضد القيادات الإسرائيلية، بالادعاء بأن إسرائيل تجري التحقيق بنفسها وتحاسب المسؤولين عن خرق القانون الدولي. وتحاول الجهات القانونية الإسرائيلية إقناع المحكمة الدولية بأن مبدأ الاستكمال يعمل لصالحها لأن في إسرائيل قضاء «مستقل ومستقيم وقوي وفاعل»، يلغي الحاجة لتدخل قضائي دولي. وهي تحاول استغلال مظاهرات الاحتجاج للبرهنة على «جدية التحقيق».
ثالثا: محاولة إقناع بريطانيا بالامتناع عن اتخاذ خطوات عقابية ضد إسرائيل، خاصة بعد أن قررت حكومتها إعادة تمويل وكالة غوث اللاجئين ـ الأونروا، وسحبت تحفظاتها على إصدار محكمة الجنايات الدولية مذكرات اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن، يوآف غالانت. وتخشى إسرائيل من أن تقوم الحكومة البريطانية بتنفيذ تهديدها بحظر تزويدها بالأسلحة والذخائر، وأن يؤدي ذلك إلى اتخاذ دول أخرى خطوات مماثلة. ويستند التهديد البريطاني إلى أن إسرائيل تخرق القانون الدولي في أعمالها العسكرية وفي تعاملها مع الأسرى الفلسطينيين.
رابعا: التغطية على تصريحات وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير، التي تباهي فيها بالتعامل السيئ مع الأسرى الفلسطينيين، ما أثار مخاف لدى النخب الإسرائيلية من إمكانية أن تأخذ بها جهات دولية لإثبات أن إسرائيل تنفّذ جرائم حرب. وهنا يأتي التحقيق للتوضيح، أن كلام بن غفير لا يؤثر على «التزام إسرائيل بالقانون الدولي»، ومسرحية التحقيق هي محاولة للتغطية على صراحة المجرم بأكاذيب محامي الدفاع.
خامسا: من حيث المبدأ، تفرض المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على أفرادها الالتزام بقواعد الإجرام المنظم، وعدم اللجوء إلى ما يسمى «أخذ القانون بالأيدي» والقيام بممارسات فردية خارج إطار الأوامر العسكرية الرسمية. عادة ما تتسامح هذه المؤسسة مع «خروقات» كهذه، طالما لم يجر تصويرها وتوثيقها ولم تتحول إلى انفلات يصعب ضبطه. الجيش الإسرائيلي يوفّر لجنوده أطرا وأشكالا متعددة للتعبير عن السادية ولتفريغ غريزة الانتقام والقتل والتدمير، ولا حاجة بنظره لمبادرات فردية. ويهدف التحقيق مع الجنود لتأكيد مبدأ سيادة القانون الذي يسمح بالجريمة المنظمة لا الجريمة المنفلتة.
طرأ بعد السابع من أكتوبر تصعيد كبير في التضييق على أسرى الحرية الفلسطينيين، وحدث انهيار كبير في ظروف الأسرى في السجون كافة وليس في “سدية تيمان” فقط. فقد أدى حبس ما يقارب 10 آلاف معتقل جديد إلى اكتظاظ رهيب في السجون، وأصبح عدد الأسرى الإداريين بالآلاف، وجرى تقليص الخدمات الطبية ومصادرة الحاجيات الأساسية وحرمان الأسرى من زيارات الأهالي، وفرضت قيود شديدة على لقاء المحامين، وأصبح الطعام سيئا جدا ورائحته كريهة وبكميات قليلة جدا، وزادت بشكل كبير الاعتداءات على الأسرى لأتفه الأسباب. وقد استشهد في فترة الحرب 19 أسيرا في السجون المختلفة، بالإضافة إلى شهداء “سدية تيمان” يصل الأسرى الشهداء إلى 55 شهيدا.
قضية الأسرى في غاية الأهمية، ويجب أن تأخذ حقّها حتى في ظل الإبادة الجماعية والدمار الشامل. وهناك ما يمكن فعله في هذا المجال مثل اشتراط الصفقة بتحسين حالة الأسرى وحفظ حقوقهم الأساسية، والضغط على المستوى الدولي لتقوم لجان التحقيق التي جرى تشكيلها سابقا بدورها، حتى لو رفضت إسرائيل التعامل معها، كما هناك لزوم لتحضير ملف مفصل وموثّق لرفع الدعاوى ضد جرائم إسرائيل بحق الأسرى أيضا.
عن القدس العربي