أمد/
بعث لي صديقي المقدسيّ محمود شقير برنقيّة كتب فيها: “لي نسخ من كتاب أصيل سلامة. أرجو إحضارها إلى رام الله”. زرت مكتبة كل شيء الحيفاوية لاستلامها فأهداني صديقي صالح عباسي نسخة من الكتاب “قمر 14 وقصص أخرى” للكاتبة أصيل عبد السلام سلامة، ابنة رفح النازحة في خان يونس (قصص قصيرة جدّاً، 103 صفحات، تصميم شربل إلياس الصادرة عن مكتبة كل شيء 2024 ناشرون الحيفاويّة).
حال استلام الكتاب صوّرته على بلكون الحريّة (كما سمّاه الصديق مفيد الشرباتي) وبعثت الصورة لـ (أبو خالد)، وبعدها بدقائق أعلمني صديق أنّ الصورة على حائط صفحة الكاتبة وكتبَت بلهفة: “كتابي في طريقه من حيفا إلى رام الله”. لم أفتح الكتاب، لأنّني شعرت بإحراج من تصفّحه قبل صاحبته، وإذ بها تبعث لي بنسخة الكترونيّة ع الماسينجر، ففتحت الكتاب وقرأته.
قرأت ممّا كتب الأديب المقدسيّ محمود شقير في التظهير، وهو عتبة نصيّة مهمّة: “من يدقّق في هذا القصص يلمس خيطاً رقيقاً ينتظمها، كما لو أننا نشاهد شريطاً مصوراً محبوكاً بتصميم على إيصال الفكرة إلى القراء؛ الفكرة التي ترفض الحرب وما ينتج عنها من معاناة، وترفض النزوح من البيت، هذا النزوح الذي يعدُّ من أفدح المصائر في زمن الحرب”.
وكذلك العنوان؛ عتبة نصيّة أخرى؛ فالقمر في اليوم الرابع عشر من كلّ شهر يكون بدراً كاملاً بطلّة جميلة ونور ساطع ووصفه يعبّر عن جمال الأشياء، وكتبت في القصّة التي تحمل المجموعة عنوانها: “رشّ المزيد من العطر، فالجميلة أخيراً أعطته موعداً كي تراه، وحينما حضرت سألته عن طلّتها؟ فقال: “قمر 14”. أخذني العنوان لفيلم ضوء القمر (MOONLIGHT TRAILER) للمخرج باري جينكينز حيث ينعكس الضوء من على سطح القمر لينير الليالي.
وتهدي الكتاب “إلى الواقع الذي بخل بتجسيد معاني الطفولة، السلام، الحب والأمان”.
وسمت الكاتبة و/ أو الناشر الكتاب “قصص قصيرة جداً”؛ تتألف القصة القصيرة جداً من عدد محدود من الكلمات، مكثفة، فيها نوع من الإدهاش، تشبه الكاريكاتير، تحتوي على السخرية والمفارقة. ابتدأها الروائي إرنست همنجواي بقصّة من ست كلمات فقط: “For sale: baby shoes, never worn.” ، “للبيع: حذاء طفل، لَمْ يُلْبَسْ قَطّ.” ، ست كلمات جديرة بالتأمل والتفكير، غزيرة المعنى.
طوّرها الكاتب أوغستو مونتيروسو في ومضته -الديناصور: “When he woke up, the dinosaur was still there.” “حين استيقظ، كان الديناصور ما يزال هناك”. نجد فيها التكثيف، المفارقة، إيحاء ونهاية مباغتة، وتجانس وترابط بين العنوان وشطري النص، وكذلك بين شطري النص ذاتهما.
حين قرأت الكتاب قراءة ثانية متأنيّة تساءلت؛ هل هي يوميات و/أو خواطر و/أو ومضات و/أو قصص قصيرة جداً ووجدت الإجابة عبر الحروف والصفحات.
جاء الكتاب في ثلاثة فصول؛ ابتدأت الفصل الأوّل: “في الصباح، كانت الحافلة تأخذني من بيتي في الجنوب إلى الجامعة في الشمال”. أمّا الفصل الثاني فابتدأ: “في المساء كانت الحافلة تعيدني من باب الجامعة في الشمال إلى بيتي في الجنوب”. والفصل الثالث: “لم تعد هناك حافلة ولا جامعة ولا رفيقات دراسة. أنا الآن في خيمة من خيام النازحين”.
وجدت العناوين سيمفونيّة جاذبة وأخذتني إلى سيمفونية ضوء القمر (Moonlight Sonata ، واسمها الأصلي بالألمانية Mondschein سوناتا بيانو رقم 14 لبيتهوفن)؛ حياة، أحلام، انتظار، خوف، رسالة، صوت، ماء، تلفاز، افتقاد، أزهار الليمون، قطف، رسائل، ليل، ليلة العيد، صباح العيد، طفل، ورد يا حلوة، مفاجأة، ماء، ضياع، عروس، مدينة، مسدس، عهد، سارق، لقاء، سحاب، زنزانة، أسير، استغفار، حمامة، جدران، بلدة، استثمار، الغائب الحاضر، فستان، حب، وطن، عقد، عضّة، جوع، مثال، خوف، نسيان، معلّمتي، تهنئة، وحدة، ملاحقة، غرور، شهرة نصف كم، رغبة، حريق، فراق، قمر 14، لون الجوع، حيرة، صراع، حرص، ضوء القمر، تمرّد، قدر، هراء، اختفاء، وردة، حتى هو، احتماء، أرق، التهام، خروج، بيت، نزوح، أسئلة، أرواحهم، البيت، حلم، حفلة، أول أيام النزوح، استحمام، دموع، إناء الألمنيوم، مراحل، من يوميات بيتنا، بستان، الجدّة، مرآة، اعتراف…وأمنية!
أخذتني الكاتبة إلى أجواء المقتلة التي تحدث في غزة وخباياها؛ لنتذوّق معها لون الجوع، وطعام التكيّة، نتحسّس الوتد والخيمة وألم النزوح، نصغي سوياً لصوت الطائرات والزنانّة ونصبح خبراء بطائرات الاستطلاع، ودوي سيارات الإطفاء، والحيرة الغزاويّة (فكّ خيمته، تنهد، ولم يدرِ أين سينزح مجدداً ص. 71)، ونذوق طعم الأرق ومرارته (نامت بعد ساعات من الأرق، نامت نوماً متقطعاً بسبب القصف وصوت الطائرة الزنانة. رأت في المنام صواريخ متساقطة وبيوتاً مهدمة وأسرى وشهداء. ثم رأت نفسها وهي تسكن في العراء. ص. 82)، ونعيّد معها، فليلة العيد “لا شيء سوى الصواريخ والطائرات وعشرات آلاف خيام النازحين والنازحات” (ص. 25)، ونفرح سويّة فرحة بريئة “فرحتها كانت بريئة مفاجأة تلك الطفلة النازحة حين وصلنا ماء البلدية بعد انقطاع” (ص. 31)، ونشعر بالوحدة مع أم الشهيد “الكل يهتف منتشياً بانتهاء الحرب، الكل يكبّر، المقاومون يُزَفّون، الأخبار تهنئ الشعب… وأم الشهيد وحدها تبكي وحدتها بالحزن على ابنها” (ص. 62)، واحتمينا احتماء غزيّ (أثناء تشييع جنازة أبيه الشهيد، علا صوت القصف، فاحتمى بأبيه للمرة الأخيرة. ص. 81) واحتفلنا معاً حفلة غزاويّة بامتياز “تسمع الطفلة صوت الانفجارات فتصرخ وتمعن في البكاء، تهدئها أمها وتقول لها:
حفلة يا ماما، حفلة
صوت طبول ورقص وغناء” (ص. 91)
عايشنا عبر الشاشات ما يحدث في غزة؛ لكن الكاتبة أعادتني إلى رواية “سينما غزة” للكاتب محمود عمر، تأخذ بيدنا بجولة من نوع آخر، تمسك بيدنا لنتحسّر معها “لكن هذا كله لن يحدث في بلد لا نجد فيها رأس بصلٍ حتى!” (ص. 13)، ونشرب كوب ماء “اليوم هو أول يوم أشرب فيه كوب ماء بارد منذ حوالي 7 شهور” (ص. 18)، ونفرح بالكهرباء “كانت فرحتنا عارمة حينما أنرنا مصابيح البيت التي أكلها الغبار، بسبب عدم إنارتها لانقطاع التيار الكهربائي منذ 7 شهور” (ص. 19)،
كتبت أصيل سلامة بلغة سهلة انسيابيّة، تلقائية وعفويّة بريئة، لا تخلو من السخرية السوداوية القاتلة؛ بلغت ذروتها في قصّة “جوع”: حضر الصحفي المتكرّش إلى طابور من الأطفال المشردين يحملون علباً بلاستيكية لتعبئتها بما تيسّر من طعام التكية، أخذ يصوّر الخيام والحياة البائسة، ثم أوقف أحد الأطفال وقد أهلكه الانتظار. سأله: أنت من خان يونس أم غزة؟ فقال له: أطعمني أولاً وبعد ذلك أجيبك” (ص. 55). وقصّة “معلّمتي”: “معلّمتي التي كانت تكتب دوماً في خانة حكمة اليوم: بلادي وإن جارت عليّ عزيزة… قرأتُ اليوم اسمها في أولى صفحات سجلّ المهاجرين!” (ص. 59). وقصّة “تهنئة”: “في آخر ساعات الحرب استقبل مكالمةً لتهنئته ببشرى الهدنة. التمع نورٌ حادٌّ في السماء، سمع الناس صوت صاروخ. بعد دقائق وجدوا بيته مدمراً وفريق الإنقاذ ينتشل جثّته متفحّمة”. (ص. 60)
وأخيراً؛ أبكتني أصيل حين قرأت قصّة “أسير”:
“الأسير رقم 203 قضى كل حياته متمنياً الخروج، حالماً بأول عناق بعد طول غياب متخيلاً صوت ضحكات الفرح والاحتفاء البهيج به. ناضل كثيراً في السجن وأضرب لشهور عن الطعام كي ينال حريّته. وفي اليوم الموعود صباحاً جاءه نذير يبلغه أنه قد فقد آخر فرد كان ينتظره-أمّه -” (ص. 43)، موقف عايشته في الفترة الأخيرة مع أصدقائي الأسرى حسام زهدي شاهين، عنان الشلبي، سامر متعب، وآخرهم رائد السعدي الذي توفيّ والده هذا الأسبوع، وغيرهم كُثر.