أمد/
لم يعد للشارع المؤدي إلى أهلي روحآ، ولم تعد ناصيته تضحك وبشوشة، أسمع أنينه الصامت يعصره كلما أخذتني خطواتي إلى هناك.
كنت أسير فرِحة به، وكان قلبي يطير بهجة حين أصله.
كان يجلس على ناصية الشارع، ابتسامته تغطي وجهه، ووجنتيه بلون التفاح ،صغيرا حجمه، ويلف وسطه بحقيبة صغيرة، يضع نقوده بها، لا يتعدى مرحلة الإبتدائية في مراحل دراسته، لا أعرف عنه سوى اسمه وبشاشة وجهه، وصوته الهادئ، ونشاطه الذي يجذب كل من يراه.
(( مُعاذ )).
مُعاذ كنت أعتبره عنوانا لشارع أهلي، لا تفوتني رؤيته كلما زرت أبي وأمي، وكنت أُلوح له من بعيد “، بقطعة النقود”، ثمن بطاقة الإنترنت، فيهرول نحوي دون ملل من تكرار طلبي منه، وكنت في المقابل أشتري من بسطته المتواضعة حتى أرى ابتسامته تملأ وجهه،فيسعدني.
في ذلك اليوم المشؤوم قبل أسبوعين من اليوم، كنت أنهيت صلاتي، وقبل إعدادي طعام الغذاء، لف الضباب الكثيف المنطقة، بعد صوت انفجار قوي، جعل صراخي يصل قبلي للمكان.
دوت صرختي مماثلة لدوي الصاروخ، وأردد وأنا أسرع بخطواتي، بأعلى صوتي دون أن أرى المكان، (( أحمد ، حبيبي أحمد، يارب أحمد، مُعاذ، مُعاذ))، أحمد ابن أخي، ومعاذ الطفل جارنا، حيث وقع الانفجار مكانهما، وبديهيا يكونا قد أصيبا، لا أعرف كيف وصلت مكان الانفجار ،وكان توقعي في محله، معاذ شهيدا، وأحمد ومحمد أولاد أخي مصابان.
الصرخات تملأ المكان، وصوته ينادي عليٌٓ، “نسرين، خذي هذا خبز أحمد ومعاذ، كانا يأكلان وقت وقوع الانفجار.
ألقيت الخبز المغمس بالدم جانبا بكل قوتي وغضبي، خفت أن أمسكه بيدي، أو حقيقة شعرت أنه شؤما، أو كان يمثل حينها بمثابة نوع من الوداع لأحمد لا قدر الله، فألقيته بغضب نال من الرجل الذي نادى عليةَّ دون أن أشعره.
كان جميعهم غارقين بالدماء، أولاد أخي، ومعاذ، ومصابين كُثر لا أعرفهم.
لحقت بهم إلى المستشفى وأدركت من نجا، ومن فارق.
بكاء، صراخ، وداع، دماء تغرق أرض المستشفى، أمهات تصرخن، آباء يضربون الجدران بأيديهم، أطباء يهرولون والإمكانيات في المستشفى لا تكفي.
كل وجوه المصابين موجودة في المكان، وغارقة بالدماء إلا وجهه .
(معااااااذ).
لم يشأ الصاروخ الذي أصاب معاذ أن يكون مع بقية المصابين في غرفة العناية المكثفة، كما كان يرافقهم بناصية الشارع مذ بداية حرب سبعة أكتوبر.
الشارع المحدد آمنا لأطفال مثلهم.
غادر معاذ الحياة على الفور مُلوحا بانتهاء الجلسة ، تاركا وراءه فراغا كبيرا في المكان وفي قلوب كل من عرفه.
وأصبحت كلما ذهبت إلى هناك ووصلت لناصية الشارع أخفض نظري، وينقبض قلبي، وأرى ابتسامة مُعاذ دون مُعاذ، ولم يعد يشتري لي بطاقة الإنترنت.
لم أكن أتصور يا مُعاذ أني سأشتري بطاقة الإنترنت لأكتب عنك اليوم.
وداعا يا ناصية شارعنا.
وداعا يا بهجة المكان.
وداعا يا صغيري معاذ.
*الطفل مُعاذ الشاعر، استشهد وهو يجلس أمام بسطة بيع صغيرة، في منطقة بطن السمين بخانيونس، منطقة حدودها آمنة.