أمد/
على هامش مشاركتي في حفل إشهار وتوقيع كتاب “ندوات أسرى يكتبون”/ رابطة الكتاب الأردنيين بعمان زرت دار الرعاة للقاء عمل مع صاحبها نقولا عقل فزوّدني بنسخة من ديوان “رأيت يافا مرّتين” لصديقي الشاعر المغترب د. سامي عوض الله (البيتجالي) (شعر، 159 صفحة، لوحة الغلاف بريشة المؤلف، إصدار الرعاة للدراسات والنشر وجسور ثقافية للنشر والتوزيع، رام الله/ عمان).
جاء في العنوان الداخلي “رأيتُ يافا مرّتين: ذكريات ورُؤى”، وحين أنهيت قراءة المجموعة الشعريّة وجدت الجواب لتساؤلي حول الاختلاف بين العنوانَين، بين ذكريات لتاريخ مضى ورُؤى لحاضر ومستقبل ملؤه الأمل والحياة.
أخذني العنوان إلى يافا “أم الغريب”؛ فكانت وِجهة كل غريب وفد فلسطين ولم يجد عملاً أو مكاناً للمبيت، فكيف لها ألّا تكون قِبلة أبنائها في الشتات والمنافي!
واكبت في حينه صدور ديوان “خلل طفيف في السفرجل” لصديقي الأسير أحمد عارضة وحلمه أن يكون حفل الإشهار في يافا الحبيبة. وقال لي ذات لقاء: “فرحتي لن تكتمل إلّا حين أعود مع الديوان ويكون الإشهار في يافا” وفعلاً التقينا لنحقّق له أمنيته وحلمه ونطلق ديوانه هناك في يافا. وشعرت حينها كأنّي به يحلّق في فضاء مقهى يافا، يطلّ علينا بابتسامته الخجولة، يسترِق النظر والسمع من الأعالي، رغم القضبان.
أحمد هو المهاجر والمُهجَّر والمغامرُ والشهيد، هو في وطنه مهاجر، شبح بلا جسد، ورغم ذلك تبقى يافا-أم الغريب المبتدأ والخبر؛ وتبقى الحكاية:
“شامٌ وتموزُ الحكايةِ
يبحثُ عن عروسٍ يعربية
مهرُها سهلٌ تُعَبِئُهُ الشقائقُ والزنابقُ والدماء”
لوحة الغلاف تصوّر وترسم المجموعة الشعرية بكاملها وحكاية ما وراء القصائد؛ صورة والده على شرفة العمر وعيناه تحلمان بيافا وأيّام مضت ويتمنى أن تعود ولكن هيهات وبالمقابل ابنته الحالمة بيافا وبرتقالها وترى حلم جدّها/ حلمها يتحقّق وتراه وتلمسه حقيقة، وجاء الإهداء ليقولها بصريح العبارة: “إلى أبي الذي مات وهو يحلم وابنتي التي رأت الحلم”.
زارني د. سامي في حيفا برفقة ابنته وصديقتها، وفي لقاء على شرفة الحريّة، ومن نظرات ابنته ودهشتها حين رأت حيفا وبحرها، ويافا كانت حاضرة، شبّكتُ بينه وبين صديقي نقولا عقل وكم كنت سعيداً حين رأيت النسخة الورقيّة وبدأت بقراءتها هناك.
وجدت القصائد تعج بالغربة والاغتراب، وبالحنين والأمل، والإصرار على العودة يوماً ما.
ابنته ولِدت هناك، فيقول لها؛
“كبرتُ في الشتات
تعبت من دوامة الحنين والشجن…
أريد أن أعود
وابنتي لم تعرف الوطن
إلا بما كتبت عنه
صوراً… و… ذكريات”.
يعيش شاعرنا غريبا، ويافا حاضرة ببرتقالها في غربته، يحمل وصيّة والده؛
“وسبعون عاماً من الاحتلال
تُطلُّ على بحر يافا
وكنتُ أحرسها
وكنت أنا اللصّ
عاشق البرتقال
أقشر حبّةً… حبّة
……
سقطت من يده
برتقالة!
فأمسكها بعصاه،
وتمتم:
“آه يا برتقالة يافا… ومات!”
ويبقى عبق التاريخ والذاكرة يلاحق الأبناء في المهجر والشتات والمنافي كما جاء في قصيدة “هجران”:
“ماذا تبقى لنا
في الدار من صورٍ؟
ومنذ مات أبي
ماتت بقاياها
لا أنس يشربُ
عند الصبحِ قهوتها
ولا القرآنُ يتلى
إذا ما الليل غشّاها
تفيق في الليل
أرواحٌ تؤانسها
ورُبَّ ميتٍ
من التذكار أحياها
هل خنتُ حلمي
إذا ما عدت أذكرها
وهل نسيت نفسي
وذاكرتي فأنساها؟
وهل ستخفض لي
جناح الذُّل من عزٍّ
وها ستغسلُ ذنبي
حين ألقاها؟” (ص.35-36)
ونجدها بغزارة في قصيدة “ما بقيت ذكرياتي”
“ولكنني أشهدُ انني
لم أمت بعد،
وما زلت أذكرُ
هذا المكان وأمسي
(يخاف الغزاة من الذكريات)
وما بقيت ذكرياتي
سيبقى لهذا الصراع بقية…” (ص. 60)
وفي قصائد “الباب”، “حالة اختناق”، “حلم…”، “مهاجر”، “الرائي” وغيرها.
يستحضر شاعرنا المكان، فيعيشه رغم البعد والغربة، ابتداءً بكنيته (البيتجالي، كما يظهر على الغلاف الداخلي)، جبل الكرمل، بحر يافا، سوق عكا القديمة وسورها، مرج ابن عامر، قرية “راس أبو عمار” (قرية مهجّرة من قرى عرقوب- قضاء القدس، ص. 26)، وادي الصرار (وليس السرار، هو موطن دليلة حيث أغوي شمشون ليكشف سرّ قوته ليأسره فلستيون ويُعمى ويُسجن، ص. 27)، القدس، بيت لحم، عين الحَنيّة (وليس وادي الحنيّة، كبرى عيون المياه وأقدمها في قرية الولج، غرب بيت لحم وجنوب غرب القدس، ص. 52)، “جبل الأفريست” في رأس بيت جالا (ص. 58)، اشدود/ أسدود، الخليل، الجليل، ميناء غزّة القديم، عين سلوان، جبل الزيتون، و… فلسطين.
لعنة الحاجز تلاحقه، كما تلاحق كلّ رضيع فلسطين، والحواجز البغيضة على أنواعها، الثابت والطيّار، “الأمني” والوهمي، تحول دون المرور والعبور بين بلدة وأخرى، ولا يفيد جواز أجنبيّ ولا حتّى أمريكيّ، وجبروت المحتلّ يخيّم في الفضاء، كما جاء في قصيدة “حاجزان” (ص. 85):
“صاحت مجنّدةٌ
يزيّن خصرها “عوزي”:
(تعود كما أتيت.)
لم تعترف…
لا في جوازي الأجنبيِّ
-جواز أمريكا-…
ولا كِبري…
ولا الله الذي في القدس ينتظرُ!”
ليافا وسحرها حضور طاغٍ عبر صفحات المجموعة، بطولها وعرضها، وليس صدفة تسميتها “رأيتُ يافا مرّتين”:
“مرّت أصابعُ طفلها
في ثلج روحي
فاستعدت الدفء في أبديتي
ورجعت من حلمي
إلى موتي رضيّا
هل كنتُ قبل ولادتي
بالأمس حيّا
وهل سأعود من موتي غداً
حرّاً من الذكرى… ومنسيّا؟” (ص. 115)
ويظلّ كل من حمل القلم لينظم الشعر يتظلّل بدرويش وريتاه وشبح محمود يلاحقه وراء كلّ حرف.
وأخيراً؛ يبقى الأمل عالقاً محلّقاً رغم البعد والغربة؛
“إلى متى أطير
فوق الماء واليباسِ؟
إلى متى يقتلني الحنين
في ابتعادي؟
أطير بين عالمين:
عالمٌ أسكنه لأني الغريب
وعالمٌ يسكنني…لأنه بلادي!”