أمد/
يساهم الفصل الرابع من رائعة السنوار “الشوك والقرنفل” في تحليل جزء كبير من شخصية الرجل الذي يبدو أنه بات مهووساً بقصص الخيانة وعالم الجوسسة، فيروي قصة جارهم أبو يوسف الذي خطط لعملية فدائية برفقة شخص آخر، فيما قامت القوات الإسرائيلية بقتلهما من الخلف أثناء تنفيذ العملية ما يوحي بوجود خيانة داخل صفوف المقاومة بحسب ما سرد السنوار في روايته.
يقول السنوار، “في ذلك اليوم لم تفرض قوات الاحتلال حظر التجول على المخيم، خرج المخيم عن بكرة أبيه رجاله ونساءه وكباره وصغاره من بيوتهم وغالبيتهم كانوا يبكون على استشهاد أبي يوسف. عصر ذلك اليوم أخذني جدي معه إلى زاوية الدار حيث يجتمع عدد من رجال وشيوخ الحارة يتحدثون ويتسلون ويناقشون أحداث الساعة وآخر التطورات والجميع كانوا مندهشين مما حدث، أحد الرجال قال، الجماعة أخذوا على حين غفلة، وتساءل آخر، كيف كان ذلك؟ فأجابه صاحبه، إطلاق النار كان من خلف ظهورهم، يعني من عكس الجهة التي كانوا ينتظرون منها العدو، فتساءل ثالث، ماذا تقول يا رجل؟، فأجابه، زي ما سمعت، فتساءل جدي، هل يعني هذا أنه غدر وخيانة؟”.
ويجيب السنوار على تساءل جده، “بعد عدة أيام وبينما كنا نلعب بالحارة وإذا بعدد من الفدائيين الملثمين المسلحين يملأون المكان وكل واحد منهم يأخذ موقعه على رأس الأزقة، ثم جاء أبو حاتم وهو يجر أحد رجال المخيم من أذنه وهو في أذل شكل وأخزى صورة وكانت بيد أبي حاتم عصا خيزران وبندقية معلقة على كتفه. سد صمت مطبق قطعه صوت أبي حاتم الجهوري قائلاً، يا ناس كلكم بتعرفوا أبو يوسف قائد قوات التحرير الشعبية في المخيم وبتعرفوا وسمعتوا عن بطولاته وعملياته اللي رفعت روسنا كلنا واللي أدبت المحتلين وكلكم بتعرفوا هذا الخسيس اللي اكتشفنا إنه جاسوس مع اليهود وأنه هو اللي كان بيراقب أبو يوسف وبلغ عنه جيش اليهود”.
ويكمل السنوار نهاية ذلك المشهد الدرامي الذي تفوق على أجزاء مسلسل باب الحارة مجتمعة بالقول، “قال أبو حاتم يا ناس هدول اليهود احتلوا أرضنا وطردونا من بلادنا وقتلوا رجالنا وهتكوا أعراضنا وفينا ناس مستعدين يتعاونوا معهم ضد الفدائيين اللي حملوا أرواحهم على أيديهم، إيش جزاء الخاين اللي بيشتغل مع اليهود يا ناس؟ فارتفع صوت الناس الموت.. الموت، فتناول أبو حاتم بندقيته من كتفه ووجهها نحو رأس ذلك الجاسوس، وضعت أمي يدها على عيني فحاولت إزاحتها لأرى ما يحدث، ولكن سمعت صوت طلقات، وهتف الناس الموت للخائنين.. الموت للعميل”.
ويمكننا القول أنه وعلى مدار ثلاثة أجزاء سابقة من تحليل رواية السنوار والآن نمضي إلى الجزء الرابع، ذكر الكاتب قصصاً حول مسألة الخيانة حوالي ثلاثة مرات صاغها بدقة وإتقان حتى باتت تعطي رونقاً لعقلية الرجل الذي يبدو أنه مصاب باضطراب السلوك المعادي للمجتمع، ومن أعراض هذا الاضطراب العداء والعنف وعدم التعاطف مع الآخرين وقلة الندم على إيذاء الآخرين والمخاطرة غير الضرورية أو السلوك الخطير مع عدم مراعاة سلامة النفس أو الآخرين، وكل هذه السلوكيات رآها الغزيون ماثلة أمام أعينهم على مدار عشرة أشهر من الحرب الطاحنة في قطاع غزة، فلا شفقة ولا رحمة ولا إنسانية ولا حتى سلوك واحد يمكن أن يعطي أملاً بوجود وميض من الأمل…
وإذا قمنا بتحليل أعمق لتلك الشخصية وأسقطنا عليها ذلك الاضطراب فمن الطبيعي للأشخاص المصابين أن يرتكبوا أفعالاً غير قانونية أو خادعة أو استغلالية أو طائشة من أجل المنفعة أو المتعة الشخصية دون ندم، كما يعمل المصابون بذلك الاضطراب على تبرير سلوكياتهم من خلال الكثير من الحيل، وإذا قلنا أن كاتبنا العملاق وزمرته يستخدمون الدين بشكل لصيق بالبندقية لإيجاد مخرج ومسوغ أمام سكان القطاع لأفعالهم وحثهم على الصبر بشكل لا يقبله عقل أو منطق أو دين، خاصة حين نسرد خطأ واحداً فقط من أخطائهم التي استخدموا فيها الدين الإسلامي حيث شبهوا حربهم الحالية بغزوة الخندق لكنهم لم يشرحوا للمجتمع بأن الهدف الأساسي من حفر الخندق في ذلك الوقت هو حماية النساء والأطفال داخل المدينة من هجمات الغزاة فالخندق بالقطع لم يكن هدفه إخفاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما يشير التحليل النفسي الأعمق بأن المصاب بذلك الاضطراب لا يكترث بالآثار الضارة لأفعاله على الآخرين كما يتجاهل بشكل قاسٍ ومتعمد حقوق ومشاعر الآخرين.
وبإسقاط هذا الاضطراب مع سلوكيات كاتب الرواية يتضح أنه يضاف إلى سلسلة الأمراض النفسية التي نجمت عن نشئة غير سوية في بيئة مشوهة، أضف إلى ذلك سنوات السجن الكثيرة التي قضت على أي أمل بالعلاج أو حتى التهيئة مجدداً للاندماج بالمجتمع بطريقة تضمن عدم الأذى، لكن الأوان قد فات فقد تم تشخيص الاضطراب بعد أن قلعت الفأس الرأس.. وللحديث بقية