أمد/
أتخيل، لا ليس خيالاً البتة، لأن خيالي محروقا، مريضا، تَعِبا للغاية، هزيلا، مُغتربا، نازحاً، جائعاً، يئن حنيناً وشوقاً، بل أفكر، رغم أن فكري تشله هو الآخر أصوات مرعبة من طائرات موت تحوم فوقي وتُشتت سمعي ونظري وأفكاري.
رغم ذلك أفكر أن أحوم بذاكرتي كالطائرة التي تستبيح سمائنا في قطاع غزة كل ثانية، وتعبرها دون إذن، وتُصور وتدقق في أهداف وضعتها لنفسها، رغم أننا المالكون لأهدافها، أن أزعج ذاكرتي برغم أني مليكتها ولي الحق كله بعبور ثناياها، وأطرق بقوة وعنف على بابها، قبل إوصاده بإحكام ، على ذكريات عشتها، بإحكام من قدر غَّير مسار حياتي وأشحبها وأفقرها، من ذكريات مثلها كانت تُطيرني سعادة.
أحوم وأحوم، وأبعثرها وأنثرها، وأتنشق كل ذكرى سعيدة عشتها، ذكريات الحب بلا تشتت، ذكريات الارتواء من ينبوع لمة العائلة دون خوف ونزوح، وذكريات النوم بلا يقظة فزع، الكتابة عن تفاصيل يومي دون دموع ودماء وهدم ونسف وحرق وموت.
ينقبض قلبي وأقف عند ذكرى جذبتني كتبت فيها قبل السابع من أكتوبر وحربه السوداء:” لا موت لتفاصيل تُحيي روحي”، ضحكت دون توقف، ودوت الآه مني في غرفة ذكرياتي، وأصحتها كلها وصداها الساخر وصلني:” نحن كنا تفاصيلك، والآن يصيبنا الخمول والذبول والشحوب وصفار الموت يذيبنا واحدة تلو الأخرى، كانت مجرد كلمات ووعد كاذب منك ألا نموت، وانتهى وعدك بدفننا هنا، وتحولت كل لحظة فينا إلى سراب، سراب تعيشينه فوق قبرنا الآن، حتى أنه تم استئصاله من فكرك وبصعوبة بالغة تحاولين التشبث برذاذ منه.
خرجت مثقلة بالحسرة،من قبر ذكرياتي التي كنت أظنها ستمدني بمداد حياة يقويني في سيري تحت سماء غربان الموت، التي تلاحقني في كل مكان، حتى لو لم تحددني هدفا!.
ضحكت بجنون، هل أضم هذا اليوم إلى قبر ذكرياتي، أأحتفل بذكرى شعوري الذي ينتابني في هذه اللحظة؟، شعور قاتم ، حزين، ضبابي، يقبض قلبي، يميت دمعتي، حتى الآه تعصرني، تعصرني كلي، صعب جدا هذا اليقين، اليقين بموت ذكرياتي، حتى الذكريات بات صداها يعاتبني بأني لم أحييها، وأمَتها وأوصدت باب قبرها عليها.
وجع من كل ناحية، كيف أحيي ذكرياتي وأنا أموت كل ثانية في حاضري، يا ربنا ، تسبقني الدمعة الميتة في أحداقها وأنا أكتب، وكل شيء يعصرني، يذيبني.
بماذا أحتفل إن قررت الاحتفال؟ هل بموت مشاعري الآن تجاه ذكرياتي المقبورة؟
تواريخ تاهت، رائحة أماكن غبرها الموت وأعفنها، صورة أيدي متشابكة مع صديقاتي، لطختها دماء الظلم ، زغاريد أخرستها صيحات فراق، ونواح على المفقودين، أكلات تناثرت، وصارت أطباقنا فارغة، ذكرى ملابس كانت هناك في خزانتي، بقيت هناك، وبقيت أتذكر بصعوبة ملمسها الذي كان يُريح جسدي، ليس كما الآن تعذبني كل قطعة مهترئة، وتحك روحي، لا أبالغ.
سأحتفل بماذا؟؟ بماذا؟ سأحتفل بالسراب، بالفراغ.
اها، سأحتفل بتاريخ سأنقشه على قبر ذكرياتي السابقة، يضم واقعي إليه، يضم تفاصيل ميتة في حياتي الحاضرة، يضم سماعة هاتفي المقطعة وألوح بها في يدي وأنا أكتب الآن، وتصيب أذني بطنات مزعجة، كلما سمعت خبر انتشال الجثث، ونسف البيوت، وتناثر الذكريات مُرَمدة بنيران صواريخ غربان الموت، كخبر موت ذكرياتي اليوم التي عُدت من زيارتها في قبرها.
ماتت ذكرياتي ويموت حاضري ببطء.